ليس مقصودنا من هذا الحديث الكلام عن تعريف تحليل الخطاب، وعن مدارسه، ونظرياته، ومجالاته، التي يهتم بها، لكن ما سنقترحه عليكم هو تقديم مفاهيم كلية، فمفاهيم عامة، فمفاهيم خاصة، ????يلها على وقائع معينة. 1 - المفاهيم الكلية نعني بالمفاهيم الكلية الوحدة، والتَّطبيع، والتقابل، والمخاثلة. أولاً: الوحدة ينبني هذا المفهوم على أساس أسئلة واردة؛ أولها: من أين جاء هذا الكون الذي تعيش فيه هذه الكائنات والموجودات؟ أاِنبثق من عدم؟ أتَوَلَّد من شيءٍ؟ هل حصل انبثاقه، وهو في حالة تمام وكمال؟ هل نَمَا شيئاً فشيئاً في صيرورة غير منتهية؟ هذه الأسئلة شغلت الفلاسفة والمتكلمين، والفيزيائيين، والباحثين في انتظام الكون، منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا. وهكذا، فإن النقاش ما زال محْتَدِماً بين من يقول بالخَلْقِ من العدم، أو من شيء مَّا، وبين من يتبنَّى عقيدة الاِنْفِجَار الأكبر، ومن يأخذ بأطاريح التطور التدريجي، وبين من يظن أن هذا الكون ثابت مستقرّ هَامِدٌ خَامِدٌ، وبين من يفترض أنه في حراك دائب يتكامل فيه النظام واللاَّنظام، والانتظام واللاّانتظام، والفوضى والانسجام. على أن الفكر المعاصر يغلب الخلق من شيءٍ مَّا، وأن هذا »الشيء ما« انْشَطَر، وتفرَّع، وانفجر، إلى كائنات، وموجودات، متعددة متنوعة. وتبعاً لهذا يعثر القارئ على تعبيرات مثل: »الوحدة المتعددة« وما يرادفها، وبُنِيَتْ عليها نظريَّات، ومناهج، و???يلات علمية، وسياسية، واجتماعية. ثانياً: التطبيع تتجلَّى الوحدة المتعددة في الكائنات، والكيانات، والموجودات، المعروفة، والمجهولة، والمحسوسة، والمتصورة، والمجردة؛ إلا أن ما يجمع بينها هو الحياة الشاملة. وإذا ما سلم بهذا المفهوم، فإن الكواكب والنجوم، والأحجار المتنوعة، حيّة، مثلها مثلُ كل ما له حياة؛ وابرز الكائنات الحية هو الإنسان الذي خلق مُجْتَمَعَات ذات ثقافات. ويَنْبَنِي على هذا أن الوحدة تتضمن قوانين كلية وعامة، وخاصة؛ أي شاملة لكل ما في الكون، وعامة تنطبق على أجناسه، وأنواعه، وخاصة بكل ذات ذات. تأسيساً على هذا اقترحنا مفهوم التطبيع؛ ونعني به أن ما يُعزى إلى الطبيعة من قوانين هي ما يَسْرِي على الإنسان، ويَجْري عليه، ويسري على مصطنعاته ويَجْري عليها بالضرورة؛ أي أن كلَّ أفعال الإنسان، وأعماله، محكومة بقوانين تكوينية، والقوانين التكوينية تجليات لقوانين الطبيعة؛ على أن بعض الإبستمولوجيين قديرون في هذا المطرح رجوعاً إلى الوضعية الفجة التي تجعل دور الباحث مُختصراً في اكتشاف قوانين الطبيعة الموجودة والمعطاة، بناءً على ملاحظاته الصائبة إذا كان ذا حدوس موفقة، في حين أن هناك قدرات تشييدية للإنسان، وتخييلية تجعله يخلق المفاهيم، ولربما الواقع لتنمية ما في الطبيعة والربط بين مكوناتها، وتحقيق التكامل بين متقابلاتها؛ وبهذا