قبل ثلاث سنوات، دشنت تونس موجة من الاحتجاجات في العالم العربي تلتها مصر, ثم ليبيا واليمن والبحرين وأخيرا سوريا. تعبير »»الربيع العربي»« توصيف لتطلع عام للكرامة والحرية من طرف شعوب تعاني من قهر وعنف أنظمة استبدادية فاسدة. تطور الأمور معروف. تونس تصارع وحيدة من أجل الابقاء على أمل الديمقراطية, مصر سقطت في دكتاتورية عسكرية تسحق كل معارضة، ليبيا دخلت دوامة هدامة من الخراب. سوريا تمزقها حرب أهلية فظيعة تهدد تداعياتها جيرانها اللبنانيين والعراقيين. نعرف إغراء الزمن للأحكام, وصفات سريعة حول موائد استديوهات تلفزية. »»الربيع العربي»« هل انتهى؟ هل عادت الأمور إلى الوراء؟ هل عادت الدكتاتوريات القديمة التي ما كان للدول الغربية التخلي عنها؟ الأمر ليس صحيحا, ولمحاولة إعادة وضع هذه السنوات الثلاث في سياق تعقيداتها, نشرت صحيفة لوموند هذا التحقيق المطول عن حالة القوى المتواجدة, وهي محاولة تستدعي على الأقل ثلاث ملاحظات. الأولى وهي ضرورة عدم إطلاق الاحكام بسرعة. فالعالم العربي في حالة تحولات تاريخية عميقة، فلن يعود إلى الوراء لسبب بسيط، إنه يتغير ولا أحد كان يتصور أن المنطقة ستتغير بين يوم وليلة. وفي مواجهة المعارضة الوحيدة المنظمة التي لم يستطيعوا اقصاءها: الاسلام السياسي، جماعة الاخوان المسلمين ظلت القوى »الموازية« تقاوم. قاومت بشكل جيد, خاصة وان تلك المعارضة أثبتت أنها عاجزة عن ممارسة السلطة. لا شيء سيكون كما كان من قبل, فالتطلع إلى الكرامة لن يختفي, يمكن خنقه أو محاصرته مؤقتا ولكن لا يمكن القضاء عليه, وإذا كان العسكريون في مصر يعتقدون أنهم يعيدون الحياة للنظام السابق فإنهم سيكتشفون ذلك سريعا، كما أن نظام دمشق إذا ما »انتصر« لن يصمد طويلا أمام الحرب التي أطلقها ضد جزء كبير من شعبه. الملاحظة الثانية هي عدم بناءأوهام حول الغرب على التأثير في الأحداث، فهذه القدرة محدودة، فليس باراك أوباما هو من »تخلى« عن مبارك, العسكريون المصريون هم من تخلى عنه لأسباب تخصهم. الأمريكيون والأوربيون سهلوا سقوط معمر القذافي ولم يوفروا لأنفسهم وسائل مراقبة أو التحكم فيما يحدث بعدذلك, ربما الغربيون وخاصة الولايات المتحدة لم يحسنوا تدبير الازمة في سوريا، ولكن هل بمقدورهم فعلا التحرك في مجال مجزأ ومعقد تتحكم فيه قوى غامضة وخفية؟ الحقيقة هي أن الشعوب العربية سيدة مصيرها والحاصل فعلا وهذه هي الملاحظة الثالثة أن هذا المصير يبقى أسير حرب دينية كما شهدتها أوربا في القرنين 16 و17, هذه الحرب داخل الاسلام تتقاطعها طموحات قوتين اقليمتين: العربيةالسعودية وايران, يشجعها انهيار النظام السابق, وهي بالأساس وحتى اللحظة نتيجة غياب قوى سياسية محلية قوية حاملة لروح الاصلاح والتسامح. يوم 14 يناير 2011 فر بن علي نحو جدة بالعربية السعودية, دون أن يشك أنه سيمضي بها السنوات الثلاث الموالية في منفى ذهبي ممل, فلا باريس ولا أي بلد عربي آخر كان يريده, وحده العملاق السعودي له القدرة المالية والشرعية الدينية للسماح باستقبال المنبوذ الجديد, وحدها السعودية تدرك جيدا حجم التهديد الذي يمثله ما وقع في تونس. طيلةثلاث سنوات, ستبذل السعودية دون حساب من أجل احتواء موجة الثورات العربية أو وضعها في خدمة طموحاتها الاقليمية