هلْ يكفي وضع وتبنّي دستور جديد لتحقيق النقلة الحقيقيّة المطلوبة؟ في هذه المقالة التي نشرها كمال الجندوبي، الناشط الحقوقيّ، عضو ورئيس عدة جمعيات لحماية حقوق الإنسان، بما في ذلك الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان منذ 2003، والذي كان قد انتُخب من قبل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي رئيسا للهيئة العليا المستقلة للانتخابات لتنظيم انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التونسي، (يومية «لوموند»، 20 يناير 2014)، يؤكّد بأنّ اعتماد دستور جديد للبلاد لا يكفي لكيْ يكونَ ضمانا للديمقراطيّة. فبعْد مُرُور ثلاث سنوات على الإطاحة بالرّئيس بنْ علي، التي مهّدت ل»الربيع العربيّ»، لازال الإسلاميّون يهدّدون عمليّة الانتقال. إنّ التونسيين هم الذينَ أطلقوا شرارة «الربيع العربي«، بعد أن قاموا بطرد بن علي من الحكْم، قبْل ثلاث سنوات. فهل هؤلاء التونسيّون اليوم، يحاولون إنقاذ هذه الحركة العظيمة، بعد الغَرق المصري، والفوضى السورية، والاضطراب الليبي، وذلك باعتمادهم أول دستور ديمقراطي « مُطهَّر» من الشريعة ؟ لن نحرم أنفسنا من التعبير عن سعادتنا بظهور دستور جديد يرسّخ وينصّ على مبادئ وقيم ضحّى في سبيلها الكثير من التونسيين، وذلك من خلال إعادة ربط الصلة بالتاريخ الإصلاحي للبلاد، الذي أفرز ظهور أول دستور في العالم العربي سنة 1861. إنه شرط ضروري ولازم لتقويض الأسس القانونية للدكتاتورية والاستبداد التي سادتْ منذ استقلال البلاد سنة 1956 . ولكنْ، هلْ يكون ذلك كافيا لحماية البلاد من ظهور أشكال جديدة من الاستبداد والحكْم الشموليّ؟ ليْس هناك ما يضمن ذلك. إذْ أنّ دستور عام 1959، وعلى الرّغم من كوْنه يحتوي على العديد من الأحكام والمقتضيات التي تحمي الحريات الفردية والجماعية، وبخاصّة الحرية النقابيّة، فإنّه يبرر هذا التخوّف. لأنّ نصّ الدستور، مهما كان جميلا، فلا يكفي وحده بأن يؤسس لربيع الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية. إن الصراع من أجل السلطة، التي تسبّب فيها، في تونس، حزب النهضة الإسلامي، الذي عمد، فوْر فوزه في الانتخابات، إلى الانحراف عن معنى وطبيعة المرحلة الثانية من الانتقال الديمقراطي التي كانت تسعى إلى التوصل إلى دستور بعد عام على انتخابات 23 أكتوبر 2011 . فقد خان هذا الحزب ذلك التفويض الذي منحه إياه الناخبون التونسيون، وأدار ظهره لثورة الحرية والكرامة، وتسبب في أزمة غير مسبوقة: سياسية، اقتصادية، اجتماعية وهوّياتية، وصلت إلى حدّ المسّ بإنجازات ومكتسبات اجتماعية ومدنية ميّزت تاريخ البلاد. إنّ اعتمادَ دستور جديد وافق عليه التونسيون بالإجماع تقريبا، هو في حدّ ذاته مكسب في غاية الأهمّيّة. ومن المؤكد أنّه سيُوظَّف، ولا شك، من طرف الائتلاف الحاكم، «الترويكا»، الذي يضمّ حزبيْن ينتميان إلى من يسار الوسط، «التكتل الديمقراطي من أجل العمل»، و»المؤتمر من أجل الجمهورية»، إضافة إلى حزب «النهضة». فكلّهم سيسْعون، خلال الأشهر التي تفصلنا عن الانْتخابات المقبلة، وبخاصّة الإسلاميّون، إلى (إعادة) بناء رأسمالها الانتخابيّ، وتعزيز سمعتها الدولية. سيكون لدينا الوقت الكافي من أجل الحكم على الدستور الجديد بعد الانتهاء من صياغته، سواء في تفاصيل موادّه وبنوده، أو في شكله العام، وكذلك في ضوء المقتضيات الانتقالية التي سيتم التنصيص عليها. لنلاحظْ بأنّ «الالتباسَ الخلاّق» للمادة الأولى من دسْتور عام 1959، الذي تمّ اعتماده في النّص الجديد، والذي ينصّ على أن «تونس دولة حرة مستقلة، ذات سيادة، الإسلام دينها، والعربية لغتها، والجمهورية نظامها»، قد أدّى إلى خلق دولة مستقلة. صحيح أنها دولة سلطوية، غير أنها أساسا دولة مدنية لأكثر من نصف قرن، وذلك بفضل تأويلٍ جعلَ الإسلامَ دين تونس وليْس دينَ دولة. والحال أنّ هناك قراءة مغرضة تجري اليوم، وبصورة ذكيّة، منذ فوزهم في انتخابات 2011، من طرف شيوخ النهضة، تجعل من الإسلام دين الدولة. ومن ثمّ، إذن، فإنّ هذا الالتباس ينطوي على احتمال تدميريّ للطابع المدني للدولة. يمكننا أن نفهم أن الكثيرين يرغبون في الحفاظ على الالتباس والغموض لكي لا يتمّ المسّ بالتحالفات الهشة والعابرة. غير أنّ المشكل هو أنّ هذا سوءَ الفهْم المتعمد