يجمع بين الملاحظة والتصور، وبين قوانين الطبيعة والبيئة، وبين قدراته الذاتية التي تجعله قادراً على الخلق والإبداع حيناً، وعلى التغيير والتكييف حيناً. ثالثاً: التقابل إذا كانت دينامية الكون واضحة، فإنها تَتَحقَّقُ بآليات التّكامل، والتفاعل، بين النظام واللاّنظام، والانتظام واللاّانتظام؛ أي بين ثنائية ضروريّة للوجود، وبين ما فوقها الذي هو مطلوب للاستكشَاف، والتّوْليد، والتنّظيم، والاستغلال. ومعنى هذا أن التّقابُل طبيعي؛ وإذا كان الأمر هكذا، فإنه مُتجذِّرٌ في الفكر البشري. لذلك صنف الأشياء، والكائنات، والكيانات، والأفكار، على أساس هذه المنهاجية الثنائية كالذَّكَر والأُنْثَى، والخير والشر، والداخل والخارج، والظاهر والباطن، والفوضى والنظام... إذا كان طرفا الثّنائية، أو أحدهما، أو كلاهما، مما يسمح بالتقسيم، أو التجزيء، يحلل إلى أن ينتهي إلى الجزء الذي لا يتجزّأ، وما لا يتيح التحليل فإنه يُجمَّد. ومن يقرأ كتب الفلاسفة، والمناطقة... يجد هذه الثنائية تُكَوّن لُبّ منهاجيّاتهم. وعليه، فليست وليدة التحليل الكيميائي، أو اللساني؛ إلا أن قصورها واضح لاعتبارها نواة بسيطة تفرَّعَتْ إلى ثنائية. وأما إذ نظر إليها على أنها نواة مركبة فإنها يمكن أن تنشطر إلى ثلاثة، أو أربعة، أو ما يزيد على ذلك، كما أن ما يعزز هذه الوجهة من النظر ما ورد في باب الأضداد اللغوية كالقرء، والْجَوْن، والْجَلَلِ، والسُّدْفة، والإنسان؛ فكل من هذه المفردات تتكوَّن من ثلاثة أطراف؛ وهناك مفردات أخرى يمكن أن تجزأ إلى أربعة فأكثر. ولعلّ أشهَرَ قسمة هي الرباعية التي أشاعها أرسطو فانتشرت من بعده إلى يومنا هذا.. على أن ما يعنينا هو أن نُنَبِّه إلى أن التقابل يستند إلى المنطق، والرياضيات. ودعي هذا الصنيع بالقسمة العقلية التي تحكمت في تأليف بعض المعاجم اللغوية، وبعض الكتب البلاغية. ما يهمنا من هذا أن ما يبدأ منه يمكن أن يدعى بأسماء مختلفة. وقد نتواضع على أنه نواة تُدعى بألقاب الميدان الذي تتحدث عنه؛ فهي الْجُزَيْءُ في الفيزياء، وهي الخلية في البيولوجيا، وهي الْحَبُّ في المزْرُوعَات، وهي اللفظ في اللغة. وهكذا، فإن الحبة قد تتولد منها شجرة ذات جذوع، وأغصان، وفروع، وأفْنان، وأزهار، وجنى... ويتفرع من اللفظ حروف، وأسماءٌ، وأسماءٌ، وأفعال.. ومن الخلية مكونات الأجسام، ومن الجزيءِ عناصر الفيزياء. ونعتقد أن مقدار الانشطارات، والتشعبات، والتوالدات، والتناسلات.. محكوم بكمية المكونات، والعناصر الأولية؛ ولعل اللغات خير دليل على هذا. فقد احتوى معجم العربية على الملايين من المفردات المستعملة، والمهملة، بالتوليد، وبالقلب، وبالعكس، وبالإبدال. وخلاصة ما يراد قوله هو أن هناك تماثلاً بين التفرعات، لكن هناك اختلافاً بينها. رابعاً: المخاثلة إن هذا الوضع هو ما اضْطَرَّنَا إلى أن نقترح مفهوماً