كيف كانت أحوال المغرب والمغاربة في ثمانينيات القرن التاسع عشر؟ ما سمات نظام حكمه آنذاك مركزيا ومحليا؟ وكيف كان نمط عيش سكانه من العرب والأمازيغ، والمسلمين واليهود؟ وكيف كانت عاداتهم وطبائعهم في السراء والضراء، وفي مختلف فصول السنة؟ ومدن مغرب 1880، ماذا كانت أهم صفاتها ومرافقها ومعالم معمارها؟ عن كل هذه الأسئلة وأخرى، أو بالأحرى عن نظرة فرنسي مشبع بالفكر الاستعماري لهذه التيمات، يجيب كتاب من «من موغادور إلى بسكرة، المغرب والجزائر»، الصادر سنة 1881 عن دار النشر الباريسية «شالاميل إيني»، لصاحبه جول لوكليرك (1848- 1928)، وهو كاتب رحالة نشر العديد من كتب الرحلات حول العالم وفي مختلف المناطق الفرنسية. طنجة، موغادور، مازاغان، الرباط وسلا... هذه بعض المحطات التي زارها صاحبنا ودون مشاهداته وانطباعاته حولها، ليحولها مادة للقراءة لا تخلو من متعة رغم تحامل موقعها الجلي على مغرب تلك المرحلة، تحامل يعود بكل تأكيد إلى حسرة الكاتب عن عجز فرنسا على بسط حمايتها على الإيالة الشريفة حينها. ورغم منحاه الكولونيالي، فالكتاب يصف بدقة العديد من طقوس مغاربة ثمانينيات القرن التاسع عشر، وأنماطهم الفكرية، ومعتقداتهم، كما يتطرق لمعاملاتهم الإنسانية والاقتصادية. وهو يستمد من هذا المنحى الوصفي بعض الأهمية التي جعلتنا نقدم على ترجمة عدد وافر من صفحاته ، نقترحها مسلسلة على قراء الاتحاد الأسبوعي الصادر كل يوم سبت. في الضفة الأخرى من مضيق جبل طارق، على بعد عشر فراسخ من أوربا، يوجد بلد نعرفه بالكاد. بلد لم تلجه العادات الأوربية إطلاقا، والاكتشافات العصرية لم تر النور بالنسبة إليه. لا سكة حديدية ولا طريقا معبدا يخترق رقعته الجغرافية الفسيحة. سكانه لم يشاهدوا قط سيارة بعجلات، ولا مراكب عبور الأنهار، بل ولا جسرا: هناك يتم عبور الأنهار سباحة أو فوق أوعية جلدية منفوخة، ويتم السفر بواسطة بغال أو جمال عبر مسالك القوافل. يبدو أن سورا شبيها بسور الصين العظيم يغلق هذا البلد في وجه كل حضارة: والسور هذا ليس سوى استبداد تعززه ديانة تعتمد على المعتقد القرآني المؤمن بالقضاء والقدر. يشكل المغرب مفارقة جلية مع جارته الجزائر التي احتضنت تحولات أوربية المنحى، إذ هي متوفرة على طرق معبدة وسكك حديدية وخطوط للتلغراف. ويبدو للمرء، حين يغادر المغرب للحلول بالجزائر، أنه ينتقل في الحال من الهمجية إلى الحضارة. لقد توفق فعلا نصف قرن من الحضور الفرنسي وحقق هذه المفارقة. إذا أراد المرء استحضار حال الجزائر قبل خضوعها للتماس مع عاداتنا، فالمغرب الحالي هو الجدير بمنحه أفضل نموذج على ذلك. إنه لم يتعرض بعد إلى غزو أمواج السياح التي شوهت الشرق: إنه البلد الوحيد من البلدان المعتنقة لديانة محمد الذي حافظ، بشكل لا يرقى له الشك وأكثر من غيره، على طابعه الخاص، ولا فعل يستطيع الكشف عن عادات العرب وطبائعهم أفضل من السفر إلى هذه البلاد. حين نلاحظ، عن قرب، هذه العادات والطبائع المناقضة لعاداتنا، فإننا نستوعب سبب مناهضة العرب لحضارتنا. لقد فوجئت، مرات لا تحصى ولا تعد، بالمسافة الفاصلة بين المسلم والأوربي في مجالات طريقة العيش، والتقاليد، وآداب السلوك وأبسط الأفعال. إن جعل صيني يعتنق عاداتنا أسهل ربما من إقناع أحد سكان موريتانيا بذلك. يبدو أن العربي والأوربي متناقضان. فإذا كان الأوربي يقف ويسحب قبعته أمام شخص يقدره، فإن العربي يظل، على العكس، جالسا ورأسه مغطاة. بل إن الأمر يصل به إلى حد نزع حذائه حين يلج بيتا أو مسجدا، وهو سلوك نصنفه نحن في خانة انعدام اللياقة. وبينما نترك نحن اليمين لرؤسائنا ولمن هم أكبر منا سنا، فإن العرب يتركون لهم اليسار. كما أننا نفسح المجال