لي طريقة واحدة في الاحتفال بالجبل: أن أصعده. لي طريقة واحدة في الاحتفال بالأرض أن أنزل إليها باستمرار.. قادما من فكرة في الرأس أو من أقصى العائلة. لا طريقة لي مع الكوكب سوى أن أحتفي به. صعودا أو نزولا، مطرا أو سحاب. قالها للبشرية كلها شاعر تونس أبو القاسم الشابي: قبل أن تصبح نشيدا لبلاد الياسمين، كانت قصيدته، ومن لا يحب صعود الجبال يعش أبدا الدهر بين الحفر. نشيدا للكائن الكائن المستقيم. فما جدوى أن ينزل جد البشرية من الشجرة، ويكتشف أبناءه القادمين، إذا لم يكن ذلك من أجل الصعود دائما.. الجبل استعارة سياسية أيضا: نحن نصعد.. الجبال عندما تضيق الشوارع بنا، وعندما تضيق الدولة بنا، وعندما لا يعود في الأرض متسع للإنسان. الجبال، قمة النشيد. الجبال عندما يقولها الشاعر الفلسطيني، ورمت معاطفها الجبال وخبأتنا. وأكون أنا الفتى .. النواري في فكرة الشاعر الثوري. الجبال لا تمضي مع السحاب. الجبال تحرس الموتى.. وتسهر على القادمين. الجبال همزة وصل، أيضا، بين الرجال وبين النساء وبين البشر... لم يعد يسكنها الخوف، تلك الجبال، ولا يسكنها النمر أيضا. ذهبت قصصها مع الفقيه العمارتي. وذهبت مع العجوز العمياء تلايتلماس .. وذهبت مع البراكين التي لم نرها وسمعناها من فم جاك برلي.. جبال انتيغون التي ولدت من الرماد والخراب، ومن الإعصار الحامل للرماد.. الجبال التي تختبيء من الشمس بلحاف من الثلج.. سقط بالقرب منها رجال الكفاح المسلح: اسرعوا في موت بارد ذات ربيع معلق. القرى التائهة في الجبال من فرط البعد.. وفرط الفصصاف، وفرط البلوط أيضا. الجبال حيث تسكن الرئات التي سكنها البرد، ويسكن الفقر طويلا قبل أن تذوب الثلوج.. الذين يقفون عاليا في الصقيع وفي القرب من السماء، أولائك الذين ينزلون، على مضض، إلى الحفر، حيث الكثيرون يبنون المدن، وحيث التاريخ يتريث طويلا لينصت إلى صفير القطارات وصلصلة السيوف. أو يطل من الكتاب لماذا نعرف الخريف، بمجرد أن يطل الجبل من الأعلى.. أو يطل من شفتين أطلسيتين، تبتسمان بطبيعة الماء. الجبال تأمرك أن تكتب الحفر لا صوت لها. الحفر بلا كلمات.. وبلا صدى، هل رأيت، أيها القلب المسكين الآن إلى نوارة شاشتك، مدنا ترد الصدى؟ الجبال، هناك حيث ينبت الخشخاش، لا لسبب واضح، بل لفرط الأسطورة فقط.. ونكاية في الثلج القادم من الشمال. الخطاطيف تكون جميلة، وهي تقترب من الجبال وسرعان ما تسقط في التشابة حين تكون فوق الأسلاك الكهربائية:لا بد من جنة مفترضة لتعويض الفراغ الذي يتركه الجبل. الجبل الذي يستكين طويلا إلى الليل، هو الذي عرف متى سيطلع الضوء.. يسره له بذلك طير الليل الأسود. الذي يفضح لونه قبل وصول الشمس. سيمر الرعاة من هنا: لن يذهبوا إلى أية كنيسة، ولن يذهبوا إلى أي أتباع. الرعاة في الجبل، يموتون من فرط القمة. الرعاة لا يتركون روائح ، يتركون أثارا في الصخور. ويكتشفون من باب الدهشة أن مجموع الصخور لا يصنع جبلا.. الكلام الذي ينبع في أعلى الجبل، هو الكلام الذي يعرف عنا ما لا نعرفه عنه، هكذا قال روني شار. روني شار لم يكن يعرف الجبال هنا.. لهذا كان يتساءل دوما: كيف يمكن العيش بدون مجهول يقابلك .. يا سلام سافرت كل جبالي إلى قصائد فرنسا. سافرت أيضا، لكي أظل رجل المطر وطفل المساء الضاحية فوق الجبل. الجبال، صندوق المغنية، الصيحات الأطلسية وهي تردد أصلها الرباني في الهواء الطلق. الجبال.. معابر المجد الذي لم يكتمل.. أحبك خضراء يا أرض خضراء تفاحة من الضوء والماء.. أيتها الأرض التي ترسو بك الجبال في الفراغ الهائل للكون.