أو سع؛ وهو المخاثلة الذي نَحَتْنَاهُ من الْمُخَالَقَة والمماثلة. نعم تحدثت عنه كتب فقه اللغة، والمعاجم العربية، ومصنفات البلاغة، والكلام، وأصول الفقه، والمقاصد... باستنادٍ إلى ما كان لمؤلِّفيها من علوم العصور القديمة والوسيطة. وقد وظفه السيميائيون الفرنسيون باسم التشاكل واللاّتشاكل، ومحللو النص والخطاب، والمناطقة، بأسماء مختلفة مثل الالتحام، والاتِّساق، والانسجام. كان من أهداف القدامى إثبات جمال الكون وجلاله وانسجامه، وكان من غايات المحدثين والمعاصرين تسهيل الاستدلال، والتَّنَبُّؤ، وملء الفراغ، والسُّرعة في الترجمة. وقد اعتمدوا على علوم عصرهم مثل الفيزياء، والرياضيات، وعلوم التحكم الذاتي. أعدنا النظر في المفهوم باعتماد على مُنْجزات ما يدعى باسم ما بعد الحداثة التي هي إعادة قراءة لِتُرَاثِ ما قبل الحداثة وتأويل لفكر الحداثة؛ وأهمُّ ما بشّر به ما بعد الحداثة هو رفض الثنائية الحادة، وتبني التركيب؛ وهكذا، فإن هناك تكاملاً بين الاتصال والانفصال، والانسجام والتنافر، والانتظام واللاّانتظام، والوحدة والتعدد. ونتيجة هذا أن كل ما في الكون مُتفَاعلٌ مُتشَاوِبٌ متكاملٌ، بِعلائق العموم والخصوص، بين مكوناته؛ أو بالانعكاس. وعليه، فإنه لا تناقض بين الطرفين، وبين الأطراف التي بينهما. وينطبق ما قلناه على كل بنيات الكون، سواء أكانت طبيعيّة أم حيوانية، أم مصطنعات. لهذا يجب تعميم هذا المفهوم. وهذا التعميم هو ما تفطّن إليه فقهاء المقاصد؛ يقول الشاطبي: »ليس في الدنيا مصلحة محضة، ولا مفسدة محضة؛ والمقصود للشارع ما غلب منها« (ج 2، ص 25) من الموافقات. 2 - المفاهيم العامة تلك إضاءاتٌ حول مفاهيم الوحدة، والتطبيع، والتقابل، والمخاثلة. وقد زعمنا أنها تحاول الكشف عن آليات تكوُّن الطبيعة، وعن كيفيَّات سَرَيَان الحياة فيها. وقد عَزَّزْنَاهَا بمفاهيم عامة تتعلق بشروط ضرورية لمعيشة الإنسان في هذا الكون؛ وهي الوسائل الحسية، وآليات التفكير، وأدوات التعقل؛ أي الدَّاركة، والذاكرة، والعاقلة. أولاً: الدَّاركة نعني بالدَّاركة، أو الإدراك، المستوى المعرفي الأول الذي يُحَصَّلُ بإحدى الحواس، أو بِبَعَضِها، أو بِتضافرها؛ والحواس الخمس معروفة، لكن أهمَّها حاسة البصر التي تَخْتَصُّ بمظاهر الأشياء، من حيث أشكالُها، وألوانُها، وحركاتها، بواسطة ما في الدماغ/ الذهن من مُتَلَقِّيَاتٍ، ومن عُصْبُونَاتٍ، ومن بَاحَاتٍ، لها موَاقِعها. وقد أفاض باحثون ذَوُو تخصصات مُتَعَدِّدَةٍ في تَبْيَان أدْوَار الحواس في الإدراك. على أنّنا سنكتفي بما له صلة فيما نحن فيه؛ ومن بين تلك الأدوار تصنيف الأشياء إلى مقولات، وأجناس، وأنواع، وأصناف، باعتماد على إدراك الخصائص الحسية المشتركة بينها التي تجعل ما يثبت لبعض منها يثبت لآخر، والأشكال، والألوان، والأوضاع، والوظائف. وقد تكثر المشتركات، وقد تَقِلّ؛ وبناء على الكثرة والقلة يَتحَدَّدُ نوع العلاقة كَأَنْ يكون مطابقة، أو مُمَاثلة، أو مشابهة...