لضيوفنا لولوج بيوتنا قبلنا، على عكس العرب الذين لا يتخلون إطلاقا عن دخول منازلهم قبل الآخرين. إن تقبيل يد الآخرين عربون احترام عندنا، بينما العربي يقبل يده. وليس من عاداتنا الأكل في منتصف الليل، أما العرب، فهم يستيقظون، خلال شهر رمضان، في منتصف الليل لتناول وجبة العشاء. ومن المشين، بالنسبة لنا، أن ننام مرتدين اللباس الذي نضعه لمقابلة الناس خارج البيت، أما العربي، فإنه يذهب إلى سرير النوم بكامل لباسه، ولا ينزع إلا الحذاء. وثمة، بكل تأكيد، صفحات طويلة يمكن كتابتها حول ديانتهم، ونسق أخلاقهم وقوانينهم، التي تتناقض إلى حد كبير مع أفكارنا. إن الحضارة العربية، المتناقضة جدا مع حضارتنا، قد استطاعت، مع ذلك، أن تحقق في الماضي ازدهارا رائعا، لكن مجتمعا قائما على القدرية الإسلامية لا يمكنه السعي في اتجاه الأفضل. ومن ثمة، فما الذي تبقى من تلك الحضارة اللامعة؟ ما الذي آل إليه العرب الفرسان والمحاربون؟ حين يجد المرء نفسه وسط هؤلاء الهمجيين في القرن الثامن عشر، فإنه يتساءل إن كانوا هم فعلا من غزا إسبانيا، من شيد قصورها الفخمة ومساجدها الباهرة التي تبهرنا إلى اليوم في قرطبة واشبيلية وغرناطة وطليطلة! كانت أوربا غارقة لا تزال في الجهل والبربرية، بينما كان العرب يتفوقون في الفنون والعلوم، أما راهنا، فهذا الشعب المحتضر فقد حتى ذاكرة ماضيه البهي. لقد ضاعت الكتب التي تروي تاريخه، ودمرت المكتبات، ولم يعد يطبع في الإمبراطورية المغربية أي كتاب. حتى القرآن، الكتاب الوحيد الذي تتم قراءته في المغرب، فهو يطبع في إنجلترا. لم يتوقف تقهقر المغاربة منذ طردهم من إسبانيا. ونظرا لتناوب أمراء ضعفاء وجاهلين وطغاة دمويين على حكمهم، فإنهم حافظوا على طبائعهم ولغتهم وديانتهم، لكنهم أضاعوا الفنون والعلوم، وقد تحول هذا الشعب جد المتنور في الماضي إلى قطيع من المتوحشين. مدنهم، التي كانت منارات للأنوار أيام ازدهار حضارتهم، أصبحت حاليا عبارة عن مجرد أكوام من الخراب.(...). ولكي تنهار أمة إلى مثل هذا المستوى المنحط من الهمجية، بعد تربعها على قمة الحضارة والازدهار، فذلك يستلزم أن تكون قد تعودت على الخنوع لوطأة أسوأ الحكومات. وحسب اعتقادي، فإنه لا يوجد في الكون نظام سياسي أكثر استبدادا من الذي يخضع له الشعب المغربي المسكين. في القمة، يحكم السلطان، السيد المطلق على رعاياه وعلى مجموع تراب الإمبراطورية. وهو يتمتع بمفرده بحق الملكية، ذلك أن العقارات والثروات المنقولة، بل والحياة نفسها، كلها أشياء لا يملكها الرعايا المغاربة إلا بصفتها مودعة لديهم، بحيث يجوز للإمبراطور التصرف فيها وفق هواه. ليس هناك، كما هو الحال في تركيا، هيئة تتخذ القرارات في القضايا المدنية والدينية الكبرى، ذلك أن السلطان هو صاحب الحل والعقد في كل الشؤون في المغرب، يتخذ جميع القرارات بنفسه ولا يستشير أحدا غير إرادته المطلقة. ولكي يكون الشعب على علم بأن الأوامر برمتها تصدر عن السلطان، فليس ثمة وزراء بالمعنى الصحيح للمهمة، هناك فقط مجلس يضم أفرادا من الحاشية وأقرباء للسلطان وقضاة وفقهاء وقادة للحرس الإمبراطوري، مجلس يوافق على إلهام السلطان جملة وتفصيلا. لا وجود لوزير للمالية، ولا لمحافظ للخزينة العامة، نظرا لأن مالية الدولة غير منفصلة عن أموال الإمبراطور، ولأنه الوحيد الموكل له مراقبة كنوزه. إن جميع الوظائف بدون أجر، ولذا فمن يتحملونها هم من يكون لزاما عليهم توظيف أكبر قدر من الدهاء للإثراء. يعقد الإمبراطور جلسات عمومية في المشور (ساحة القصر) أربع مرات في الأسبوع، ممتطيا صهوة جواد أبيض ومحاطا بحاشيته، بينما تظلله المظلة الخضراء التي هي رمز السيادة. ولا يجوز لأحد حضور