تأتي فكرة طرح الاندماج بين مكونين نقابيين أساسيين داخل قطاع الثقافة في سياق تجديد الوعي النقابي وتمكين الفاعل الاجتماعي من بلورة إستراتيجية متجددة في قراءته للشأن الثقافي الذي شكل دوما صلب النقاش القاعدي الذي طرحناه واستحضرناه في مختلف بياناتنا وأيامنا الدراسية. كما أن هذه الخطوة تأتي في إطار السعي نحو بلورة تفكير موضوعي في قراءة إشكالية معالجة قضايانا الثقافية من زواياها المتعددة ومواقعها المختلفة، نقابيا وسياسيا وعند جمهور المثقفين، بما يمليه ذلك من تجاوز المقاربة التقليدية المبنية على التفكيك الميكانيكي والتقسيم التعسفي للمسألة الثقافية في شموليتها، مما يجعلنا نؤسس عن وعي بوجود تصور مشثت بين وجهات نظر متعددة غير قادرة على فهم وإدراك الأدوار التي تلعبها الثقافة داخل المجتمع. هذا التضارب ساهمت فيه عوامل كثيرة لكل منها مقاربة معينة، فالمؤسسة الرسمية في شخص ( وزارة الثقافة ) المنوط بها القيام بعملية التأطير والتدخل وفق مجالات تخصصها وحجم إمكاناتها وترساناتها القانونية والبشرية لم تعد تستطع بعد مرور أربعة عقود على وجودها صياغة وطرح السؤال المركزي حول دورها الحقيقي وحدود اشتغالها، مع إيماننا بأنها، عمليا لا تؤطر إلا الجزء اليسير من القضايا الثقافية الوطنية. أما الجزء الأخر يدبر من طرف جهات أخرى بمفاهيم وحمولات خاصة. لابد أن نعرج وبشكل مقتضب على تلك النقاشات التي فتحتها وزارة الثقافة مع بداية التسعينيات من القرن الماضي بشراكة مع المجتمع المدني ومختلف المتدخلين كالمناظرات الوطنية حول الثقافة واللامركزية والإبداع الموسيقي والمسرح الاحترافي والتراث الوطني والنشر والكتاب والمجالس العليا للثقافة وغيرها من الأفكار التي كان من الممكن أن تشكل في تلك المرحلة بداية فتح نقاش حول ورش المسألة الثقافية، وبداية صياغة المشروع الثقافي الوطني، غيرأن تعدد وجهات النظر وتشتث المقاربات الخاصة بكل طرف، دولةً و مجتمعاً مدنياً وأحزاباً سياسيةً، أجل النقاش الفعلي حول هذا الموضوع. ولا يمكن للمرء في هذه اللحظة الفارقة في مشهدنا النقابي داخل القطاع، إلا وأن يسجل بكل اعتزاز وتقدير مجهوداتنا المتواضعة في ترسيخ فعل نقابي جاد ومسؤول، ساهم إلى حد ما في صياغة المقاربات والإرهاصات الأولى لتأطير مضامين المشروع الثقافي الوطني ، وهذا دون أن نغفل ما قام به الجيل الأول من مثقفينا في هذا الباب. إن الاحتكام إلى منطق العقل النقابي وما يستوجبه الوضع الحالي يفرض علينا كقوى تقدمية تؤمن بضرورة الدفاع عن قيمنا ومشروعنا الحداثي الديمقراطي أن نستجيب لنداء الوحدة من أجل تحصين المكتسبات والرقي بالفعل الثقافي الذي يحتاج منا كفاعلين ثقافيين ونقابيين وحزبيين بأن نعيد صياغة المشروع الثقافي الوطني بآليات متجددة ووفق مقاربات تأخذ بعين الاعتبار كل تلك التراكمات الإيجابية التي وفرها النقاش الذي طرحناه لمدة تزيد عن عقد من الزمن عن طريق الجرائد الوطنية والدولية والمجلات الثقافية والأدبية والمواقع الإليكترونية الوطنية والدولية و الأيام الدراسية من أجل ترشيد النقاش العمومي حول الراهن الثقافي وتحدياته، والتي سبق لنا أن حددناها من خلاله أربع مستويات للنقاش عرضناها في مقالات عدة تشرفت بالكتابة حولها، والتي تدور حول الركائز التالية: - ضرورة الوعي بملحاحية ملامسة ومقاربة السؤال الثقافي بالمغرب. - محورية الرقي بمعالجة الإشكالية الثقافية في المغرب دون الوقوع في أسر القراءة التقنية والتدبير الحزبي. - بناء الثقافي : الخطاب، التدبير بين القراءة والتأويل. - حركية الفعل الثقافي ومقومات بناء المجتمعات الحديثة . إن تحديث ودمقرطة المجتمع شرطان متلازمان في فك شفرة المسألة الثقافية وبدونهما يبقي أي نقاش خارج السياق، خاصة إن لم يستوعب الفعل الثقافي في تجلياته وتشكلا ته المتعددة ضمن إطار يجعل من الإنسان المواطن المتجانس مع عمقه الحضاري وهويته المتماسكة وانفتاحه على مختلف