؛ ومن أشهر العلائق ما دُعِيَ بالتشابه العائلي الذي أشاعه فتجنشتاين؛ ومن بين تلك الأدوار توظيفهَا في العمليات التعليمية، والدينية الوعظية، والإرشادية، والإقناعية، والإمْتَاعِيّة. ثانياً: الذاكرة إلا أن وسائل الإدراك الحسية تقتضي وجود ما يسمى بالذاكرة التي تخزّن فيها المعلومات، وتتجمع في بنيات، أو في مجموعات متشابهة، من حيث أشكالها، وألوانها، وتقاربها...؛ الذاكرة إذن، خزان لكل الأرصدة المعرفية، أو الوهمية... الحاصلة من الحواس الخمس. كانت الذاكرة موضع اهتمام من قبل الطب القديم والوسيط، وقد زاد الاهتمام بها في وقتنا الحاضر لازدهار العلوم المعرفية، والذكاء الاصطناعي. هكذا تكلم المختصون عن أنواعها، ووظائفها، وذكائها، وأعطالها. ويرد هذا الاهتمام إلى محاولة تَنْمِية الذكاء البشري لفهم أسرار الطبيعة، والحياة. ومن ثمة يفهم نفسه؛ الإنسان محاكاة للطبيعة، ومخترعاته محاكاة له؛ إنه دَوْرٌ خَلاَّق. ما نهتم به في سياقنا أن الخطاب الإنساني مُصْطَنَعٌ إنساني، والإنسان نفسه مصطنع طبيعي. ومصطنع الخطاب يتأسَّس على نواة بارزة دعيت بالنموذج الأمثل، وعلى صيرورة تعكس تسلسلاً مفترضاً يحاكي بنيات ذهنية سُمِّيت بالأطر، وبالمدوّنات، وبِالنماذج الذهنية... حسب متطلبات السَّبَبِيّة التقليدية، أو تقديماً وتأخيراً... تبعاً لمبدأ اللاَّنظام، مما يؤدي إلى استخلاص الانتظام. ثالثاً: العاقلة يتبيّن مما سبق أن الذاكرة هي حجر الزاوية في تحصيل المعرفة، وخزنها، وتدبيرها.. لكنها ليست آلة مادية تتحرّك في رتابة، وتخضع لتعاليم صارمة، وإنما هي حرة، خادعة، وماكرة.. لهذا كان لابد من وجود ضابط، ومراقب؛ ذلك هو العاقلة، أو الذَّاهنة، التي قد تكون تحتوي على آليات الاستدلال الذي يشمل المقايسة، والاستقراء، والاستنباط، والفَرْض الاستكشافي. نعني بالمقايسة فهم ما هو مجهول بما هو معلوم لوجود ما يجمع بينهما حقيقة، أو افتراضاً إذا كان طرفا المقايسة بِنْيَتَيْن مختلفتين، أو سَدُّ الثغرات في البنِيَة المقيسة، أو إبعاد الدخيل عليها إذا كان غير متلائم مع عناصرها، وغير موجود في البنية المثاليّة؛ على أن المقايسة قد تتم بين أربع بِنىً، أو أربعة حدود كما هو الشأن في التناسب الرياضي وغيره، حين يقال: نسبة كذا إلى كذا كنسبة كذا إلى كذا... ما يعنينا من هذا هو توظيفه في تحليل الخطاب، كأن يضاهى بين خطاب وخطاب ينتميان إلى الجنس، أو إلى النوع نفسه، وكأن يفهم خطاب بخطاب إذا استعصى إدراك معاني أحدهما، أو فهم آليات توليفه؛ والمقايسة تتويجٌ لآلية الاستقراءِ التي تدعى في تحليل الخطاب بالإستراتيجية التصاعدية، ولآلية الاستنباط التي تسمى بالاستراتيجية التنازلية. وتوظَّفُ الإستراتيجيَّتَان في تحليل الخطاب المعتاد؛ على أن بعض أنواعه يُخَالف المألوف كما هو الشأن في الْمُعمَّيات، وفي الألغاز، وفي بعض الأشعار..