كان ذنبهم الوحيد هو «الامتثال للأمر العسكري»، رغم أنهم امتلؤوا، عن آخرهم، بواجب الطاعة.. اقتيدوا إلى مغامرة لم يدركوا خطوطها العريضة إلا بعد فوات الأوان.. قيل لهم إنهم سيشاركون في مناورة عسكرية في بنسليمان، فإذا بهم يتحولون إلى حطب نيران «محاولة قلب النظام بالقوة والسلاح».. ولم يكتشفوا الأمر إلا بعد مقتل الكولونيل عبابو، وبعد أن أعطيت لهم الأوامر بإطلاق النار على رفاقهم الفارين من ساحة العمليات، حيث أجج ذلك في قلوبهم بعض الشك المغلف بهاجس الأوامر العسكرية التي يجب أن تنفذ بدون تردد. حين اكتشفوا أنهم بصدد المشاركة غير الواعية في محاولة انقلابية ألقوا أسلحتهم وذخيرتهم والواقيات أمام مقر الإذاعة الوطنية ورفعوا أيديهم مستسلمين. وحسب ما تقوله بعض الشهادات، فإن «المحاولة الانقلابية» كانت تقوم أساسا على خطة تقتضي أن تقوم فرقة الإعدام بعملها بدقة، وكانت لائحة «القتلى» لا تتعدى 8 شخصيات، من بينهم الملك وولي العهد. لم تكن محاولة انقلاب الصخيرات مجرد قرار طارئ تضخم في رأس ضابط ريفي طموح (امحمد اعبابو)، بل كان ضربة طاولة اشتركت فيها مجموعة من نخبة الجيش، وعلى رأسهم المذبوح الذي لم يكن فردا مفردا في المخطط؛ فداخل دائرة الجنرالات الضيقة، كان هناك أيضا الجنرال حمو والجنرال أمحراش والجنرال حبيبي ثم الجنرال بوكرين.. والكل كان يذهب إلى فاس أو إلى «كابونيكرو» تحت جنح الظلام للإعداد للعملية. انتظر الانقلابيون حلول يوليوز ، ليجتمعوا في إحدى مدن الشمال، ويقوموا بوضع تفاصيل خطة الهجوم على القصر الملكي بالصخيرات، يوم السبت 10 يوليوز 1971، حيث رسموا مهام «الكومندوهات» وعينوا قوادها، وأثبتوا «مجلس الثورة»، وقسموا الرجال (1400 جندي أغلبهم لا يعلم أي شيء عن الانقلاب) إلى مجموعتين، الأولى بقيادة مدير مدرسة اهرمومو، والثانية بقيادة شقيقه الذي كان مرشحا- حسب اعترافاته- لتولي القيادة العامة للجيش، على أن تتولى القوات المهاجمة، بعد ذلك الاستيلاء على هيئة الأركان العامة، والسيطرة على مقرات وزارة الداخلية والإذاعة والتلفزة. كان التعليمات واضحة ودقيقة: - الحرص على الوصول إلى البوابة الغربية لقصر الصخيرات على الساعة الواحدة زوالا (أي قبل الشروع في وجبة الغذاء) - الحرص على عدم إطلاق النار. - الشروع بمجرد تطويق القصر في اعتقال كافة الحاضرين، مع الاستعانة بمكبرات الصوت لدعوة الجميع إلى رفع الأيدي عاليا والاستسلام بدون قيد أو شرط - مباشرة عملية فرز الأشخاص المعتقلين، لتقسيمهم إلى ثلاثة مجموعات: أ- المجموعة الأولى (التي ينبغي إعدامها فورا: الملك الحسن الثاني، ولي العهد، الأمير مولاي عبد الله، الجنرال الغرباوي، الكولونيل أحمد الدليمي، إدريس السلاوي مدير الديوان الملكي، الجنرال البوهالي الماجور العام للقوات المسلحة الملكية). ب- المجموعة الثانية: تتألف من جميع أعضاء الحكومة والجنرالات الحاضرين، وهؤلاء يتم سوقهم إلى هيئة الأركان العامة بالرباط لتحديد مصيرهم لاحقا. ج - المجموعة الثالثة: تتألف من