في مصر, أعادت السعودية العسكريين إلى الواجهة وانفقت ملايين الدولارات من أجل خنق الاخوان المسلمين والثوريين, وفي سوريا تدعم المتمردين من أجل مواجهة ايران... زمن الشعوب الثورة التي انطلقت من بلدة سيدي بوزيد وسط تونس يوم 17 دجنبر 2010، بعد إضرام بائع الخضر والفواكه اليائس محمد البوعزيزي الغاز في جسده، هذه الثورة لم تصل العاصمة تونس إلا يوم 11 يناير, في كل مكان تم إحراق مقرات الشرطة ومكاتب الحزب الحاكم، وتم تدمير ونزع صور الرئيس/ الزعيم وسط شعارات »»ارحل» كان الشباب في المقدمة يواجهون قوات الأمن رغم الرصاص الحي قبل أن يلتحق بهم مع توالي الأحداث المحامون والمدرسون والعاطلون ورجال الاعمال, كانت قناة الجزيرة تبث على مدار الساعة وبشكل مسترسل صور هذا الاحتجاج الشعبي وشعارها »العدالة، الكرامة والحرية« .ومن الجزائر إلى القاهرة كان ملايين المشاهدين يتابعون باندهاش انهيار أول دكتاتور عربي في أقل من 3 أسابيع. في مصر اندلعت أولى المظاهرات يوم 25 يناير بالقاهرة والاسكندرية و السويس ,ثم تحولت ساحة التحرير في قلب العاصمة المصرية مسرحا لمواجهات دامية مع قوات الأمن ورمز الاحتجاج متنوع, لكن بإصرار يجمع النساء والرجال والشباب والشيوخ من كل الأطياف السياسية. «انزل من عربتك والتحق بالأبطال في ساحة التحرير» قال شيخ لأحد الجنود. كانت المخاوف كبيرة في الوقت الذي استدعى حسني مبارك الجيش للتدخل. هنا كذلك تعالت الحناجر بشعار «الشعب يريد اسقاط النظام» ويؤكد اغلب المتتبعين ان هذه الاحتجاجات الى جانب عفويتها تندرج ضمن منطق المواجهة, وبالتالي لم يكن لها زعيم بالمعنى الدقيق ولا ايديولوجيا ولا تنظيم سياسي.... يوم 11 فبراير، وبعد أن تخلى عنه الجيش. اجبر الرئيس مبارك على الاستقالة. ذهل العالم العربي بأجمعه وفي مقدمتهم القادة السعوديون الذين اتهموا واشنطن بإذكاء فتيل المواجهة والتخلي عن واحد من اوفى الحلفاء. وبالقرب من المملكة السعودية اشتعل اليمن بدوره وهو البلد الذي يشترك مع السعودية بحدود تصل 1800 كلم. يوم 27 يناير تجمع الآلاف من المتظاهرين في صنعاء للمطالبة برحيل الرئيس علي عبد الله صالح. هذاالأخير وبعد 33 سنة على رأس الدولة، يريد تغيير الدستور للترشح سنة 2013 انتشرت الاحتجاجات من عدن، خاصة في اوساط الطلبة حتى وادي حضرموت، مشاهد غير مسبوقة، علي عبد الله صالح الذي نجا من محاولة اغتيال نقل الى السعودية للعلاج ومنها اجبر في الخريف على توقيع اتفاق نقل السلطة، الذي دفعه إلى الخروج. اندلع حريق آخر في مملكة البحرين الصغيرة يوم 14 فبراير، اعتصم الشباب واغلبهم من الشيعة في ساحة اللؤلؤة بالمنامة احتجاجا على هيمنة عائلة آل خليفة السنية على السلطة. ولكن يوم 2 مارس ارسلت السعودية والامارات العربية قوات عسكرية لنجدة جيرانهم, ازيد من 1000 رجل بآلياتهم الثقيلة لحماية المؤسسات والمنشآت الاستراتيجية وتمكنت القوات البحرينية من اخلاء اعتصام المحتجين بالقوة وإتهامهم بالعمالة مع ايران القوة الاقليمية الشيعية. ويوم 18 مارس تم تشطيب نصب اللؤلؤة وسط المنامة. وشكل اجهاض الاحتجاجات في البحرين اول تدخل للرياض زعيمة المصالح السنية في الشرق الاوسط في مجرى احداث الربيع العربي. الرياض، التي اشتعلت