(...) مرحبا بكم جميعا أنتم الذين حضرتم لمشاركتنا في هذه اللحظة الذكرى، ذكرى 70 سنة على تقديم عريضة الاستقلال. إنها لحظة لا تقاس إلا بقياس الزمن والحراك الذي عاشه شعبنا منذ سبعين سنة، والذي لازال نعيشه متطلعين إلى توجيهه نحو المستقبل الواعد. من الواضح أن احتفالنا، اليوم بشكل مشترك بين حزبي الاستقلال والاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية، بالذكرى السبعين لتوقيع وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي تؤرخ لحقبة هامة في حياة الشعب المغربي، سيشكل هو بدوره محطة تاريخية في هذه المسيرة النضالية، ويؤكد استمرارية حركتنا، التي خرجت من رحم هذه الأمة لتحقيق استقلالها وحريتها. إن القراءة المتأنية والعميقة لتاريخ هذه الأمة، يثبت، بما لا يدع مجالا للشك، أن هناك خيطا ناظما في الصيرورة التي طبعت مسيرتها، منذ أن أصبح المغرب مهددا بالانهيار، بسبب الانقسامات السياسية والمصلحية والتناحرات القبلية والتدخلات الخارجية، والتي فتحت الباب، على مصراعيه، لدخول الاستعمار تحت يافطة الحماية لإصلاح الدولة. ولم تنطل هذه الحيلة، على الشعب المغربي ، الذي سرعان ما حمل السلاح ، في عدد من المناطق لمواجهة قوات الاحتلال، ولم يتمكن الاستعمار من القضاء النهائي، على كل الحركات المسلحة إلا في منتصف الثلاثينات. ولعل أبرز حركة مسلحة، هي تلك التي قادها البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، والتي لقنت الاستعمار دروسا في حرب التحرير الشعبية، وأصبحت بذلك مدرسة عسكرية ألهمت الكثير من الشعوب والقادة الثوريين. وما نريد أن نبرزه هنا، هو أن حركة الشعب المغربي لم تتوقف من الشمال إلى الجنوب ، وفي أقاليمنا الصحراوية أيضا، حيث كان كفاح أبناء هذه المنطقة دليلا على رفض الاستعمار والتقسيم والتجزئة. وفي إطار هذه الدينامية النضالية، نضجت فكرة وثيقة المطالبة بالإستقلال، كتعبير واضح من النخبة الوطنية للشعب المغربي على رفض الاحتلال، وعلى الارادة في بناء الدولة العصرية . ويمكن أن نلخص المحاور الكبرى لهذه الوثيقة في كونها اعتبرت أن ما يسمى بعقد الحماية ينبغي أن ينتهي . و أن الاستعمار عمل على تحطيم الوحدة المغربية ومنع المغاربة من المشاركة الفعلية في تسيير شؤون بلادهم وممارسة حرياتهم الخاصة والعامة. كما ركزت على ارتباط الشعب المغربي بالملك، وأكدت على الحريات الديمقراطية، مشيرة الى أنها توافق جوهر مبادئ ديننا الاسلامي الحنيف. السيدات والسادة، إن هذه الوثيقة التاريخية، التي تقرر بوضوح اصطفاف موقعيها، الى جانب الحركات التحررية العالمية، آنذاك، والمطالبة بالاستقلال والحرية والديمقراطية، أكدت أيضا على توافق هذه المطالب مع جوهر الدين الاسلامي الحنيف. وما استعمالها لكلمة ‹›جوهر›› ديننا الحنيف، إلا تأكيد على روح التجديد الذي كان من رواده مثفقون وعلماء متنورون، ارتبطوا بثقافات نهضوية، وقفت في كل العالم العربي، ضد الرجعية والدعوات الظلامية، التي أغرقت هذه المنطقة من العالم في التخلف والجمود والانعزال، وكانت أحسن حليف للاستعمار، بل خرج منها عملاء وخونة ، ساعدوا على التقسيم وعلى التجزئة. لذلك، يمكن القول إن الحركة الوطنية المغربية كانت، في سياقها التاريخي، واضحة في انتمائها إلى الحركات والديمقراطية والتحررية، وأنها ربطت شعار المطالبة بالاستقلال، بطموحات معلنة في البناء الديمقراطي وتسيير الشعب لشؤونه، في ظل الملكية الإصلاحية . إننا، إذ نستحضر هذا التاريخ النضالي للشعب المغربي، الذي قدم الشهداء وتعرض قادته الوطنيون للسجن والمنفى والاضطهاد، فلكي نضع هذه الفترة التاريخية المجيدة نصب أعيننا ولنظل أوفياء لأرواح الرواد والابطال والزعماء ونواصل المسيرة التي أطلقوها . فما هي الدروس التي تمكن استخلاصها ونحن نحتفل بالذكرى السبعين لوثيقة المطالبة بالاستقلال ؟ أولا: إن حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، هما امتداد متجدد لهذه الحركة الوطنية ، سواء على مستوى الرموز والشخصيات التي تشكلت منها قيادتهما، أو على مستوى الخط السياسي والاديولوجي، الذي ظل متشبثا بثوابت هذه الحركة في بناء الدولة الوطنية على أساس مبادئ الحرية والديمقراطية والتشبث بجوهر الاسلام وبالملكية الاصلاحية . ثانيا: إن التعاقد بين هذه الحركة الوطنية والملكية شكل دائما النواة الصلبة للأمة المغربية، التي تمكنت بفضل هذه الوحدة، من هزم الاستعمار ومن الشروع في بناء أسس الدولة الجديدة . ثالثا: إن التوافق والتنسيق بين مكونات الحركة الوطنية الديمقراطية، كان أكبر ضمانة لنجاح حركة الشعب المغربي في التحرر من الاستعمار وفي التصدي لكل محاولات التقسيم ومؤامرات ضرب السيادة المغربية. وإننا، إذ نستعرض هذه المسلمات، فلكي نؤكد مجدد أن الخط الناظم لمسيرة الشعب المغربي منذ تكالب أطماع الاستعمار عليه، كان دائما وما يزال هو وحدة كل مكونات الحركة الوطنية الديمقراطية بهدف مقاومة مؤامرات التجزئة والتقسيم والمس بالسيادة الوطنية. وكلما حصل انسجام بين هذه الحركة وبين الملكية، كلما تقدمت بلادنا وتغلبت على التحديات. حصل هذا بثورة الملك والشعب، وحصل أيضا في المسيرة الخضراء وفي كل الدينامية التي مازالت متواصلة للدفاع عن الوحدة الترابية، وحصل كذلك في المسلسل الديمقراطي، الذي عرف أحد أهم محطاته في تجربة التناوب والتي كانت خير ضمانة للانتقال من عهد إلى عهد وبداية حقبة جديدة من الإصلاحات. كما تواصلت هذه السيرورة بفضل هذا الانسجام بين الأحزاب الوطنية الديمقراطية والملكية، عندما هبت على المنطقة العربية رياح تغيير كانت تتطلب من بلادنا الاستجابة لروحها والتي عبر عنها الشباب وفئات واسعة من المجتمع المدني ومن الأحزاب، والنقابات، لتعميق التوجه الديمقراطي وإقرار ملكية برلمانية والاقتراب أكثر من النماذج الديمقراطية الرائدة في العالم. السيدات و السادة، لن نحتاج إلى كثير من الحجج والدلائل، لنقول بكل ثقة إنه كلما اضمحل هذا الانسجام بين مكونات الحركة الوطنية الديمقراطية والملكية كلما تعرضت بلدنا للنكسات، والتاريخ شاهد على ذلك . كذلك، وفي نفس السياق، فكلما ضعف أو اضمحل التنسيق والتوافق بين حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، كلما تراجعت بلادنا خطوات إلى الوراء و كلما فقد الشعب المغربي العديد من مكتسباته . أما اللحظات المشرقة من تاريخنا، هي تلك التي حصل فيها التوافق والتنسيق بين الحزبيين، بدءا بالمحاولات الأولى لبناء الدولة الوطنية بعد الاستقلال، ومرورا بتجربة الكتلة الوطنية والكتلة الديمقراطية، والتناوب ووصولا إلى ما نحن بصدده الآن. هذا ما يدفعنا إلى التأكيد أن مسيرة تنسيقنا وعملنا المشترك، كان هاجسها دائما هو الدفع بالإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية، ولم تكن تهدف إلى الهيمنة أو تغيير أسس الدولة الوطنية، المتوافق عليها. هذا هو الهدف الأكبر الذي يجمعنا اليوم، إنه الاستمرار في خدمة هذا الوطن ، واستلهام روح ومبادىء وثيقة المطالبة بالاستقلال. السيدات والسادة ، أين نحن اليوم من كل هذا؟ أين نحن من روح وثيقة المطالبة بالاستقلال؟ أين نحن من الوحدة الوطنية والتوجه نحو الديمقراطية، انسجاما مع جوهر الدين الاسلامي، كما صاغته الانسية المغربية وعلماء الدين المتنورين والمثقفين والمفكرين والسياسيين والزعماء والنقابيين والحقوقيين، الذين صنعوا الخصوصية المغربية ؟ الجواب تنطق به حياتنا السياسية المأزومة، بفعل توجه رئاسة الحكومة والحزب الذي يتصدرها الى إعادة إنتاج نفس الأساليب السلطوية، التي كنا نتمنى أن تصبح في عداد الماضي، غير أننا للأسف نجدها تتكرر اليوم وبأقبح المناهج والمفاهيم والمصطلحات. هل يمكن للشعب المغربي أن يحقق ما نطقت به وثيقة المطالبة بالاستقلال عندما تحدثت عن الدولة المغربية الوطنية الديمقراطية، وهو يعيش تحت وطأة حكومة لايعرف رئيسها إلا لغة الابتزاز السياسي، والتهجم على المعارضين وتهديدهم وتوجيه التهم، متناسيا أنه يمثل الدولة وأن مسؤوليته تحتم عليه الحفاظ على مصداقتها لأنها ليست ملكا له أو لحزبه، بل هي ملك للشعب المغربي. لكن، كيف لمن يتنكر لتاريخ الشعب والمغربي ولحركته الوطنية الديمقراطية، ولمسيرته الكفاحية ولخطه الناظم، أن يظل وفيا للحمة التي وحدت الأمة المغربية؟ كيف لمن استورد مشروعا مجتمعيا غريبا عن الإنسية المغربية، أن يفعل دستورا ينص على ان الأمة ‹›تستند إلى ثوابت جمعية، تتمثل في الدين الإسلامي السمح و الوحدة الوطنية، متعددة الروافد، و على الإختيار الديمقراطي››، و أن الهوية الوطنية تتكون من ‹›مقومات عربية و إسلامية وأمازيغية وصحراوية و حسانية و روافد إفريقية و أندلسية و عبرية و متوسطية››؟ السيدات و السادة، لم تستعمل الحركة الوطنية، المشترك الديني، في نشاطها السياسي، و لم تكفر أحدا أو تتهمه بالردة، رغم تعدد و تنوع المشارب الفكرية، بين صفوفها، و رغم وجود علماء دين حقيقيين، في قياداتها، لكنهم لم ينصبوا أنفسهم أوصياء على الشأن الديني، أو افتوا بالحلال و الحرام في السياسة أو كفروا الناس واتهموهم بالردة. أما اليوم، فنحن أمام أشخاص مغمورين، لم يثبتوا أي باع لا في العلم و لا في الفكر و لا في السياسة، لكنهم تقمصوا شخصية الدعاة، واتخذوا المظهر و الزي الرسمي لهم، و كأنهم يمثلون في مسلسل تاريخي، ونصبوا أنفسهم قيمين على الدين الإسلامي، متجاوزين في ذلك حتى ما توافقنا عليه في الدستور من مؤسسات، و أهمها إمارة المؤمنين. إنهم يفعلون ذلك لفشلهم و ضعف قدراتهم و طاقاتهم، في إنتاج فكر سياسي، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. إنهم أيضا يستفيدون من الريع الإحساني الديني، الذي يدر عليهم موارد ضخمة، عبر الجمعيات الدعوية، و عبر المنظمات والشبكات الخيرية، الموازية، والتي تستعمل مداخيلها في استمالة الناخبين، و ضمان زبناء ثابتين، لتلبية بعض خصاصهم المادي، أساسا، و في بعض الأحيان، بدوافع دينية، يتم استغلالها، انتخابيا، بشكل غير لائق. هكذا حرف هؤلاء الدين الإسلامي الحنيف عن روحه، وحولوه إلى مجرد آلة لجمع التبرعات وأداة من أدوات الحملة الإنتخابية، ووسيلة لتهديد الخصوم وابتزاز الدولة ومحاولة التسلط و الهيمنة على مؤسساتها. سيداتي سادتي، إن حزبنا الحامل لمشروع يجمع بين تأصيل المجتمع انطلاقا من مرجعيته الدينية، وقيمه المجتمعية المدنية، وبين الانفتاح على المنظومة الانسية والفكر التنويري، وخصوصيته الجامعة بين الهوية والانتماء للعصر. فلم يثبت أن بلادنا أغلقت أبواب الانفتاح على الحضارات الأخرى بحكم امتدادها الأندلسي والمتوسطي شمالا والإفريقي جنوبا. إن هذا التقاطع بين مشارب حضارية مختلفة هو ثروة لا يمكن تبديدها بالدعوة إلى مرجعية ماضوية تبتر تاريخ الحضارة الاسلامية الشاهدة على الدور المتميز للعلماء والمفكرين