«مقال في المنهاج» سبقنا إليه ديكارت، نأخذه كعنوان لهذه المداخلة التي تروم قراءة كتاب د. محمد مفتاح «التشابه والاختلاف» بعنوانه الفرعي «نحو منهاجية شمولية». المركز الثقافي العربي ط.1. 1996 الدارالبيضاء. إن التساؤل الذي يبدو لنا قادرا على استشكال الكتاب برمته هو التالي: ما الأصل التشابه أم الاختلاف؟ وإن شئنا الدقة، قلنا ما الأصل في التلقي والتأويل، في تحليل الخطاب، والتأريخ للثقافة هل هو التشابه أم الاختلاف؟ وإن قصدنا التخصص ركزنا على التشابه والاختلاف في الفلسفة ومفاهيمها. الجواب المباشر يمكن أن نستشفه من مقابسات أبي حيان التوحيدي «أعرف حقائق الأمور بالتشابه فإن الحق واحد ولا تستفزنك الأسماء وإن اختلفت» ومن قولة غريغوري باتسون» التشابه يسبق الاختلاف» أو «التشابه أقدم من الاختلاف». أما التعريف الذي يقترحه علينا د. محمد مفتاح فهو «التشابه والاختلاف مبدآن عامان شاملان لكل ما في الكون من ظواهر طبيعية وثقافية إذ بها يمكن التوصيل والتواصل بين الكائنات الطبيعية والثقافية أو بهما يتم النمو والتطور» (ص6 نفسه). نلاحظ أن المفهوم الأول التشابه يشير إلى الانتظام/الترتيب/والتجاور/والاتصال/والنسقية/والتدرج/والانسجام/والتوازي/والتماسك/والتنضيد/والتناظر/. أما الثاني (الاختلاف) فيثير الانفصال والقطيعة والتشتت/والكثرة/والتفاعل/والنمو/والتطور/والتحقيب/والتضاد/والفوضى/والعماء.. وهما شبيهان بمفهومين سابقين عليهما، استطاعت البنيوية من خلالهما تزمين وتحقيب البنيات بصفة عامة، هما الدياكروني (التتابع في الزمان) والسانكروني (التزامن في الحقب). لكن «التشابه والاختلاف» مفهومان أكثر شمولية منهما، فهما لا ينحصران في الزمان فقط بل يتعديانه إلى العلوم الحقة ومن ثمة إلى الفلسفة والوجود. ولقد سبق لجيل دولوز (فيلسوف فرنسي) أن اشتغل على صنوين لهما هما Différence et Répétition (1969) مبينا أهمية التكرار إلى حد التشابه في فهم الظواهر (كالعود الأبدي لنيتشه) وأهمية الاختلاف كوجه من أوجه تكرار المختلف إلى حد التشابه. الخلفية الفلسفية لهذين المفهومين، هي تأويل الكون وتفسيره، فالتشابه يفترض انتظام الكون والاختلاف يفترض تشتته، الأول يفرض النظام والميقات والثاني يفترض العماء أو الكاووص (Chaos). كل هذه المفاهيم يذكرنا بها د. محمد مفتاح ويشرحها لنا باقتدار ودقة طيلة التمهيد إلى حدود توظيفها في التحليل الثقافي، ثم يستأنفها في النثر (في كتاب البصائر لأبي حيان التوحيدي) وفي الشعر (في ديوان الشابي) وفي التأريخ لحقب الثقافة المغربية. النظرية الأدبية والثقافية التي يرتكز عليها د.محمد مفتاح هي: «النظرية العامة للأنساق» وهي نظرية لا تخفي استعارتها لمبادئها العامة في العلوم (الفيزياء- البيولوجيا- الاقتصاد وعلم الاجتماع) لكن الأهم في هذه الاستعارات «ليس هو تطويع المفاهيم العلمية وتكييفها حتى يمكن فهم الظواهر المختلفة وتفسيرها وتأويلها ومع ما لهذا المجهود من قيمة ثقافية لا تنكر فالهاجس الذي لا يمكن إخفاؤه كان هو الكشف عن الأبعاد الإيديولوجية والعملية الثاوية وراء توظيف تلك المفاهيم والمبادئ والترويج لها...» (ص6). وإذن «النظرية العامة للأنساق» لا تؤخذ على علاتها ولا على بريقها ورونقها؛ إنما تؤخذ بحذر نقدي لا يخفي حقيقة رؤيتها وتصورها للأدب والثقافة كأنساق. ومبادئ التنسيق هي: أ?