النيران في كل أرجاء مجال نفودها، ستتدخل مرة أخرى عندما اقترحت على المغرب الذي بدأت مظاهرات 20 فبراير تهزه، ثم الاردن ,الالتحاق بنادي دول مجلس التعاون الخليجي المغلق الذي يضم مملكات البترول الغنية. وبذلك بدأ يتشكل تحالف مقدس ضد الثورة. لكن مع ذلك لم تنته الحرائق. فقد دخلت ليبيا ثم سوريا دوامة المظاهرات والقمع. لكن وخلافا للثورات الاولى انزلقت الاحتجاجات في هذين البلدين الى حرب. فالصراع في ليبيا الذي بدأ بمظاهرات في بنغازي يوم 17 فبراير، لم ينته الا يوم 20 أكتوبر في سيرت بقتل العقيد القذافي اقدم زعيم عربي حكم البلاد 42 سنة, كان لابد من تدخل عسكري حاسم من الحلف الاطلسي لإنهاء الصراع، والثمن كان آلاف القتلى. اما المأساة السورية فقد بدأت يوم 15 مارس 2011 بمظاهرة في درعا البلدة الحدودية مع الاردن، لتحرير بعض الاطفال الذي كتبوا رسوما وشعارات عى الجدران مناهضة للنظام, اعتقلوا وعذبوا بوحشية ولم يعودوا الى ذويهم الا بعد اسبوع. كان الوقت قد فات. لقد اتسعت المظاهرات المناهضة لبشار الاسد، الذي خلف والده حافظ الاسد سنة 2000 لتشمل عدة مدن أخرى. ورغم الخوف والرعب كانت اعداد المتظاهرين تتزايد باستمرار. في كل مكان كانت الجدران تمتلئ بالشعارات و الرسوم الكاريكاتورية، تحررت الالسنة في الشوارع, كان الناس يصرخون ويحتجون وكانت اجهزة النظام تعتقل المحتجين كل يوم المزيد. والاسلاميون الذين اجبروا منذ زمان على السرية، عادوا من المنافي وأسسوا احزابا وجماعات مختلفة من المعتدلين إلى المتطرفين والجهاديين على «يمين» الإخوان المسلمين .برز السلفيون, والسعودية التي تتخوف من جماعة الإخوان المعروفة بانخراطها السياسي، حولت السلفيين على أمل التحكم فيهم.وظهرت جماعات انصار الشريعة المتطرفة في تونس وفي مصر واليمن وليبيا. وكانت عدة دول قد انخرطت في اول انتخابات حرة. ودشنت تونس ثم بعدها مصر هذا الفصل الجديد يوم 28 اكتوبر 2011 وسط طوابير طويلة من المصوتين. زمن الإخوان وقطر لم يلعب الاسلاميون الادوار الطلائعية في الانتفاضات الشعبية لبداية السنة. لكن انضباطهم وتنظيمهم الجيد خلافا لباقي مكونات الثورات. وسمعتم كأكبر معارضي الانظمة التي سقطت, ساعدهم في تجاوز هذا التأخر. وهكذا فاز حزب النهضة بزعامة راشد الغنوشي، وهي من مكونات التنظيم العالمي للاخوان المسلمين، فازت ب 89 مقعدا من مجموع 217 مقعدا في الجمعية التأسيسية التونسية. وجرى سيناريو مماثل في مصر في نهاية السنة. وتحولت الانتخابات التشريعية الى فوز ساحق للاخوان المسلمين الذين فازوا بنصف مقاعد مجلس الشعب. كان ذلك يصب في طاحونة قطر, فالامارة الغازية الصغيرة هي راعي جماعة الاخوان المسلمين منذ ان طلقتهم العربية السعودية في بداية سنوات 1990 بسبب مساندة الجماعة لغزو الكويت من طرف قوات صدام حسين, وأمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني مقتنع بأن النهج الاسلامي المحافظ للاخوان يلائم التطلعات العميقة للشعوب العربية. وقد وجد العديد من الوجوه البارزة للاسلام السياسي الملجأ والدعم في الدوحة, من أبرزهم الداعية الاسلامي المصري يوسف القرضاوي ومع ثورات «الربيع العربي» التي حملت محمييها الإسلاميين إلى السلطة، وجدت قطر الفرصة سانحة