قال أمير المؤمنين سيدنا علي رضي الله عنه : »من كمال السعادة السعي في إصلاح الجمهور.« من القضايا التي لن يختلف فيها كل من اطلع على تاريخ البشرية أن التطور لم يتوقف قط وأن الاصلاح والتغيير متلازم معه ..فكما تطورت تكامليا الرسالات السماوية بالأنبياء والرسل الذين يعدون بالآلاف، وصولا الى الاسلام، فكذلك تطورت المجتمعات في سلوكها ومظاهرها وعاداتها وأنماط عيشها وثقافاتها ومعارفها، فظهرت العلوم والانظمة والقوانين إما بتزامن مع مجتمعات الرسائل السماوية، أو بمعزل عنها في المناطق التي لم يسجل التاريخ ظهور الانبياء والمرسلين بها، أو أن رسالاتهم وصلت إليهم لاحقا ...إلا أن تلاقح الشعوب وتواصلها وتعارفها بالحروب أو بالتحالفات أو المعاهدات أو تبادل المصالح والمنافع، جعل الحضارات في شقها الروحي الديني والمادي تتلاقى اختلافا أو اتفاقا أو صراعا أو احتراما متبادلا .. فمن السنن في الخلق والحياة، التطور والتغير في اتجاه الافضل للبشرية أو في اتجاه التعارض مع مصالحها وحاجاتها المتجددة ..ولهذا فليس من العقيدة في شيء ربط الدين بالجمود والتحجر والتقليد والاتجاه الى رفض ما ننتجه ونبنيه بالعقل الذي كرمنا الله به، ليس بمعرفة أننا عاقلون بل بإعماله في التعرف على العلوم الظاهرة التي توصلنا إليها بفضل تجاهل بعض الآراء والاحكام الباطلة التي حرمت ومنعت في أزمنة قبل الاسلام وبعده، العديد من العلوم الفكرية والتجريبية والتقنية كتكفير من يقول بكروية الارض، أو من يقول بأن الارض مركز المجموعة الشمسية أو من يكفر علماء الفيزياء والكيمياء، أو من ينفي ويكذب صعود الانسان الى القمر ...الخ إن تلك العلوم وغيرها والتي كانت موضع محاربة، هي التي أسست ودعمت حركات الاصلاح والنهضة والتقدم والتطور في جميع مجالات الحياة .. ولنا أن نتذكر الجهاد الفكري للرسول صلى الله عليه وسلم في مواجهة وأد البنات والحد من الفوارق الطبقية، والدعوة الى القضاء على الاستعباد والتأكيد على المساواة بين الناس و.. الخ ..مما اعتبر خروجا عن المألوف ومعاكسة غير مقبولة، وإثارة للفتن وقلبا للقوانين المعتمدة والملزمة للمجتمع ... إن من يتصور أن الاصلاح ينتهى بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن باب الاجتهاد أغلق، فقد خالف روح المنهج الذي جاء به الاسلام في التعامل مع الواقع حاضره ومستقبله، وسنجد أن العلماء العاملين والحكام المتنورين قد قاموا بأدوار مهمة وقوية استطاعت بها أمة سيدنا محمد أن تتكامل وتتفاعل إيجابا مع الشعوب التي التحقت بالإسلام، أو انفتحت عليه بآسيا وافريقيا ومناطق من أوروبا.. والقيام بجرد للحركات العلمية والاصلاحية والثورية من فترة الخلفاء الراشدين، مرورا بأنظمة الحكم التي حكمت كل مناطق المسلمين، سيوضح أننا عشنا أزمنة نهضة أصبحنا فيها نقود فضاء الابداع والعلم والمعرفة وأحيانا كانت لدينا السيادة على أمم أخرى بفضل ذلك. فلماذا يتم التأكيد على مسألة الإصلاح الديني من طرف العلماء المجددين ؟ .... لأننا بحاجة إليه ولأنه ضرورة شرعية. فالمسألة لا ترتبط بمشروعية الحديث عنه من عدمها ، ولكن ترتبط بمعالم الإصلاح المطلوب واتجاهاته وأسسه وآفاقه من أجل استرجاع الحيوية والفاعلية والعطاء للعقل المسلم وفتح باب الاجتهاد والابداع والتجديد، دون التناقض والتعارض بين متطلبات العصر ودينامية العقل وفضاءات التحرّر للولوج إلى العصر والملاءمة مع متطلباته، ودون الإخلال بالإيمان اليقيني وروح الدين الاسلامي وأركانه ..