هذه الجلسات إلا إذا قدم هدية تتناسب مع إمكانياته. يستمع السلطان في المشور لشكاوى رعاياه، ثم يصدر أحكاما نهائية تنفذ فورا أمام أعينه. وسط المشور إذن يتم جلد وبتر أعضاء وضرب أعناق الرجال الذين أصدرت العدالة الإمبراطورية أحكامها ضدهم. يباشر الباشاوات والعمال والقضاة والخلفاء شؤون القضاء باسم السلطان، ويقلدون استبداده في كل ما يتعلق بالأحكام. القضاء في المغرب قاس وغير عادل، والجميع يعرف أنه يساوم غاليا بالمال. والموظفون كافة لديهم نفس المبدأ: إفقار الشعب لسحب إمكانيات الانتفاض منه. إن العمال ومرؤوسيهم مبتزون مسموح لهم بممارسة ذلك، وهم يملكون على العموم ثروات كبيرة، كما يستعملون جميع أصناف الابتزاز من أجل قمع الشعب وسلبه أمواله. وإذا حدث، ذات مرة، وعوقب مسؤول على خرق ما، فالسبب يكمن في الحفاظ على مصالح الخزينة الإمبراطورية أكثر مما يكمن في التجاوب مع غضب الناس ضده، ذلك أن المعني بالأمر يخلع من منصبه ويقوم السلطان بحجز ممتلكاته ليضيفها إلى ثروته الشخصية. وكلما استطاع أحد الرعايا المغاربة مراكمة ثروة يتفوق عبرها على مواطنيه، فإنه يصبح معرضا للخطر، نظرا لأنه بإمكان السلطان، السيد على ممتلكاته وحياته، أن ينتزع منه ثروتة في أي وقت، وفي هذه الحالة، سيشعر صاحبنا بحسن طالعه إذا لم يتم ضرب عنقه بعد تجريده من ماله، علما أنه يتم قطع الرؤوس لأتفه الأسباب هناك. ولذا، فأي مغربي يتوفر على ممتلكات ما يعمل كل ما في جهده لإخفائها، لكنه قد يتعرض لأفظع أنواع التعذيب للاعتراف بما يملك. إن جمع المال جريمة لا تغتفر في بلد الاستبداد هذا. هكذا، ومتى أراد المغربي توجيه الضربة القاضية لأحد خصومه، فأفضل وسيلة أمامه لنيل مبتغاه هي الإعلان على رؤوس الأشهاد على غنى الخصم. فكيف يتخلى هذا الشعب، (...) عن كسله إذا كانت الثروة، وهي الحافز على العمل، تؤدي إلى التهلكة؟ أما استخلاص الضرائب، فهي سهلة وسريعة على غرار القضاء. حين يكون السلطان في حاجة إلى المال، فإنه يصدر أوامره إلى جميع الباشاوات بجمع الضرائب التي ينص عليها القرآن,وبتسليمه المبلغ الضروري في أجل محدد. ولا يجد الباشاوات سلوكا أفضل من تعويض أنفسهم على أتعابهم عن طريق مضاعفة قيمة الضريبة، وهو الأمر الذي لا يتردد في القيام به العاملون تحت إمرتهم من جانبهم. وهكذا، يجد الملزمون المساكين بدفع الضرائب أنفسهم مستنزفين من طرف شبكة المستبدين هذه التي تصعد من آخر موظف في الهرم الإداري إلى السلطان، وهو ما يدفعهم، في غياب أي حل آخر، إلى الانتفاضة ضد القمع. حينها، يبعث الإمبراطور قواته العسكرية لمعاقبة المنتفضين مع قطع رؤوس زعمائهم، علما أن الجنود يحصلون على الإذن بالسلب والنهب وتخريب المنطقة. وبناء على ما سلف، ونظرا لطبيعة نظامه، فليس ثمة مبرر للتعجب من فقر المغرب وقلة عدد ساكنته، بينما هو لا يحتاج سوى لإدارة جيدة لأراضيه الشاسعة القاحلة اليوم ليصبح أحد أغنى بلدان العالم! (...) لنمتع المغرب بحكومة أقل سوءا، وسيكون بإمكانه توفير التغذية لساكنة يفوق عددها مرتين أو ثلاث مرات عدد سكانه الحاليين البالغ ثمانية أو تسعة ملايين نسمة، والمتناثرين فوق مساحة تقارب مساحة فرنسا، كما سيكون بمقدرته في الوقت نفسه تصدير كميات من القمح تفوق استهلاك سكانه. لكنه، وبسبب الجهل التام لأبسط القوانين الاقتصادية، فإن السلطان يحظر تصدير القمح، وهو ما لا يمنع البلاد من المعاناة من مجاعات فظيعة تهلك دوريا أعدادا لا تحصى ولا تعد من الشعب. ومن جهة أخرى، وبفعل هذا الحظر بالذات، فإن الفلاحين يحدون من إنتاجهم ولا يزرعون إلا ما يكفي من الأراضي لسد حاجتهم. وبالفعل، فلماذا سيتعبون أنفسهم في حصد ما لن يبيعونه؟