يحول دون أيّ نقاش. خصوصا لأنه أضيفت مادّة تجعله غير قابل للمراجعة، اللهمّ إلاّ إذا انتظرنا ثورة أخرى (قانونية على الأقل). يمكن استخلاص ثلاثة دروس إذن: لقد أدّى النضال والمقاومة إلى نتائج هامة، على الرغم من أنّ البعض قد دفع حياته ثمنا لذلك للأسَف. وقد أخفقَ الإسلامُ السياسيُ على المستويين العقائديّ والعمليّ. وبالتالي لا يمكنُهُ في الوقت الحالي تطبيق مشروعه المتمثّل في «إعادة أسلمة» البلاد. لقد ابتعد هذا الإسلام السياسي عن شرائح واسعة من المواطنين الذين اكتشفوا بأنّ مشكلتهم ليست هي الإسلام، وإنما هو الإسلام السياسي، الذي يتنافى مع توجّه البلاد نحو الحرية والكرامة والديمقراطية، والذي ولّدت طريقة حكمه عدم الاستقرار والعنف. ويتعلق الدّرس الثاني بتراجع الإسلاميين، والذي هو تراجع تكتيكي في جوهره، ولا يعبّر بتاتا عن تنازلات ومُراجعات مبدئية تؤشّر على وجود تغيير جوهري في إيديولوجيّتهم وقناعاتهم. إنّ الاستراتيجيين الإسْلاميين براغماتيون وتكتيكيون، يتحدثون دائما بمنطق المؤامرة، ويعملون تارة على شيْطنة «أعداء الثورة»، وطوْرا على استرضائهم، ولا يفقدون الأمل أبدا. الاستراتيجيين الإسلاميين: يلعبون لعبة الدستور (في محاولة قصوى لتقويضه )، مقابلُ بقائهم في السلطة عن طريق التفاوُض منْ هنا استفادتهم من الحوار، سواء أكان محليّا (مؤّسسيا) أو في الكواليس. وتحقيقا لهذه الغاية، فإنهم يحتاجون إلى تحسين صورتهم، بعد عامين من الفوضى وسوء التدبير الكارثيّ. نعم، إنهم يدّعون بكونهم «معتدلين»، حيث يقولون بأنهم تنازلوا عن الأساسيّ عندهم: وهو غياب الشريعة في الدستور (غير أنّ الإسلام ينطوي بالضرورة على الشريعة!)، وكذا غياب وزراء إسلاميين في الحكومة، مع الحفاظ على تواجدها في المجلس الوطني التأسيسي، المالك الحقيقيّ للسلطة الحقيقية. من ثمّ يمكن أن ينام «العلمانيون» بهدوء، وأنْ يطمئنّ المراقبون والدبلوماسيون. لكنْ إلى متى؟ من هنا فإنّ الدرس الثالث يتّصل بالسياق الجيوسياسي داخل التغيّرات التكتيكية للإسلام السياسي. إنّ «الزلزال» المصريّ - كما يقول راشد الغنوشي ، رئيس حزب النهضة - قد حرم هذا الحزب من حليف كبير، هم الإخوان المسلمون، الذي اختلف معه (دون أن يقطع الصلة به)، خلال سنوات الرصاص، في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان والديمقراطية. وهكذا وافق في عام 2008 على الوثائق التي أعدت حول الحريات، وهي وثائق تهمّ حقوق المرأة ومسألة المساواة بين الجنسين، وحرية الضمير والمعتقد، وعلاقة الدين بالدولة، وتعزيز الدولة المدنية القائمة على الديمقراطية وحقوق الإنسان. لقد أخذ حزْب النهْضة العبْرة من تحالفه الأعمى: مع الإخْوان المسلمين - الذين ثار ضدهم ملايين المصريين، وأبعدهم الجيش من السلطة في انقلاب دمويّ - ومع قطر، الممول الرّسمي لمشْروع «أسْلمة الدّيمقراطية» (كذا) الذي تدفع به هذه الإمارة الغنية والرّجعية. لقد أثار ما قام به السلفيّون، وجناحهم الجهادي، كذلك ردود فعل قوية من طرف الجهات المَانحة الغربية التي خشيتْ من مخاطر الفوْضى التي يسببها الإرهاب في تونس، وتداعياتها في المنطقة المغاربيّة وخارجها، خصوصا أنّهم يتعاملون مع دولة تعيش حالة ضعف. كلّ هؤلاء الفاعلين تهمّهم، بصورة متفاوتة، الأجندة الديمقراطية في تونس. بل إن البعض ينظر بعين الريبة إلى هذا الانتقال الديمقراطي الذي من شأنه تزويد الشعوب ببعض الأفكار. إن ما يُسمى الخطاب الإسلامي المزدوج يتمّ توظيفه بصورة مزدوجة: التوافق مع «الشركاء المحليين»، وطمأنة الحكومات الغربية. بالأمس، عندما كنّا ندافع عن حقّهم في الوجود، وندين القمع الوحشي الذي كانوا هدفا له، كنا نقول: ينبغي أن نأخذهم بلسانهم. وقد أثبتت التجربة أننا يجب أيضا أن نكون حذرين من أقوالهم الغامضة. إنّ الدستور مكسب وإنجاز هامّ للغاية، غير أنه لا يحدّد وحده مجرى الأحداث ومسارها. إنّ ثقة المُواطنين في العمليّة الديمقراطيّة هو الدعامة الثالثة التي تشكّل الضامن الرئيسيّ لأيّ تغيير مستدام: الذي يتجلّى في تمسّكه بها، وتماسكه وقدرته على تحمل المشاقّ والصّعاب، وعدم الوقوع في القدرية والتمرّد. فعلى القوى الديمقراطية والسياسية والفاعلين في المجتمع المدني، أنْ يعملوا على أنْ يستعيد المواطنون الأمل.