باقي المدعوين، مغاربة وأجانب، والذين سيجري الإفراج عنهم بعد تنفيذ ما سبق ذكره. غير أن سيناريو الهجوم لم يكن بمثل تلك الدقة التي وضعها الذين خططوا له؛ فتردد الجنرال المذبوح وتوتر الكولونيل اعبابو (بسبب فقدانه الثقة في شريكه) حولوا الخطة إلى مجزرة لا تميز بين جنرال ولابين خادم أو سائق! كانت طلقات الرصاص تأتي من كل اتجاه، مما أسقط الكثير من الضحايا من مختلف الشرائح (عسكريون ومدنيون، جنرالات، أطباء وموظفون سامون وفنانون وخدم وأناس بسطاء). وحين انتفض المذبوح على ما وقع، أمر اعبابو أحد رجاله بقتله بدم باردة، ثم اتجه باحثا عن الكولونيل الشلواطي لتكليفه بقيادة الحركة الانقلابية من خلال إقناع باقي الجنرالات بالانضمام إليها.. وهو ماسيباشره فعلا لدى التحاقه بالقيادة العامة للجيش، وكل من أظهر تبرما يكون مصيره الموت في الحال، والطامة أن الجنود (1400) جندي وضابط كان يطلقون النيران وهم يصرخون «عاش الملك!»، وكأنهم كانوا يدافعون عن الملك من اعتداء انقلابي يقوم به متمردون آخرون! ولم يتبين هؤلاء الأمر، وخاصة الذين هاجموا «القيادة العامة» (حوالي 200 جندي)، إلا بعد سقوط اعبابو برصاص رجال الجنرال البوهالي الذي خر هو الآخر صريعا في تلك المواجهة، حيث استسلموا ليلا بالقرب من الإذاعة، لكن إطلاق النار عليهم بعد تسليم أسلحتهم سيؤدي إلى مقتل حوالي 113 تلميذا منهم. أما باقي «الانقلابيين» الأحياء، ففروا بجلدهم بحثا عن المخابئ، فتخلص بعضهم من سلاحه وملابسه العسكرية بينما نزل البعض الأخر إلى الشارع، لكنهم تعرضوا جميعا للاعتقال واقتيدوا نحو ثكنة مولاي اسماعيل بالرباط حيث تعرضوا هناك لانتهاكات فظيعة من ضرب وتعذيب لمدة أسبوع، بعدها تم ترحيلهم لأحد المعتقلات السرية بتمارة الذي قضوا به أزيد من 9 أشهر إلى أن تمت إحالتهم على المحكمة العسكرية بالقنيطرة التي تبين لها بوضوح أنهم أبرياء وصدر الحكم ببراءتهم نهاية مارس 1972. يقول محمد متقي الله المنسق الوطني لمجموعة أهرمومو في مقال نشرته أسبوعية «الوطن الآن»: «لما نطق رئيس المحكمة العسكرية الدائمة للقوات المسلحة الملكية بالقنيطرة، في 29 فبراير 1972، ببراءتنا من التهم التي وجهت لنا جميعا من ضباط وضباط الصف وطلبة من «ض. ص» وإدانة الضباط وضباط الصف رغم عدم علم البعض جراء ما حدث يوم السبت 10 يوليوز 1971 بالصخيرات، يوم احتفال الراحل الحسن الثاني بعيد شبابه.. يوم ليس كباقي الأيام في تاريخ المغرب، اعتبرته يوم القارعة بالنسبة لنا.. يوم لازمنا كالظلم طيلة حياتنا بكل تفاصيله وأحداثه.. إنه يوم «أرْوناني» بامتياز، شدة الحر والهم ورائحة الرصاص والدم والجلبة والصياح التي عمت أرجاء القصر.. كيف يمكننا أن نتخلص من هذا الكابوس الذي لا يغادرنا، ولو لحظة من عمرنا؟ وبالخصوص لما نلتقي ببعضنا البعض في بعض المناسبات، لا ينصب حديثنا إلا عنه.. البراءة التي صدرت في حقنا لم تعمر طويلا، أظن بأنها ولدت خديجة بالنسبة للبعض -براءة تبرأ منها الشيطان وليست كالتي ورد ذكرها في القرآن، ولا صلة لها بما يطبق في حقها في جميع الأوطان.. براءة أغرقتنا في محيط بدون شطآن، وقليل منا من استطاع الرسو في بر الأمان، أما البعض فقد أصيب بالجنون والهديان وصار بدون هوية ولا عنوان- بعد كل المحاولات التي قمنا بها من أجل رد الاعتبار لنا والكشف عن المستور، لم نتلق أي جواب شاف لنا من أي مسؤول.. هم في واد، ونحن في السيول، وكأننا لسنا أبناء الطين، واستغربت الشياطين من ما نعاني منه في كل آن وحين، الحكرة وكل الحكرة وما لها مثيل، باحثين عن ابن البَجدة عله يكون لنا هاديا ودليلا، لكي نعثر عن من يكيل لنا كل هذا الكيل، أو نجد أناسا من ذوي الرأي الأنيق، بإمكانهم إنقاذنا من هذا الضيق.. لقد ضاقت بنا السبل، وتضاربت في حقنا الأحكام، بالرفض وعدم الاختصاص، صادرة من أناس ذاقوا نصيبهم من سنوات الجمر والرصاص، وما أن نالوا حقوقهم، وبسخاء، أصبحوا اليوم جنودا في الخفاء، بتسلطهم على بني الشرفاء، يدعون بالحكامة الأمنية والإصلاحات السجنية ومحو الأمية. العدالة الانتقامية سمتهم لكل من طالب بحقوقه المشروعة من مواطنة وكرامة وغيرها.. يريدون التستر عن الحقيقة وهي كالشمس لا تخفى في كل مكان، محاولين إنكار الحق وهو المزن الذي يحمد بكل لسان. أقول لهم بأننا على الدرب سائرون ولحقوقنا طالبون، وأننا لسنا متسولون، ولخوض المعارض مستعدون في إطار الحق والقانون، بالرغم من أنكم عنه معرضون. ولابأس هنا أن أعرض على حضراتكم بعض أسماء الضحايا هم أحياء - أموات منذ يوم القارعة، وما أدراكم ما القارعة: هشماوي بوشعيب (البيضاء)، أحمد شهران (خريبكة)، الحجوبي (تاونات)، محمد العود (مكناس)، عراشي (الخميسات)، موحى أومشيح (خنيفرة)، بوربابا، واللائحة طويلة، رحمهم الله المرحوم بوشعيب المغاري، شهيد القافلة بتاريخ 18 دجنبر 2011 أسكنهم الله فسيح جنانه.. وبالنسبة للجرحى يوم الحادث بالقصر وبالرباط: شيبوب محمد (مكناس)، اليحياوي محمد، أحمد بعلان (البيضاء)، عبيدي محمد، العاطفي محمد، بوطيب حمو، مباركي محمد، المكروني عبد السلام، هباج أحمد، العياشي بلحسن، عمر التيساني، محمد الكروج (الصويرة)، السندوري بوشعيب (البيضاء)، هموني باحو، الزوايدي العربي، أربعاء مهاية محمد السكينة (مكناس) الزيراري العربي، أحمد محمد، كاباب امحمد، ادريس الكولالي، بوعياد محمد، العلمي، بوعزة عبد القادر، غربي مصطفى، التبيبي محمد، أحمد الفجري، التومي محمد، بنسليمان، واللائحة طويلة...». والآن، وقد مضى 43 سنة على حادث الانقلاب، ما زال ملف أهرمومو، الذي تعاقب عليه مجلس حقوق الإنسان في نسخه الثلاث، من أكبر الملفات لا من حيث عدد الضحايا منهم الأموات والأحياء ومجهولي المصير والجرحى. ورغم هذه الأعوام التي تقترب ببطء من نصف قرن لم يجد هذا الملف الطريق الصحيح لفك لغزه، حيث تضاربت فيه عدة مقررات تحكيمية مرة برفض الطلب وأخري بعدم الاختصاص وخارج الآجال. أما الضحايا- يقول محمد متقي الله ل«الاتحاد الاشتراكي»- فما زالوا يتساءلون عن الجهة المختصة وعن الجهة التي تقف