1 وأنا جالسٌ فوق كرسيّ بني مستطيلٍ، مجزّأٍ إلى أعواد، أنتظر قدومَ قطار الترامواي الذاهبِ إلى مدينة سلا للاستراحة من ضوْضاء النهار والوجوه المألوفة الفائضة عن القيمة، إذا بطفلتين صغيرتين سوريتين جميلتين كأنهما شقيقتان تقفان أمامي وتقولان لي بكل عفوية: «الله يشافيك عمّو». كانتا تتسوّلان الرّكّاب الواقفين والجالسين الذين يتنظرونَ الترامواي، نفحتهما ما تبقّى لي من الصرف فشكرتاني ثم نطّتا إلى الطرف الآخر من السكّة مثل فراشتين أو ريشتين، كان المطر قد توقّفَ عن الهطول فبقيت الأرض مبللة ينعكس عليها ضوء المصابيح وأضواء مصابيح المحلات التجارية. وقد تساءلتُ حينها: كيف يقذف هذا المجرم، المدعوّ بشار الأسد، الجامد الوجه ب»شعبه» الطيب، الودود، إلى خارج بلده ليبقى وحده على كرسي الرئاسة إلى الأبد؟ (أعلن عن ترشّحه لولاية رئاسية أخرى)، وما هو موقف السيد خالد السفياني، رئيس ما يسمى بلجنة الدفاع عن العراقوسوريا وفلسطين؟ لماذا يصمت إلى الآن عن مجازر «البعث» الدموية؟ أكاد لا أفهم سرّ هذا التناقض الفاضح: يقيم الدنيا ولا يقعدها حول التطبيع مع إسرائيل ويصمت عن مجازر النظام السوري. أكاد لا أفهم، إذْ أنّ ما يجري في سوريا الآن ليس ثورة بالمفهوم الحقيقيّ للكلمة، بقدر ما هو انتفاضة الإخوان المسلمين ضد حافظ الأسد عبر ابنه بشار. فهؤلاء الملتحون لا ينسون مجزرة أبيه في مدينة حماه، ثم إنّ هذا المشهد الدمويّ اليوميّ، الذي يأتي على الأخضر واليابس لهو مجرّد امتداد لما يُسمّى ب»الربيع العربيّ» الذي أتى بالإسلاميّين إلى الحُكم، والذين حوّلوه إلى خريف قاحل، أمامنا ليبيا ما بعد القذافي، أين الدولة؟ لا سيء سوى الفوضى العارمة وتصفية الحسابات وسيطرة عصابات الميليشيات، كذلك اليمن، أما العراق فثمّة حربٌ دينيّة بين السنة والشيعة، هي حرب طائفية إذن ملفوفة بالسياسة الطائفية، كذلك لبنان أيضا وقد عاد إليه العنْف من جديد بسبب الأزْمة السورية وتَحالف ما يسمى بحزب الله مع نظام بشار الدّموي! 2 هي ذي سوريا الأب والابن، كلاهما من طينةٍ واحدةٍ مغروسةٍ في تربة القمع السياسيّ والجسديّ تحت راية «العروبة» العشائريّة. كان حزب «البعث» خيمة «القومية العربية» و»الأمة العربية» من المحيط إلى الخليج شعارها: «أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، وهو شعار شوفينيّ يلغي أقليّات العالم العربيّ وإثنياته. كان هذا الشعار رائجا في أدبيات الحزب في الخمسينيات والستينيات. ومن سوريا إلى العراق كبر هذا الشعار وتضخّم مثل كرة الثلج عن طريق الأتباع والمريدين والانتهازيين الذين تبوّؤا مناصب الدولة القُطرية فكبرت معها دولة المخابرات الرهيبة. هكذا كثرت الانقلابات والانقلابات المضادّة وتحكمت دولة العسكر في العالم العربي ابتداء من مصر إلى الجزائر، فهل قدر لهذا العالم العربي، الممزّق دينيا وطائفيا أن يحكمه الطغاة العسكر؟ آلاف اللاجئين السوريين يتامى في لبنانوالعراق والأردن والجزائر التي رمتْ بمعاناتهم إلى المغرب مثل الأفارقة الحالمين بأوربا، وقد بدا لي، في أكثر من مرّة، أن بشار الأسد حريص على «فصاحته» اللغوية في بعض المؤتمرات العربية، هو القادم من طب العيون إلى السلطة الرئاسية بعد وفاة أخيه في حادثة سيْر، ذلك أن من شابه أباه فما ظلم، كما يقول المثل. 3 خارج سوريا البعث الحاكم بأمره، منذ مؤسسه ميشيل عفلق إلى الأسد الصغير، ثمة سوريا الثقافة والفن والفكر والإبداع الموسيقيّ. لقد كانت مجلة «الآداب» البيروتية تحتضن معظم الكتّاب والشعراء السوريين الذين أغنوا الثقافة العربية بكتاباتهم القيّمة. من يتذكّر كلا من علي كنعان، محمد عمران، عبد السلام العجيلي، جورج سالم، وليد إخلاصي، شوقي بغدادي، ألبرت حوراني الخ. هل ننسى جرأة صادق جلال العظم في نقده الطابو الديني؟ ثمة أسماء أخرى كثيرة فاعلة في المسرح والسينما، مثل الرّاحل عمر أميرالايْ (صاحب الشريط الوثائقيّ القصير «الحياة في قرية سورية»، والذي أخرج فيلما وثائقيّا عن الحرب الطائفيّة في لبنان. لقد كان فنّانا متميّزا بجرأته ومقموعا). توقف الترامواي وصعدت إلى إحدى عرباته، كان شبه فارغ من الرّكّاب، وعندما نزلت منه استقللتُ سيارة أجرة صغيرة للذهاب إلى البيت، كانت المحطة النهائية جدّ مظلمة، وعندما وصلت أشعلت جهاز الراديو كاسيط لأستمع إلى الموسيقى، الراحل صبري مدلل الذي شاهدته في قصر التازي بالرباط وهو يشدو بأغانٍ دينية صوفية (الفضل في استقدامه يعود إلى عبد الواحد عوزري، وذلك ضمن مهرجان الرباط). كان صوته شجيّا هادئا، معبّرا عن الوحدانية الرّوحية للإنسان أمام خالقه. ساعتها تراءت لي الطفلتان السوريتان الجميلتان، وهما تنطّان فوق السكّة الحديدية. فهل لبشّار ضمير إنسانيّ ليعي ما يفعله ب»شعبه» المشتّت عبر الأقطار العربية؟ ثمّ هل هو عربيّ؟ لا أنسى وأنا أجالس في إحدى مقاهي المعاريف، مشهد الطفل السوريّ المراهق وهو يقف أمامنا حاملا جواز سفره طالبا صدقة. فكيف يحلو لبشار الأسد أن ينام قرير العين كلّ ليلة؟ ليلتها تذكّرتُ أيامي الثلاثة التي قضيتُها في «دمشق الفيْحاء» بفندق غرناطة قادما إليها من بغداد أيام حسن البكر. استرجعت ذكرياتي الجميلة. في منطقة «الصالحية»، وفي مقهى «لانطيرنا»، ومكتبة الخوري وزيارتي إلى جريدة «الثورة»، واحتسائي فنجان قهوة رفقة الشاعر ممدوح عدوان.