أشكال الحضارات التي عرفها المغرب القاطرة الرئيسية في التحول المجتمعي المنشود نحو الديمقراطية والتنمية الاقتصادية . ومن هذا المنطلق فإن تنزيل مضامين المشروع الثقافي الوطني يطرح نقاشا محوريا حول مراميه ومساحاته، خاصة وأنه تركيب مجتمعي لإطار ينتج سلوكات ومفاهيم تؤطر المجتمع معرفيا ولغويا وعمرانيا، كما أن التمظهرات على مستوى الأصالة والحداثة هو تحصيل حاصل لبنية المجتمع وتموجاته التاريخية وموقعه الجغرافي . وبالتالي ومن هنا يتيسر لنا كفاعلين داخل القطاع وضع المقاربات الموضوعية الكفيلة في تحديد مجال الفعل الثقافي وحدود مساحته لأنه سلوك ونمط عيش ولغة تواصل وبنية تدبير العلاقة داخل المجتمع أفقيا وعموديا. لقد غيبت مختلف التنظيمات الحزبية وغيرها من منظمات المجتمع المدني إدراج السؤال الثقافي في نقاشها العمومي وتصوراتها الاستراتيجية ومقرراتها التنظيمية والسياسية وذلك راجع بالأساس إلى ضغط الأولويات اليومية والحاجيات المجتمعية الملحة أو في بعض الأحيان انسجاما مع اختياراتها المرجعية أو الإيديولوجية ، الشيء الذي صعب عليها فك شفرة البنية المجتمعية المغربية في أنساقها الثقافية في مختلف تموجاتها المجالية وأزمنتها التاريخية في حالة التوحد والانقسام والانكماش والانغلاق والانفتاح في القرى والمداشر والجبال والسهول والهضاب والمدن والحواضر، أو عبر آليات الضغط والمراقبة وإنتاج القيم عبر وسائطها الرمزية وغير الرمزية. كل ذلك يشكل حلقة من حلقات بناء وتركيب الفعل الثقافي الذي يتفاعل بشكل جدلي مع محيطه السوسيولوجي . إن إعادة الوعي بالثقافة يقتضي إدماجها في كل المشاريع المجتمعية والمقررات التنظيمية والورقات السياسية لمختلف هيئات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات لأنها هي الفضاء الرحب الذي تنصهر فيه كل التفاعلات المجتمعية وتتبلور عبره كل التوجهات والمضامين في تشكلاتها وقدراتها على خلق الرقي والتقدم وغيرها من أنماط التواصل وآليات التدبير ( التربية - التكوين - الإعلام - العمران - المعاش - القبيلة - القرية - المدينة ) وغيرها من مظاهر الحياة في ظل منظومة ثقافية أساسها الإنسان كمصدر للفكر والإبداع. إن السياق الموضوعي لفكرة الاندماج هو تجديد للفعل النقابي وتقوية للذات الاجتماعية في مرحلة دقيقة وحساسة أصبحت تفرض على الكل نزع أنانيته والتوجه نحو المستقبل لبناء وحدة نقابية تدافع عن المواطن وقيم الحداثة والديمقراطية والتقدمية بعيدا عن منطق الانشقاق والانقسام والإقصاء الذي أفقد الجبهة اليسارية التقدمية قاعدتها الاجتماعية والثقافية وقوتها الفكرية التي أطرت ولمدة أربعة عقود من الزمن كل نقاشاتنا السياسية وتقاريرنا الإيديولوجية. وكان لنا كقوى تقدمية فاعلة داخل قطاع الثقافة وانطلاقا من قناعاتنا الراسخة وبدون مركب نقص تجاه الأخر أن نبلور هذا المجهود الوحدوي النقابي دون أن نضل حبيسي ذلك الفكر الضيق والذي لا يحسن قراءة التاريخ من زواياه المختلفة، بل يرهن نفسه بمواقف الماضي والتي لن تخدم في الوضع الحالي المشروع الثقافي الوطني، الذي يشكل القاعدة الخلفية لكل إنتقال ديمقراطي . (*) عضو اللجنة التحضيرية للمؤتمر الإندماجي أرضية المؤتمر الاندماجي تشهد الألفية الثالثة هجمة ممنهجة وشرسة على حقوق الطبقة العاملة ومكتسبات عموم الشغيلة المغربية بإعمال كافة أساليب التعسف والشطط من خلال فك الإعتصامات بالقوة ومنع الإضرابات وتشريد وطرد العمال، وتزايد الاعتقالات، استهدافا للحركة النقابية وتضييقا عليها. وبالرغم من الادعاءات التي بات البعض يروج لها بأن المغرب قد ولج دولة الحق والقانون والديمقراطية الاجتماعية، لايزال العديد من العمال بمختلف القطاعات الإنتاجية وغيرها، يتعرضون لمختلف أشكال القمع والطرد والتشريد، تجسيدا لقمة الظلم الاجتماعي واستغلال السلطة والنفوذ. وكقوى نقابية وطنية بقطاع الثقافة نحيي ونساند نضال المنظمات النقابية الجادة