للبروز على الساحة الإقليمية ومحاولة سحب البساط من تحت أقدام جارتها القوية، السعودية التي تتخبط في حسابات الخلافة على العرش. والشيخ حمد المهووس بفكرة إبراز وإشعاع مملكته الصغيرة والغنية, سرعان ما فتح خزائنه المليئة بعائدات الغاز الطبيعي، و استديوهات قناة الجزيرة في خدمة الثورات. هذا التدخل الذي قطع مع وضع الوسيط الذي ظلت تنهجه قطر حتى الآن, بدءا مع الأزمة ا لليبية. حيث أظهر الوزير الأول حمد بن حاسم آل ثاني براعة خارقة في المناورة واستطاع الضغط من أجل استصدار القرار الأممي 1973 الذي قاد إ لى تدخل طيران الحلف الأطلسي في الأجواء الليبية وسمح بدعم دول الخليج وبإقناع روسيا بعدم رفض التدخل. العربية السعودية التي ازعجها كثيرا سقوط بن علي ومبارك, تراجعت أمام الضغط القطري. فالملك عبد الله له حساب شخصي قديم مع معمر القدافي المتهم بالتورط في مشروع محاولة اغتيال ضده سنة 2003، وكان وقتها وليا للعهد. في مارس 2009 بالدوحة، وصفه طاغية طرابلس »ب»الدمية»« في أيدي البريطانيين والأمريكيين أمام جميع القادة العرب قبل أن يغادر القاعدة غاضبا. كانت فرق قناة «الجزيرة» أول من وصل الى بنغازي رأس الحربة في الثورة الليبية. كانت القناة متناغمة مع الثوار. أما في تونس فقد كانت القناة القطرية ممنوعة ولكنها تمكنت من تغطية الثورة ضد نظام بن علي من خلال شبكات التواصل الاجتماعي وأشرطة الفيديو التي يلتقطها المتظاهرون. ومباشرة بعد الإعلان عن رحيل مبارك، يوم 11 فبراير، بقيت قناة الجزيرة »»صوت من لا صوت له»«طيلة 15 دقيقة صامتة والكاميرا مثبتة على بركان ساحة التحرير في مشهد تناغم مثير مع جمهورها. وفي صحراء شرق ليبيا، كان أسلوب الجزيرة المثير عبارة عن خليط من الأخبار والدعاية التحريضية. ولتجسيد رغبتها في إظهار قوتها، أرسلت الدوحة 6 طائرات ميراج 2000 (نصف أسطولها الحربي) الى جانب طائرات رافال الفرنسية. وفي تلك الأثناء كانت القوات الخاصة القطرية تدرب وتوجه المتمردين الليبيين في هجومهم على باب العزيزية مقر قيادة القدافي، نهاية غشت 2011. هذا الإندفاع القطري انتقل إلى سوريا. وباستدعاء سفيرها بدمشق في يوليوز 2011، أربعة أشهر على اندلاع الثورة، رسمت قطر قطيعتها مع نظام الأسد رغم أنها كانت تطلب وده في نهاية سنوات 2000، مثل ساركوزي، أفضل صديق للأمير حمد بن خليفة. قطر التي صممت على أن تكون على الجانب الإيجابي للتاريخ راهنت على الشارع، وفتحت الجزيرة نشراتها واستديوهاتها لأشرطة الفيديو الدموية المصورة في سوريا. وفي برنامجه الشهير »»الشريعة والحياة»« أطلق الشيخ يوسف القرضاوي جام غضبه ضد آل الأسد وحلفائه الإيرانيين واللبنانيين في حزب الله، بنبرة فئوية أكثر فأكثر. وكما في ليبيا حيث احتضنت السلطات القطرية المجلس الوطني الانتقالي (الواجهة السياسية للثورة) احتضنت ووجهت المجلس الوطني السوري حيث يشكل الإخوان المسلمون الأغلبية. قطر, التي غاضها الفيتو المتكرر لروسيا والصين - ترخيص بالقتل حسب الوزير الأول القطري حمد بن جاسم - دفعت في اتجاه عسكرة الثورة, حيث تم وضع شبكة سرية للتزويد بالأسلحة عبر تركيا التي تتقاسم مع قطر تصورها المساند للإخوان المسلمين، وانطلقت الشحنات الأولى من الأسلحة من الدوحة في يناير 