وهذا يتطلب امتلاك عقل ورؤية نقدية تقويمية تميز إيجابا ما بين جوهر الايمان والعقيدة وبين المعطيات والوقائع الحديثة والمتجددة المتجلية في مكونات الحضارة المشتركة للجنس البشري، علميا واقتصاديا ومعرفيا وثقافيا واجتماعيا...فالدعوة للإصلاح تعني السمو بالفهم والتفسير والتأويل والمعرفة عندنا بالاستفادة من الدينامية القوية والدقيقة للتطورات التي وضع الله قوانينها وآلياتها وضوابطها في الوجود والموجودات، حيث أمرنا سبحانه بأن نتعلم ونبحث ونستكشف ونتعرف على بديع صنعته وعلى بحار علومه في أرضنا والسماوات والكون يقول تعالى «يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان « لهذا سنجد حصول تغيرات في فهم العديد من النصوص الشرعية بسبب تطور آليات المعرفة والمعرفة ذاتها . وقال الرسول صلى الله عليه وسلم في مسألة التجديد : «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها». وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهّل الله له به طريقاً إلى الجنّة» مسلم. لهذا فطريق الاصلاح والتغيير لابد فيه من الاعتماد على قاعدة الجمع بين العقل والتحليل والفهم الملموس والوحي والسنة، ليقوم كل منها بوظيفته في إبراز وإنتاج المعرفة الصحيحة في شقها المادي الوضعي في علاقة تكاملية مع الإسلام الذي جاء لإعادة البناء في لحظة الوحي وما بعدها من أزمنة وعصور وحضارات متجددة ومتنوعة ومتطورة الى أن تقوم الساعة، ذلك لأن الاسلام هو الدين الخاتم الذي جاء للناس كافة أينما تواجدوا بخصوصياتهم الثقافية والاجتماعية والانسانية والحضارية ...فالإسلام جاء ليتمم ويصحح ويتمم الرسالات ...كما جاء لإخراج الناس من الظلمات الى النور .. والإتمام والإخراج الثوري لا يكون بالجمود والتقليد والتحجر .. إن الشريعة الإسلامية والتي تتصف في جوهرها بالمرونة والوسطية تتجاوب دائماً مع مصالح الناس في كل زمان ومكان، وستظل دائماً متجددة ومواكبة لكل تقدم حضاري مادام هناك مجددون يدركون أهمية الاجتهاد، لهذا وضع الفقهاء جملة من القواعد الشرعية منها « أينما تحققت المصلحة فثم شرع الله» و»المشقة تجلب التيسير» و»الامر اذا ضاق اتسع» و»لا ضرر ولا ضرار» و»الامور بمقاصدها» و»إعمال الكلام أولى من إهماله «و»المفضول قد يصبح فاضلا لمصلحة راجحة «... إن الاصلاح لا يعني الغاء النصوص المقدسة ،بل يعني تطوير الفهم والملاءمة والوعي بالدلالات في آفاقها ومقاصدها وإصلاح مستويات الادراك والاستيعاب وإصلاح المنظومة الفكرية للمجتمع والدولة والهيئات . إن مكانة العمل في الإسلام وأمره به في شتى مجالات الحياة المادية والفكرية مسألة جوهرية ، يقول تعالى : «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون» التوبة: 105.والعمل بالعلم هو طريق الاصلاح والتقدم والتطور الذي يحقق للناس السعادة في الحياتين معا .. قال تعالى «ان أريد إلا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله )) هود 88 ونختم بقولة لأمير المؤمنين سيدنا علي رضي الله عنه : «»عجبت لمن يتصدى لإصلاح الناس ونفسه أشد شيء فسادا فلا يصلحها، ويتعاطى إصلاح غيره».