عندما يتحدث الأصوليون من دعاة الإسلام السياسي في قضايا الاقتصاد، عندنا هنا في المغرب كما عند غيرنا في الأقطار الأخرى، ويكون عليهم أن ينزلوا من منطقة أو مربع المبادئ العامة الى البرامج وتفاصيلها، فإنهم يتحاشون في الغالب ، وكأنه القصد المقصود، الاشارة الى أية مرجعية فكرية أو قواعد يتأسس عليها القول والخطاب ، بما قد يجعلك تتعرف من خلالها وأنت تجادلهم ، كما هو مطلوب منهجيا في السجال المجدي والمؤدب ،على نوعية الأسس التي يتخذون على ضوئها المواقف أو يصوغون بناء عليها إعلانات النوايا . والأمر لا يختلف - بل يزيد في ما يظهر - حينما يهم أصوليين دفعتهم صناديق الاقتراع ومصادفات الربيع العربي الى موقع الحكم وتدبير الشأن العام، حيث المفروض في هذه الحالة، حالة الحكم، أن تكشف البرامج المعلنة والسياسات المطبقة ، بوضوح كامل ، لا فقط عن محتوياتها التقنية الإجرائية ، بل أيضا ، وبدرجة أولية، عن المعين الذي منه تمتح قيمها الموجهة . ومرة أخرى، ورفعا لكل لبس ، فإننا نتحدث هنا عن النسق المعياري المحدد مباشرة للاختيارات والسياسات وليس عن المبادئ السامية التي يقبلها الجميع، والتي لا تثير أي مشكل عند النطق بها من الأفواه عامة ومجردة . عبثا تحاول أن تعثر على أثر لتوضيح يشفي الغليل على هذا الصعيد : هل هم مثلا من دعاة الاقتصاد الموجه وإعادة التوزيع؟ هل هم ليبراليون، أم هم نيو ليبراليين ؟ هل يؤمنون بتدخل الدولة وضمن أية حدود؟ هل هم من أنصار اقتصاد السوق بدون كوابح ولا ضوابط أم هم كينزيون بالصفة وإن لم يكونوا بالمعرفة ؟ هل هم مع الرأسمال أم هم منحازون للعمال ، هل هم مع الطبقات الوسطى أم مع الشرائح المعدمة؟ أسئلة كثيرة تطرح نفسها عليك وأنت تحاول فك رموز الخطاب الاقتصادي لدى الأصوليين ، وهو قليل ومحدود للغاية ، على أية حال ، مقارنة مع أصناف الخطابات الاخرى . وبما أنه في حالة الفاعل السياسي بالتحديد، فإن الافعال تشهد على النوايا شهادة ظل الانسان على شكله والسياسات تعكس المرجعيات ، دائما وفي كل الظروف ، مهما حاول ذلك الفاعل السياسي ،أن يخفي هويته أو انحيازاته الحقيقية في المجال الاقتصادي الاجتماعي فإن الحقيقة سرعان ما تفرض نفسها في نهاية المطاف. في السياسة الاقتصادية /الاجتماعية ليس هناك مجال كبير للمناورة مادامت القرارات الاقتصادية المتخذة اليوم تلمس نتائجها في جيوب الناس وموازناتهم مباشرة في الغد أو بعد الغد . إن المنظور الذي أراد الحزب الحاكم عندنا أن يوجه به تدبير ملفات اقتصادية أساسية من قبيل صندوق المقاصة والتقاعد، هو نفس المنظور الذي أملى سياسة ترك الحبل على الغارب في موضوع ارتفاع الأسعار، وهو نفسه الذي سيملي غدا التقنينات التنظيمية المراد إدخالها على حق الإضراب : منظور يعكس نوعية المرجعية التي تتحكم في السياسة الاقتصادية للتيار الأصولي عموما ، عندما ينقشع غبار الانتخابات ولغط الكلام أثناءها، ويستوي القوم على الكراسي، ويبدأ تنفيذ الاختيارات الحقيقية ،التي تكون قد تخفت طويلا وراء الخطاب السخي الملقى على عواهنه أو اللغة الشعوبية القابلة لأكثر من تأويل . وعندما انقشع الغبار واستوى القوم على كراسي التسيير وفقدت اللغة الشعبوية بريقها ، ماذا اكتشفنا ؟ اكتشفنا الآتي : « ليبرالية» من نوع خاص ،ليبرالية بدون مكوناتها ingredients السياسية ، وهي بسبب ذلك ثقيلة ، مزعجة، ضاغطة على النفوس والجيوب . «ليبرالية» بدون ليبراليين، الليبراليون الأصوليون قد يزعقون أحيانا منددين بالريع أو بالفساد كما حدث مع ملفين أساسيين خلال السنتين المنصرمتين، ولكنهم يدخلون الصف بسرعة بمجرد أن يطلق» الليبراليون « الآخرون الموجودون في البلاد، صفارات الإنذار مهددين أو متوعدين . « ليبرالية « يتولى فيها نصف المنتمين تصريف ليبرالية متوحشة تتفاقم في ظلها الفوارق ، فيما يلقي فيها النصف الآخر من المنتمين بعض الصدقات على المعوزين في شكل برامج خيرية، يراد لها أن تكون استثمارا سياسيا ينفع يوم الاقتراع . لا أجد في الاستنتاج والختم تعليقا على ليبرالية الأصوليين أحسن من مقطع أغنية شهيرة للمغني الجامايكي الراحل بوب مارلي يقول فيه: «قد تدوخ بعض الناس دائماً ، وقد تدوخ كل الناس في بعض الاحيان ، ولكن يستحيل عليك أن تدوخ كل الناس دائما».