2012، وتصاعدت الوثيرة بعد دخول الثوار الى حلب في شهر يوليوز. وفي ذهن الاستراتيجيين القطريين أن حلب ستكون هي بنغازي سوريا، ومعبرا نحو تحقيق الانتصار النهائي. ويبدو أن أمراء الدوحة مجبولون على التفاؤل, لاسيما وأن كل شيء يريدونه يحدث. يوم 6 فبراير 2012، أشرف القطريون علي توقيع اتفاق مصالحة بين حماس وفتح. ووفقا لرغبتهم انفصل زعيم حركة حماس خالد مشعل عن بشار الأسد راعيه السابق لينتقل ويضع نفسه تحت وصاية الدوحة. في مصر, مع نهاية شهر يونيه 2012، فاز بالانتخابات الرئاسية محمد مرسي, الذي ينتمي للإخوان المسلمين والمدعوم من الدوحة. وبعد 15 يوما على إعلان النتائج التقت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون الرئيس الجديد. وأكثر من أي وقت مضى، بدأ قطر الصغير يحلم أنه أصبح عملاق الشرق الأوسط الجديد. زمن العربية السعودية لكن هذه الطموحات القطرية بدأت تزعج الرياض. في صيف 2012، بدأآل سعود الاستعداد للمعركة، تسلم الأمير بندر بن سلطان، سفير المملكة في واشنطن مابين 1983 الى 2005، جهاز المخابرات السعودية، وهو الرجل الذي يعول عليه كثيرا لمعرفته الجيدة بدواليب القرار في الكونغرس الامريكي ودوره كوسيط خلال الجهاد ضد السوفيات في أفغانستان، الذي كان يمزج بين الاسلام الراديكالي والبترودولار والمخابرات المركزية الامريكية وصواريخ ستنغر حقق نتائج جيدة، فلماذا لا ينجح نفس الخليط في سوريا؟ فبلاد بشار الاسد تعتبر مسرحا ملائما لمواجهة جيوسياسية بالغة الاهمية. فالصراع في سوريا له ملامح لعبة الدمى الروسية. الاحتجاج يقوده في الواقع السنة الذين يشكلون الاغلبية, لكنهم مهمشون من دوائر السلطة، التي يقبض عليها العلويون بيد من حديد، وهم فصيل منشق من الشيعة. على المستوى الاقليمي المواجهة بين إيران الشيعية الحليف الرئيسي لمدشق وبين قطر وتركيا والعربية السعودية التي تتنافس حول الزعامة السنية, وعلى المستوى الدولي نجد روسيا التي استعادت طموحاتها. والصين في مواجهة الولايات المتحدة وحلفائها البريطانيين والفرنسيين. هل هي الصدفة, أم أول أثر لوصول بندر بن سلطان لدوائر القرار في الرياض، التفجير الذي نسف مقر قيادة خلية قيادة عمليات النظام السوري يوم 18 يوليوز بدمشق, حيث قتل وزير الدفاع وصهر الرئيس أصف شوكت و قائد الامن الوطني، بدت بعدها دمشق في حالة انهيار, بالمقابل كانت الرياض منتشية. و ساد الاعتقاد للحظة ان زعيم مخابرات ايران قاسم سليماني قائد قوة القدس وحدة قوات النخبة في النظام قتل خلال العملية, لكن ذلك لم يحدث. في نفس الوقت، اجتاحت قوات المعارضة مدينة حلب، وكانت تتقدم في كل الجبهات واستولت على مجموع الحدود مع تركيا ثم مع العراق. وفي الجنوب سمحت شحنات الاسلحة الثقيلة الكرواتية التي اشترتها السعودية من فتح جبهة جديدة واصبحت حتي العاصمة دمشق مهددة. طهران التي احست بالخطر، قررت بدعم من حراس الثورة الذين نجحوا في سحق الربيع الايراني 2009 قررت تعبئة كل قواها وحلفائها من أجل إنقاذ بشار الاسد، حيث استدعي حزب الله اللبناني للنجدة وايضا الملشيات الشيعية العراقية، واعيد تنظيم الجيش السوري من طرف المستشارين الإيرانيين. من جانبها قدمت موسكو السلاح بدون حساب، وفي النهاية أثمرت الصحوة