؛ ففي هذه الأنواع لا تكون هناك معطيات ذات معنى قار ينطلق منها المحلل لبناءِ المعاني، والدّلالات، وإنّما توجد هناك علامات قابلة لعدة تأويلات. وهذا الوضع يفرض على المحلل أن يلجأ إلى افتراضات استكشافية يُحَلّلُ في ضوئها، سالكاً طريق التجربة، والخطأ، حتى يَهْتَدِيَ إلى ما يراه مقبولاً من المعاني، والدّلالات، متلائماً مع معرفته الخلفية. مفاهيم الدّاركة، والذاكرة، والعاقلة، عامة يمتلكها إنسان سَوِيّ، في حين أن مفاهيم الوحدة، والتطبيع، والتقابل، والمخاثلة، كلية؛ على أن الاكتفاء بهذه المفاهيم يؤدي إلى إغفال التعدّد، والاختلاف في هذا الكون، مما يُحَتِّم اقتراح مفاهيم خاصة. 3 - المفاهيم الخاصة تكون المفاهيم الخاصة الركن الثالث لِمَا يُدْعَى بِنسق الفكر المركب الذي ينطلق من الوحدة المتعددة، والمتقابِلات المتفاعلة...؛ وسَنَمْنَحُ لِتلك المفاهيم الأسماء الآتية: هي التّهاوي، وخصوصية الميدان، والسياق. أولاً: التهاوي دأب كثير من المناهج، والتّصورات، على تقسيم الواحد إلى أقسام، وتجزيء الكل إلى أجزاء، منذ القديم إلى يوم الناس هذا. وقد حَتَّمَتِ القسمة، والتجزيءِ ضروراتُ التحليل، ومظاهرُ الطبيعة التي تحتوي على مكونات، وكائنات متعددة. تقتضي التحليلات أن يقسم »الشيء« إلى أجزاءٍ عُلْيَا ودُنْيَا بينهما أجزاء؛ هناك الكون الأكبر، وهناك الجزيء، وهناك ما بينهما من مكونات »جامدة«، وحية؛ وكل من الجامدة، والحية أجناس، وأنواع، وأصناف، كما أن المعنويَّات من معرفة، وحُكْم... قابلة لأن تجزأ؛ المعرفة علم، وظن، وَشَكٌّ، ووهم...؛ والعلم علم اليقين، وعين اليقين، والحقيقة المطلقة...؛ والظن إلى أغلب الظن، وكثير الظن... وقليل الظن، وبعض الظن...؛ وهكذا، فإن من يقرأ كتباً من التراث الفلسفي، والكلامي، والأصولي... يجد فيها حديثاً عن المراتب، والدَّرجات، وعن ارتفاعها، وانخفاضها..؛ ومن يطالع كتب الفلاسفة، والمناطقة واللسانيين... من المحدثين، والمعاصرين، يُلْفِيهَا لجأت إلى التقسيم، والتجزيء، باعتباره أداة منهاجية توظف لتبسيط المعقد، وتحليل المركَّب، حتى يتحقق الفهم، ويتم الاستيعاب؛ وهذه الغايات جعلت بعض الباحثين يصوغ قاعدة قُبِلَتْ من قبل المهتمين؛ هي: »كل شيءٍ قابل لأن يُدَرَّج«، كما أن هذه المنهاجيَّة انبثق عنها نقاش حول العلاقة بين الأجزاء والكل، وبين الكل وأجزائه، وحول طبيعة المعرفة الناتجة عن الكل، وعن الجزء. لقد وجهت انتقادات إلى التَّجْزِيئية، والكليانية معاً؛ على أن الانتقادات العادلة للتجزيئية يجب أن تتناول ما يضع أسواراً بين المجزّآت، وللكليانيّة المجردة، أو المتوهمة، التي ليست مستخلصة من وقائع محسوسة، أو عقلانية مقبولة؛ إن الكليانية الحقة، والتجزيئية المعقولة، متكاملتان تكامل المقولة مع أفرادها، والجنس مع أشخاصه، والوحدة مع أعدادها. في ضوء هذا التصور التكاملي أبْرَزْنا تداخل هويات الشِّعر والموسيقى والمسرح والرسم وصناعة الأشكال وعلم الكلام وعلم الأصول وعلم الجدل. وبناء على هذا التهاوي يُمكن صوغ التعابير الآتية: الشعر موسيقى، والشعر مسرح، والشعر جدل... والموسيقى علم كلام، أو علم أصول، أو علم جدل... ثانياً: خصوصية الميدان يتبين من هذا أن هناك وحدة، وتوحيداً؛ الوحدة هي المعرفة الإنسانية التي عُدِّدَت بالشعر، وبالموسيقى وبالكلام وبالأصول...، والتوحيد هو إرجاع تلك المعارف إلى أصل أصيل، وإلى كلية كليانية؛ الوحدة، إذن، هي البداية، والتوحيد، إذن، هو النهاية؛ وما بين البداية، والنهاية، أسماء استمدت خُصوصِيَّتها من ميدانِها الذي أُنشئ لإشباع حاجات إنسانية روحية، ومادية؛ هكذا كان للشعر خواص وظيفية، ووسائل لتحقيقها، ومجالات للتحقيق، وكيفيات للتحقيق؛ إلا أن تلك الخواص التي جعلت من الشعر شعراً ليست جامدة مطلقة، لكنها متطورة حية نسبية لاختلاف طريق استعمال المادة، وكيفية التعامل مع الفضاء..؛ ومثل هذا يقال عن كل علم، وفن من الفنون. ثالثاً: السياق إن ما يحدث التطورات، والتحولات، والثورات، هو ما يدعى بالسياق، أو النسق البيئي. ولقد اعتادت الأبحاث المتداولة بين الناس أن تُلْقِيَ بعض الأضواء على البيئة منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، إلاَّ أن ما كتب كان جزئيّاً لم يراع كل العناصر المكونة للنَّسق الْبَيْئِي؛ وهي مادية طبيعية، وحياوية عامة؛ سواء أكانت عُلْيَا أم دُنْيَا، أو صغيرة الحجم، أو كبيرته، أو كانت ما بين الْحَدَّيْن. كما أن بعض الأبحاث تناولت المكوّنات النفسانية للإنسان؛ بَيْدَ أن أغلبها كان مجرد تخرصات، أو افتراضات، رَفَضَتْ بعضها، وأكدت بعضها، علومٌ معاصرةٌ، مثل طب الموَرِّثَات، والأعْصَابِ، ووظائف الأعضاء.. وعلم النفس المعرفي، إلاّ أن السِّجال ما زال حادّاً بين الباحثين. ويُمكن تصنيفهم إلى ثلاث فئات؛ فئة تُسْنِدُ الغَلبَة للنسق البَيْئِي، وفِئة تَعْزُو الهيمنة للنسق الدِّمَاغي، وفئة تُلِحّ على التكامل بين النسقين. تلك إضاءات لمفاهيم ثلاثة؛ هي التّهاوي، وخصوصية الميدان، والسياق؛ وهي متعلقة بالإنسان في المجتمع. وهذه المفاهيم هي الحلقة الثالثة من حلقات المنهاجية المركبة التي يزعم بعض الباحثين أنها إبدال القرن الواحد والعشرين. 4 - ???يلات أولاً: التركيب تنتمي هذه المنهاجية المركبة إلى ما بعد الحداثة، وما بعد الحداثة إعادة قراءة للحداثة، وما قبل الحداثة. وهي تبحث في كيفية تكوُّن الأنساق المعقدة المنتظمة ذاتياً، سواء أكانت لغوية، أو اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو علمية، بتفاعل تقابلات، وتكاملها، كأن يكون الأمر هكذا: موالاة/ معارضة/ تفاعل/ انتظام = تبني مشروع، أو قانون، أو موقف. أو: جواهر/ ظواهر/ ذوات/ بيئات = انبثاق شيء، أو ظاهرة. نُسِجَت هذه المنهاجية من الفيزياء، والبيولوجيا (علم الحياة)، والكسمولوجيا (انتظام الكون)، والرياضيات، والمنطق، والاقتصاد..