التي تندد وتناضل من أجل تحسين الوضع المأساوي الذي تعيشه كافة الشغيلة، ولا زالت على العهد نضالا ووفاء بحقوق الطبقة العاملة. ووعياً منهما بضرورة إعمال العقل النقابي في هذه المرحلة التي تكتسي أهمية بالغة، قطاعيا ووطنيا. الأمر الذي يتطلب السعي نحو توحيد الجهود بين مختلف القوى النقابية. وهو ما دفعنا في المكتب الوطني الموحد (ك د ش) والنقابة الديمقراطية للثقافة (ف د ش ) من أجل صياغة استراتيجية موحدة للرقي بالعمل النقابي وبلورة أفق تنظيمي واعد للدفاع عن الحقوق والمكتسبات، من أجل رد إعادة الاعتبار للعمل النقابي ليساهم بدوره في التنمية الاقتصادية والاجتماعية المنشودة؛ وبما يتوج مسارنا النضالي ومراكمتنا لتجارب ومعارك نضالية مشهودة طيلة العقود الماضية. إن الانعطاف التاريخي الذي سيطبع العمل النقابي بوزارة الثقافة سيكون بلا شك إقدامنا على تنظيم المؤتمر الاندماجي بين «الكونفدرالية الديمقراطية للشغل» و»الفيدرالية الديمقراطية للشغل بقطاع الثقافة»، والذي سيؤسس لا محالة لمفهوم جديد للنضال النقابي قائم على مبدأ وحدة العمل النقابي، ممارسةً وفكراً وتنظيماً وقيادةً، بما سيساهم في القطع مع الأشكال السائدة والمُمتهِنة لنبل النضال من أجل قيم العدالة الاجتماعية. إن مفهومنا لوحدة العمل النقابي المؤسس لاستراتيجيتنا النضالية سيمكننا من استثمار فاعلية مناضلينا وكافة أطر وموظفي الوزارة، بما يرقى من مجرد التعاطي معها باعتبارهما مجرد قوة احتجاجية، لأن يرقى بها إلى مستوى القوة الاقتراحية التي تروم مشاركة حقيقية للجميع في معالجة الملف الاجتماعي في شموليته، والرهان على الرقي بالفعل الثقافي بجانب القوى الحقيقية التي تناضل من أجل مشروع ثقافي وطني يدافع عن قيم الحداثة والديمقراطية وضداً عن رغبة البعض الذي يحاول أن يضبط سؤال الهوية على توقيت غيره. هذا الشكل الراقي من العمل النقابي الوحدوي يشكل وعيا متجددا بحمولة ومضامين فكرية تتجاوز سلبيات الماضي التي كان فيها العمل النقابي مطية لبعضهم من أجل الركوب على تشثيت الصف النضالي وإنهاكه بصراعات جانبية وضيقة، الغرض منها التحكم في آلية التدبير وتهميش كل الأفكار والأطروحات البديلة المبنية على استقلال القرار المؤسس على المطالب الحقيقية للشغيلة المغربية، بعيدا عن المزايدات والانتهازية والمصالح الشخصية والظرفية. ولعله من الإشارات القوية التي سيصيغها مشروعنا الفكري هو اعتبار خطوة الاندماج بمثابة أرضية لبناء جبهة نقابية تقدمية تعيد الاعتبار للعمل النقابي الوطني الذي سجل في بعض لحظاته التاريخية محطات ومواقف كان لها أثر إيجابي على الوضع الإجتماعي والحقوقي والديمقراطي بالمغرب. إن التنزيل السليم لمضامين الأرضية الوحدوية المشتركة للقراءة النقابية للفعل الثقافي على مستوى البناء والتصور، ودور المؤسسة الوصية على القطاع، أصبح يفرض علينا كنقابتين أن نعيد صياغة ملف مطلبي مشترك بحمولة نضالية متجددة وموحدة. كما أن سمات القلق والارتباك الذين يتسم بهما مشهدنا الثقافي، يدفعنا إلى ضرورة الوقوف كتنظيمات نقابية لإعادة طرح سؤالنا المركزي عن مدى تملكنا لفهم واحد للشأن الثقافي؟ هكذا، سينعقد مؤتمرنا الاندماجي هذا تحت شعار «الوحدة والاندماج، تحصين للمكتسبات والرقي بالفعل الثقافي»، والذي سيسهم في إعادة الوعي للفعل الثقافي بجعله أساسا لكل المشاريع المجتمعية والمقررات التنظيمية والورقات السياسية لمختلف هيئات ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب والنقابات. ذلك لأن المجال الثقافي هو قبل كل شيء ذلك الفضاء الرحب الذي تنصهر فيه كل التفاعلات المجتمعية وتتبلور عبره كل توجهات الفاعلين والقوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، في أفق الرقي بمجتمعنا والتقدم به، نحو حياة قوامها العدل والمساواة، وأساسها الإنسان كمصدر للفكر والإبداع.. إعداد : حسن الأكحل و رضوان الشرقاوي أعضاء اللجنة التحضيرية