الشيعية نتائج حاسمة في الميدان، وانطلاقا من يونيو 2013 وسقوط القصير, المدينة الاستراتيجية قرب الحدود اللبنانية، نجح بشار الأسد في بدء زحف قواته, بالمقابل تكسرت جبهة المتمردين تحت وطأة ضربات الجهاديين ,بدءا بأشرسها جماعة الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) التي تزرع الرعب في المناطق »»المحررة»«. وتحت وقع سرعة أحداث الثورات, وجدت الدبلوماسية السعودية صعوبة في قراءة الأوضاع والصحوة، لكنها تبدي انسجاما وشراسة أكبر، فهي لم تستسغ بعد سقوط مبارك حليفها الاقليمي الاكبر وحلول محمد مرسي الاخواني حليف قطر, أكثر من ذلك مرسي وبمجرد انتخابه توجه إلى طهران في شتنبر 2012 في الوقت الذي كانت العلاقات بين مصر وايران مقطوعة منذ الثورة الاسلامية سنة 1979 ويبدو أن لا شيء يقف أمامه, فقد لعب مرسي دور الوسيط بين اسرائيل وحماس خلال »حرب غزة« في نونبر 2013 وتلقى اشارات الاعجاب من واشنطن ونجح في تنحية وزير الدفاع الماريشال طنطاوي بهدوء ووضع مكانه عسكريا معروفا بإخلاصه وتدينه هو الجنرال عبد الفتاح السيسي؟. وهنا ارتكب مرسي خطأ فادحا, وبثقة زائدة أصدر يوم 22 نونبر 2012 مرسوما دستوريا يضعه فوق كل متابعة أو محاسبة قضائية، وفي السياق عرض على الاستفتاء دستورا غامضا وملتبسا تم اعداده على عجل، كانت الصدمة كبيرة, انفجر غضب عارم في مجموع البلاد، فاجأ جماعة الاخوان المسلمين التي حشدت ملشياتها, واسفر تدخلها عن عشرات القتلى وتم إقرار الدستور في دجنبر, لكن الحماس والاعجاب تحطم: الاخوان المسلمون خسروا البلاد وظهر مرسي كرجل في خدمة جماعة وليس الشعب, وجه له العسكريون عدة تحذيرات, لكنه لم يلتف إليها, مطمئنا إلى أن خطوط الأموال القطرية مفتوحة في وجهه بلا حدود, ومع ذلك كانت مصر تغرق في الازمة مثل تونس التي قطعت عنها السعودية الامدادات. في ربيع 2013، أسس ثلاثة عسكريين شباب حركة أطلقوا عليها إسم »»تمرد»« واطلقوا عريضة تطالب بإقالة مرسي, سرعان ما لقيت استجابة واسعة بملايين التوقيعات, ويوم 30 يونيو خرج الملايين إلى الشارع للتظاهر، وأرسل الجيش طائراته لتحية المتظاهرين, أصبح مرسي معزولا ويوم 3 يوليوز خلع الجنرال عبد الفتاح السيسي الرئيس مرسي من منصبه بهدوء بتزكية من السلطات الدينية في البلاد. وتم تنصيب رئيس مؤقت جديد المستشار عدلي منصور, وعاد كل شيء إلى المربع الأول، وعادت السلطات الجديدة بإعداد دستور جديد وانتخابات في غضون 6 اشهر , رحبت السعودية والإمارات بهذا التغيير عبر تقديم قروض وهبات بمقدار 12 مليار دولار. وكإشارة قدر, ربما أحس الأمير القطري حمد برياح التغيير قادمة, ترك مقاليد السلطة لإبنه تميم يوم 25 يونيو, والأمير تميم معروف بكونه أكثر حذرا, ربما بلغت قطر حدودها القصوى، فقد أصبحت تجمع حولها الانتقادات أكثر من الدعم. حان وقت جمع الأشرعةوشيئا فشيئابدأت السعودية تحقق الانتصار, لاسيما وأن الزعيم التركي رجب طيب اردوغان المنافس الآخر, يتأرجح وسط دوامة من المشاكل والصعوبات الداخلية. في مصر يتشبث الاخوان المسلمون »بشرعية« صناديق الاقتراع ولم تنجح الوساطات الامريكية والاوربية في تفادي المواجهة, يوم 14 غشت فجرا تدخلت سيارات الشرطة لتفكيك اعتصامات انصار الاخوان حول مسجد