ضد حل هذا الملف بالضبط. أعطيت وعود في هذا الشأن بإيجاد حل لتسويته على شاكلة ملف تاكونيت ولا شيء حصل. حيث سبق للأمين العام للمجلس الوطني لحقوق الإنسان أحمد الصبار أن تعهد، في ندوة حول الإدماج الاجتماعي وتوصيات هيأة الإنصاف والمصالحة بقاعة عبد الصمد الكنفاوي بالبيضاء، نظمها فرع البيضاء للمنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف في 10 فبراير 2013، بفك ملف مجموعة أهرمومو على الطريقة التي تمت بها تسوية مجموعة تاكونيت. وقد مرت الآن سنة على هذا الوعد، ولم يتحقق شيء يذكر. ويتساءل المنسق الوطني للمجموعة: إلى متى يبقي هذا الملف حبيس الرفوف ضحاياه في الانقراض. مضيفا أن مطالبهم مشروعة ولن تكلف الدولة في شيء، وتنحصر في التالي. - رد الاعتبار لنا ولذوي المتوفين. - جبر الضرر المادي والمعنوي الناتج عن الطرد والتسريح اللارادي رغم البراءة. - إدماج أبناء الضحايا العاطلين. - تغطية صحية لمن لا يتوفر عليها مع معاش يصوت كرامة الضحايا. - الكشف عن الحقيقة فيما يخص عدد من الطلبة ض. ص الذين ظلوا مجهولي المصير حتي الآن. حيث سقط العديد منهم في الصخيرات وبالرباط بالرصاص على أيدي المدرعات والمظليين واللواء الخفيف للأمن وعددهم يناهز المئتين هذه المجموعة مازالت أحياء في عيون المصالح الإدارية في حين أن ذويهم ينتظرون المجهول منذ العاشر من يوليوز 1971 والدولة عاجزة كل العجز عن تسليم تصريح الوفيات على الأقل لفك قضايا شرعية وذلك أضعف الإيمان. - حفظ الذاكرة مع رفع الحصار المضروب علي منطقة أهرمومو بأكلمها وإعادة النظر في المدرسة العسكرية التي تغطي تقريبا 46 هكتارا، وبقيت مهجورة منذ 10 يوليوز 71. - الاعتراف الرسمي من لدن الدولة على ما طالنا من ظلم وتنكيل طيلة هذه العقود. وأكد متقي الله أن ضباط الصف ضحايا الانقلاب يريدون «تسوية الملف تسوية شاملة وعادلة من كل الجوانب حسب دعائم العدالة الانتقالية دون تغييب أي عنصر منها، وكما هو منصوص عليها حسب المواثيق الدولية في مجال حقوق الإنسان». وبخصوص التماطل الذي يعرفه ملفهم واستعصاؤه على الحل، حيث يعتبر كل من اقترب منه أن مثل الكبريت أو الديناميت، فإنه يقول: «سمعنا أن ضحايا القصر هم الذين يقفون ضد تسوية أوضاعنا، إلا أننا نقول لهم- إذا كان الأمر صحيحا- «كلنا ضحايا، والفرق بيننا هو أن متضرري مجموعة اهرمومو هم ضحايا قانون عسكري يعرفه الجميع، وهم ضحايا الانقلابيين الذين خدعوا الطلبة. وأكرر مرة أخرى لماذا يتغاضى المسؤولون عن هذا الملف؟ هل مازال بعبعا يخافونه؟» ما زالت صرخة ضحايا أهرمومو تعلو وتعلو.. وما زالوا المسؤولون عن الملف يصمون آذانهم. حيث تعاقب على سماع الصرخة كل مجالس حقوق الإنسان. لما فشلت اللجنة المستقلة، أنشئت هيأة الإنصاف والمصالحة للبت ومعالجة الملفات، وبعدها تأسس المجلس الوطني لحقوق الإنسان. ورغم أن حكومات وبرلمانات تعاقبت على الملف، فلم تتجرأ أي من هذه المؤسسات على إيجاد حل لهذا الملف. فمن يقف حجرة عثرة أمام طي هذا الملف الشائك؟