كي يظفر «راقص الحبل» داخل السيرك بالتصفيق ويحشد في جمجمته صرخات الإعجاب والانبهار، لا بد، أولا، أن يمنح الجزء الأكبر من قلبه للحبل. فهذا الحبل كما يرى جان جنيه يشعر ويتكلم رغم أنه معدني. يقول جان جنيه: «لست أنت من سيرقص وإنما الحبل. فأين تكون أنت؟ إنك تقف في مواجهة الموت، ليس ذاك الموت الذي يتبع سقوطك، وإنما الموت الذي يسبق استعراضك. أنت ميت قبل أن ترتقي الحبل. إنك الراقص الميت». فهل يستشعر الكاتب المغربي هذا الانتماء التراجيدي إلى السيرك؟ هل يعي أن قبره مستيقظ، وأن كفنه الأبيض ينام بأناقة كاملة تحت الحبل؟ إن الكاتب المغربي (ليس على سبيل الإطلاق طبعا) يعيش في سيرك مفتوح، غير أن هذه الإقامة لا تتأسس سوى نادرا على الحبل المعلق في الهواء، أعلى قليلا من بناية من ستة طوابق. الكاتب المغربي ليس «أكروباط»، ولا يخوض أي صراع مع الوثب القاتل، ولا مع صرخات المتفرجين التي تحذر وتحرض. إنه غير معني بإجادة المشي فوق حبل الموت. إنهم لا يسابقون السقوط، بل يصرون على الامتلاء بالتصفيق. إنهم مثل خيول السباق يركضون بحماسة من أجل قطعة سكر تحشر في أفواههم عند خط الوصول. الكاتب المغربي ينتمي إلى السيرك، لكنه يقبع خارج «حائط الموت» (أتذكر هنا الراحل علي بلحسين الذي كان يمتطي دراجته ويلف بسرعة فائقة على حائط الموت لفات أذهلت طفولتنا ب»لافوار» الذي كان يحط الرحال بدرب ميلان بالدار البيضاء في السبعينيات!). إنه إما أن يكون: أولا: المهرج: أن يجعل السخرية من نفسه، ومن الآخرين، مبررا لوجوده. أن يحاول إضحاك الأطفال بحركات عشوائية. أن يبدو لهم غبيا وبليدا ولطيفا وأرعن. أن يخفي وجهه الحقيقي. أن يتفوه بما يحبون، وبما يجعلهم يتقافزون مثل الأرانب. ثانيا: آكل النار: أن يظهر للمتفرجين أنه الأقوى، وأن ما يؤذيهم لا يؤذيه، وأن قدرته على التحمل تفوق قدرتهم، وأنه قادم من كوكب آخر. ثالثا: مروض الأسود (النمور، الأفيال، الفهود): أن يجعل الآخرين يعتقدون أنه قاهر، وأنه يملك وصفة سحرية كي يحجب «طاقة الافتراس»، وأن ضربة سوط واحدة تدخل الجزع في قلوب ملوك الغاب. ويمكن أن نقيس على ذلك كل ضروب السيرك الأخرى، وأن نقول مع جان جنيه لهؤلاء الكتاب: «إنكم البقية الباقية من الزمن القديم الرائع، لقد بُعثتم من البعيد جداً، لقد أكل أسلافكم هشيم الزجاج والنار وسحروا الثعابين ودجّنوا اليمام، وبهلوّنوا بالبيض، وكانوا حدثاً لجمع الخيول من أجل التسلية». فهل معنى هذا كله أن الكتابة مجرد تسلية؟ قد يرى البعض ذلك. لكن تبقى الكتابة، رغم كل ذلك، مرآة تعكس الأحلام والغرائز والحبّ والكراهية والأعطاب والحدس والموت والرغبة في الخلود.. إنها نشاط لا يستشعر حرقته إلا من يكابده، ومهما حاول ممارسة التفكير حوله يظل محاطاً بهالة واسعة من الغموض الذي قد يرقى إلى غموض الكائن الذي لا تحتمل خفته.