رابعة العدوية, وفي القاهرة سقط القتلى وكان الرد هو إحراق حوالي 50 كنيسة قبطية. وفي نهاية النهار كانت الحصيلة حوالي 1000 قتيل. تلتها حملة قمع شرسة تباركها الرياض ويؤجحها الخطاب القومي الصاخب للعسكريين, تم اعتقال وحبس أبرز أطر الاخوان المسلمين والآلاف من أنصارهم, وتم تقديمهم محمد مرسي أمام المحاكم فب الوقت الذي أفرج عن الوقت الذي أفرج عن حسني مبارك . وفي نهاية دجنبر تم إعلان جماعة الإخوان المسلمين »»منظمة إرهابية«« . لايهم ما يجري من تمرد وعمليات في سيناء, هناك نظام استبدادي جديد يرسي اركانه على ضفتي النيل وفقا لرغبات الرياض التي لم يسبق أن ذاقت طعم «»ربيع الشعوب»« ويوم الثلاثاء 14 يناير 2014، تم عرض دستور جديد على الاستفتاء الشعبي, ويبدو أن الجنرال عبد الفتاح السيسي الذي لم يعد يخفي طموحاته الرئاسية, يريده استفتاء للتزكية. اضطر إخوان النهضة في تونس أيضا، أن يتخلوا عن السلطة، بيسر، وبعد مرحلة أزمة سياسية طالت كثيرا، تسببت في تجميد حال البلد منذ غشت 2013 حتى يناير 2014. بل إن اغتيال شكري بلعيد في سادس نونبر ألفين وثلاثة عشر، قد دفعت الوزير الأول الإسلامي حمادي الجبالي على الإستقالة. بينما أضعف أكثر اغتيال محمد براهمي في الخامس والعشرين من يوليوز، المنسوب إلى السلفيين المتشددين، خلفه على العريض. لقد طالبت المعارضة، تيمنا بما حدث في مصر، برحيل النهضة من السلطة. وبعد ستة أشهر من شد الحبل، سلمت النهضة السلطة لحكومة تكنوقراطية مكلفة بتنظيم الانتخابات في أقرب الآجال. بينما الدستور الأكثر ليبرالية في العالم العربي في طريقه إلى الصدور. بذلك فتونس، هي البلد العربي الوحيد من بين دول الربيع العربي، الذي ينفذ انتقالا ديمقراطيا, بينما الباقون قد غرقوا في الفوضى الأمنية أو الإثنية (سورية، ليبيا، اليمن)، أو في تحكم سلطوي (مصر، البحرين). لقد تحول الربيع العربي حيث أصبح مجالا لصراع جيوستراتيجي وطائفي بين الهلال الشيعي الذي تتزعمه إيران (ويضم العراق، سورية وحزب الله في لبنان)، وبين المحور السني تحت قيادة العربية السعودية. في نهاية غشت 2013، اعتقد الكثيرون أن نهاية نظام الأسد قد وصلت بعد استعماله الغازات المحظورة ضد ثلاثة أحياء من ضواحي العاصمة دمشق. فقد تسبب هجوم الغوطة يوم الواحد والعشرين من غشت في مقتل 1500 شخص، مما اعتبر تجاوزا للخط الأحمر المهدد به من قبل. كانت الرياض متحمسة وأيقنت أن واشنطن ولندن وباريس سوف تسقط نظام بشار الأسد مما سيكون له أثر إيجابي لوقف المد الفارسي. لكن، لاشئ من ذلك وقع، بل إن النواب البريطانيين قد صوتوا ضد الحرب، وتردد باراك أوباما، بينما بقي الرئيس الفرنسي هولاند وحده المتحمس للضربة العسكرية. بينما منح فلاديمير بوتين لأمريكا مخرجا غير منتظر باقتراحه تفكيك الأسلحة الكيماوية وأعاد في نفس الآن بشار الأسد إلى مقدمة المشهد. ولن يغفر السعوديون تلك «الخيانة» السعودية. ولم يخف بندر بن سلطان غضبه من واشنطن. لم تكن تلك الخيانة الأولى من نوعها، ففي مارس ألفين وثلاثة عشر تمت لقاءات سرية بسلطنة عمان بين الأمريكيين وإيران. ولقد تم ذلك برضى كامل من علي خامنئي المرشد العام الإيراني. فرغم خطابه العدائي ضد أمريكا فإن الرجل داهية استراتيجي. فهو مدرك