؛ وتحضر هذه العلوم بالمفاهيم الآتية: المكان، والزمان، والمادة، والملاحظ، والدينامية، والانشطار، والتفاعل، والانتظام، والمتناهي، واللاّمتناهي، والوحدة، والاختلاف، والفوضى، والنظام، والخطية، والدورية، والانعكاس، والمعلومة، والخطاب، والتواصل، واللَّعِب ، واتخاذ القرار، والعمل. ثانياً: الترحل تَرْحَل هذه المفاهيم من ميدان إلى ميدان بطريق الاقتراض؛ هكذا استعارت الفيزياء من الموسيقى الوتر (نظرية الأوتار)؛ والبيولوجيا من اللسانيات الخبر، والمعلومة، والتواصل؛ واقترض تحليل الخطاب من الفيزياء الدينامية، والانشطار، ومن علم الحياة التوالد، والتناسل، والتنظيم الذاتي..؛ ورَحَلَ اللعب من موطنه الأصلي إلى التحليل اللساني، والاقتصادي، والرياضي، والاجتماعي، والسياسي. ويزداد الاقتراض حين يهيمن علم من العلوم في حقبة مّا، كالفيزياء، أو الكيمياء، أو علم الأحياء، أو اللسانيات.. فيصير العلم الْمُهَيْمِن أصلاً تحل به مشاكل العلم الفرعي. ثالثاً: اللاَّتحديد بيد أنّنا نُنَبِّه إلى أن بعض المعطيات الأناسية، والتاريخية، تساعد على ضبط زمان انتقاله من اللغة العادية إلى اللغة المفهومية، وعلى تحديد وقت ارتِجَاله، والتواضع عليه؛ وعلى تعيين مسقط رأسه، لكن لا يتيسر أحياناً كثيرة ذلك الضبط، والتحديد، والتعيين، كشأن مفهوم الملاحظ. هل موطنه فيزياء إينشتاين؟ هل التجارب العلمية؟ هل انتظام الكون؟ هل علم النفس؟... ما الموقف من مفهوم النُّوتْرِينُو العقيم في الفيزياء؟ ألاَ تُضَاهَى به الألفاظ المهملة، بل المستعملة في المعاجم اللغوية؟؛ لكن العقيم في الفيزياء، وفي اللغة معاً، يكتسب طاقته، أو معناه، حينما يؤلف. فهل يمكن الزعم أن الفيزيائيين استوحوا من صنيع لُغَوِيّ العصور الوسيطة؟ فهل التجارب وحدها هي ما أدت بهم إلى هذا الاكتشاف؟ هل يُبَاحُ للّساني أن يعتمد على الفيزيائي؟ هل يمكن غَضُّ الطرف عن كُلِّ هذه الأسئلة فَيْدَّعَى أن قوانين مصطنعات الإنسان هي قوانين الحياة، وقوانين الحياة هي قوانين الطبيعة؟ رابعاً: الانتقائية وإذا ما صَحّ هذا، فإن التقارض عملية ضرورية. وعليه، فإن محلل الخطاب يمكن أن ينتقي ما يحل به مشاكل التحليل من أي علم أو فن، وكذلك هو حال رجل السياسة، أو الطب، أو الحرب، أو علم الطبيعة، أو علم الأحياء... هكذا تكون هذه المنهاجية، أو الإبدال، إطاراً للوحدة المتعددة التي يتحقق بها الترابط، والتداخل، بين كل ما في الكون. نص المداخلة التي ألقاها د. محمد مفتاح الأربعاء الماضي بكلية الآداب ببنمسيك