المسلمين الأوائل في نشر العلم الوضعي والفلسفة العقلانية والفن والابداع، لذلك نعتبر أن كل محاولة ترمي إلى تقليص المرجعية الحضارية لبلادنا هي بتر لعضو حيوي من الجسد. وهنا تطرح القضية الأمازيغية، فالمغرب اليوم أمام ضرورة ملحة في التسريع بتنزيل المقتضيات الدستورية المتعلقة بها، وفق أجندة محددة حتى تصبح في متناول كل المغاربة. إذ لا يعقل أن تكون اللغات الاجنبية سهلة الولوج وتحضى بدعم وبرمجة حكومية في المنظومة التعليمية، وهو أمر إيجابي، في حين تظل اللغة الأمازيغية في انتظار الوعود التي لم يظهر منها شيء بعد أزيد من عامين ونصف على دسترتها. إن قيم الحرية والمساواة والتضامن والتكافل العدالة الاجتماعية لا يمكن أن تكون متضاربة مع الهوية المغربية، كما يحاول البعض الذي يختزل الدين في الاصولية المتحجرة موهما ومضللا بالإدعاء بأنها نقيض للمقومات الدينية لشعبنا. إننا نضع هويتنا الحداثية في امتداد الفكر الإسلامي العقلاني وعليه، فإن ما عرفه المغرب من نقاش مفتوح وواسع حول الإصلاحات السياسية والمؤسسية أسقط كل الطابوهات وأطلق العنان للتعبير الحر الذي أكدنا خلال الأيام الزخيرة أن بابه لازال مفتوحا ولا يمكن لحزبنا أن يتخلف عن القيام بدوره التاريخي والذي جعله دوما لا يخشى في قول الحق لومة لائم. فالبلاد في حاجة للنطق بالكلمة الجريئة الملتزمة، وإذا لم نعمل بمبدأ الجرأة في الخطاب والإقدام في الحركة، فإننا سنكون قد تخلينا عن هويتنا وعن رسالتنا وعن شعبنا التواق إلى العيش في مجتمع ديمقراطي حداثي متخلص من العادات والتقاليد البالية يروم تطوير المنظومة السياسية برمتها لنعيش في ظل دولة عصرية في زمن السرعة وأنماط التواصل والإعلام الجديدة في زمن القضية النسائية، واعتبارها في صلب إشكالية التحديث المجتمعي والسياسي في زمن ثورة الشباب من أجل الادماج في الفعل السياسي والمجتمعي. إن تجربة المجتمعات النامية شاهدة على ضرورة تدخل الدولة وأجهزتها في مسار التحديث، لأن نظاما ومؤسسات عصرية أنجع من نظام ومؤسسات تقليدية في الدفع بالتحديث السياسي والمجتمعي من خلال تنزيل الدستور عبر قوانين تنظيمية وعادية متقدمة، وتنظيم سلطة الدولة وأجهزتها، انطلاقا من مبادئ فصل السلط وتوازنها وإصلاح منظومة العدالة بما يحقق الاستقلال الفعلي للقضاء، وحماية الحريات العامة والفردية ونبذ أساليب العنف والحقد والكراهية. إننا ندعو اليوم إلى إخراج منظومة قانونية كفيلة بدرء مخاطر المس بالحريات أو انتهاك التعددية الفكرية أو الابداعية أو الاستبداد بالقرارات السياسية أو تهميش المشاركة الشعبية في صنع القرارات التي تهم الأمة المغربية. الحضور الكريم في ختام هذه الكلمة، لا بد أن نجدد التأكيد على أن احتفالنا المشترك، بذكرى وثيقة المطالبة بالإستقلال، هو التزام وعهد من طرف حزبينا، على مواصلة و تعزيز اللحظات المشرقة من تاريخ الحركة الوطنية الديمقراطية، في انسجام مع الملكية البرلمانية، ذات التوجه الإصلاحي، لتحقيق الطموحات التي ناضل من أجلها أجيال من الوطنيين و المقاومين و أعضاء جيش التحرير، و الذي كان من بينهم علماء و سياسيون و مفكرون، من أمثال علال الفاسي و المهدي بنبركة و امحمد بوستة و عبد الرحيم بوعبيد، و غيرهم من منارات هذا الوطن، الذين صنعوا صفحات مشرقة من تاريخنا، بتوافق تام مع الملك المرحوم، محمد الخامس. إنه عهد منا نعلنه مجددا اليوم، و ما احتفالنا المشترك بذكرى 11 يناير، إلا أحد محطاته في قافلة، ستواصل زحفها، لتصل إلى ما يصبو إليه الشعب المغربي، من خير و رفاه وتعزيز للديمقراطية وللوحدة الترابية. (...)