لأهمية التقارب مع الشيطان الأكبر بالنسبة لبلده الذي يخنقه الحصار، بل ولصالح إيران المستقرة في محيط متقلب بالشرق الأوسط من المتوسط حتى باكستان، غير المتوائمة كثيرا مع واشنطن، التي تستعد لمغادرة أفغانستان مثلما فعلوا في العراق. مثلما يدرك أن التقارب معها سيشوش على أعدائها الإقليميين, إسرائيل والسعودية. ثلاثة أشهر بعد ذلك، منح الناخبون الإيرانيون للمرشد العام ما كان ينقص إيران للعودة بقوة إلى المشهد الدولي، أي رئيسا مشرفا. لقد انتخب حسن روحاني منذ الدور الأول يوم الرابع عشر من يونيو، وتم توقيع اتفاق تجميد جزئي للبرنامج النووي الإيراني. ولقد أحاط الرئيس الجديد نفسه بوزير خارجية يقضي وقتا أطول في أمريكا من إيران، هو محمد ظريف، الذي ضاعف من اتصالاته السرية مع البيت الأبيض لإطلاق المفاوضات النووية. وهي المفاوضات التي تشمل طبعا باقي الأعضاء الخمسة الدائمين لمجلس الأمن إضافة إلى ألمانيا، لكن نواتها هي أمريكا وإيران. توجه الرئيس حسن روحاني إلى نيويورك في شتنبر 2013، لحضور دورة الأمم المتحدة. وأنهى الإيرانيون والأمريكيون في الكواليس نصا محددا. وفي اليوم الأخير أجرى حسن روحاني مكالمة دامت خمسة عشر دقيقة مع الرئيس الأمريكي باراك أوباما. فسجلت هزة سياسية في تل أبيب والرياض حيث استشعر أن توازنات جيوسياسية بالشرق الأوسط تتبدل. تلا ذلك لقاءات ثلاثة بجنيف حول البرنامج النووي الإيراني، وكان لابد من منح بعض التعديلات لفرنسا التي تشكك في جدية إيران، بينما لم يعر أحد اهتماما كبيرا لتصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، مما لم يمنع من توقيع اتفاق حول الملف النووي يوم 24 نونبر، حتى وإن كان اتفاقا مؤقتا فإنه تاريخي، والذي سيصبح ساريا ابتداء من 20 يناير الجاري. ولم تتأخر ردود الفعل، بل إنها سبقت حتى توقيع الإتفاق. ففي تسعة عشر نونبر سجل تفجير نسب إلى القاعدة ضد السفارة الإيرانية في لبنان مخلفا خمسة وعشرين قتيلا. بينما تضاعفت الهجمات ضد حزب الله اللبناني بالعاصمة بيروت. ففي يوم السابع والعشرين من دجنبر الماضي انفجرت سيارة مفخخة مستهدفة مستشارا للوزير الأول الأسبق سعد الحريري، هو محمد شطح، المناهض لحزب الله ولنظام بشار الأسد في سوريا المجاورة. في ثلاث سنوات، تعرضت إرادة الشعوب العربية لتبعات الحسابات الجيو سياسية الكبرى بالمنطقة. ذلك أن خصمان سياسيان كبيران، حاولا دوما حيازة الصداقة الأمريكية، هما إيران الشيعية القادمة والمملكة السعودية السنية الباحثة عن مكانة كانت لها وازنة من قبل. والزمن الآن هو زمن هروب إلى الأمام، في العراق حيث المجموعات السنية المرتبطة بالقاعدة تحتل الفلوجة بدعوى مقاومة الإحتلال الإيراني. بينما منحت الرياض ثلاثة ملايير دولار للجيش اللبناني لشراء أسلحة ضمنها أسلحة فرنسية، مما ترجم على أنه نوع من الطلاق التاكتيكي مع واشنطن. بينما ينظر من طهران إلى العربية السعودية «كبلد منهار يحكمه شيوخ مسنون فقدوا البوصلة»، كما قيل في إحدى خطب الجمعة. بل وتم التعبير عن قلق: «حتى نحن خصومهم نخشى من كل التطورات السلبية هناك»، كما عبر عن ذلك أحد مستشاري المرشد العام بطهران. الملك عبد الله في 89 من عمره: واضح أن التغيير لن يتأخر حتى في السعودية.