- كل شيء يشبه كل شيء: تفسير تصنيف العلوم (التشابه). ب?- كل شيء قابل للتدريج: تفسير ظاهرة التناص (التدرج). ج?- كل شيء ينسجم مع كل شيء: تفسير الجزء انسجام الجزء مع الكل (الانسجام). د- كل شيء يتصل بكل شيء آخر: تفسير الحقب (الاتصال). يبدو أن د. محمد مفتاح قد انتصر لمفهوم «التشابه». فهو المفهوم الموجه «للمنهاجية الشمولية» من منطلق أن هذه المنهاجية ترتكز على مبدأ شمولي آخر هو القائل «لا شيء يأتي من لا شيء». والمقصود به ضرورة «وجود منطلق تسري روحه في كل المكونات والعناصر المنتمية إليه» (ص30). هذه الروح هي روح الانتظام والتركيب في النسق. وهذا النسق في الثقافة العربية الإسلامية يبدأ من القرآن وعلومه مرورا بالأجناس الثقافية المختلفة إلى علم أسرار النجوم.. فهي مواد متكاملة متفاعلة تبتغي تحقيق وظيفة ضرورية سبق وأن دشنها الفلاسفة العرب والمسلمون مثل أبي حيان وابن خلدون. 1- ففي قراءة د.محمد مفتاح لكتاب «البصائر والدخائر» لأبي حيان التوحيدي؛ ينطلق من دحض القول القائل «إنه (أبو حيان) مشتت التأليف مضطربه وإنه ذو تأليف وفكر غير نسقيين» (ص62). ويبرز وحدة الكتاب وتشابهه من تقنيات الإحالة (البعدية والقبلية) ومن المفهومين المتقابلين والمتحكمين في الكتاب وهما الجد والهزل، أو البصائر والنوادر، ومن درايته بشروط التأليف والتوليف وحدة واتساق، ومن مراعاة شروط الجنس الذي يؤلف فيه واحترام حدوده إلخ- وما عدا ذلك من مظاهر الاختلاف والانفصال والإخلاف بالوعد والاحتياط من الخلل الذي عم الوقت فما هي إلا دروب والتواءات في المسار المتشابه ألا وهو الغاية الموجهة: «تكوين الإنسان الكامل السعيد» (ص68). إذا كانت عناصر الوحدة والتشابه هاته التي لخصناها هاهنا تميل إلى الطابع التقني؛ فإن وشائج النسقية في قول التوحيدي ذات طابع فلسفي؛ تؤخذ من الفلسفة الأفلاطونية والأفلوطينية والرواقية وهي كلها فلسفات «كانت تربط بين أشياء أو كيانات أو حدود.. لا رابطة ظاهرة بينها» (ص68). هذه النظريات الفلسفية تتجلى لنا في تراتبية العالم وتطابقاتها وتراتبية العلوم وأهدافها، وتراتبية الكائنات ومراميها، وتراتبية الإنسان ومغازيها ... كل هذا يكشف لنا عن اعتماد «كتاب «البصائر» على رؤيا للكون قائمة على فلسفات غنوصية متعددة المصادر ومنتقيات الثقافة الشرعية والأدبية، وكتب في ظروف خاصة» (ص88). فهل هي نفس الخلفيات التي كتب بها مثلا «العقد» و»الكامل» و»العيون»؟ الجواب الدقيق لا يكون إلا نتيجة مقايسة جدية ولنحذر من المقايسات السطحية. والمقايسة تشابه طبعا. 2- في قراءة د.محمد مفتاح لشعرية أبي قاسم الشابي اعتمد على مفهوم أساسي هو مفهوم التوازي. ويقصد به «التشابه الذي هو عبارة عن تكرار بنيوي في بيت شعري أو في مجموعة أبيات شعرية» (ص97) ويتجسد في أشكال صوتية وتركيبية ودلالية كإعادة وتكرار وتضاد وتوليف وترصيع.. ويتجسد كذلك في التوازي المقطعي (تقطيع الشعر)، ويقدم عن تطبيقات على ذلك في (ص105/106 وما بعدهما). فشعر الشابي شعر التوازي بامتياز (ص118). لكن: أينطبق هذا المفهوم على كل الشعر قديمه وحديثه؟ أجل لقد سبق للدكتور محمد مفتاح أن قال «المحاولة النظرية التي نقوم بها (أي التوازي) يتسع صدرها لوصف كل شعر؛ وقد حللنا بها قصيدة شعرية قديمة..» (ص99)، بل هي تنظير ينطبق على النثر كله «فالتوازي مفرد هندسي نقل من علم الهندسة إلى الميدان الأدبي والشعري على الخصوص» (ص97). إلا أن مكاسب هذا التنظير لا يجب أن تخفي الصعوبات التي تواجهه. وهي عديدة: فالخلاف والاختلاف يوجد في المقولات اللغوية، والتراكيب الشعرية ذات بنيات خاصة يصعب تحليلها، والبنيات الأنثربولوجية يصعب التمييز فيها بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي (ص953). 3- أما التحقيب فهو المفهوم الثالث الذي يقترحه علينا د.محمد مفتاح لتحليل ومقاربة وتأويل زمن الأدب المغربي. فما هي النواة الموجهة للثقافة المغربية؟ إنها الدعوة إلى الاتحاد والجهاد، (ص158). لا يعتبر د.محمد مفتاح هذه النواة مسلمة ولا بديهية، إنما يأخذها من حيث هي فرضية تدعو إلى اتجاه معين وفق روح معينة، «ومنهجية ملائمة لعيون الوقائع» بلغة أ.ع. العروي. وللتحقق من هذه الفرضية: - لابد من تبني منهاجية نسقية واعتبار الأدب نسقا فرعيا، من نسق مجتمعي. - ولابد من اعتماد المقايسة الجدية لإثبات العلاقة بين الأنساق. - ولابد، رغم النسقية، من تبني موقف نسبي اعتدالي. - إن الثابت الجامع بين الحقب كلها في الغرب الإسلامي هي هذه الفرضية: «الاتحاد للجهاد». فهي التي وجهت وتحكمت في سياسة النخبة الحاكمة وهي التي وجهت وتحكمت في شعر وأدب النخبة المثقفة، (ص163 بسط للحقب/166 وما يليها، الشعر والأدب والدعوة إلى الاتحاد والجهاد بما فيه الأدب العامي (الملحون). نفس الفرضية تحكمت في النخبة من الحركة الوطنية وفي المثقفين المساندين لها وفي الثقافة المغربية الحديثة عموما. لكن: حصلت في الثقافة العالمية ثورات، وحصلت في الثقافة المشرقية تحولات ولم تستمر نفس الفرضية في تحديد التحقيب الزماني في الأدب المغربي. فهل نسمي ما حدث قطيعة أم إبدالا؟. مصطلح «القطيعة» يستعمله فلاسفة المغرب (الجابري/العروي) أما مفهوم الإبدال وربما بما فيه من اعتدال، هو المصطلح الذي يتبناه د.محمد مفتاح. وعليه، فإن الأدب المغربي يتحكم فيه إبدالان رئيسيان: إبدال ما قبل الاستقلال، وإبدال الدفاع عن [...] الهوية مع الانفتاح الضروري على الثقافة الإنسانية» (ص182)، وهما إبدالان متعايشان على المستوى السياسي والثقافي لكن هناك خلاف جوهري بينهما على المستوى الجمالي والوظائفي. سواء استعملنا «القطيعة» أو «الإبدال»، فإن الإشكال يبقى هو هو. - ومداره هو مفهومي «الحداثة» و»ما بعد الحداثة». ورغم أنهما، ليسا حقبتين زمنيتين، فهما خصائص تتخلل الحقب. هكذا فالحداثة هي التشابه والنسق والانتظام والانسجام.. والأنوار والعقل والجمال. أما ما بعد الحداثة، فهي الاختلاف والعماء والفوضى والجميل العظيم... يقول د.محمد مفتاح: «حاول بحثنا أن يأخذ بالتراتبية المنفتحة والمتنورة لإثبات مركزية ما، ضمانا لوحدة الأمة والوطن خوفا من التشرد والحروب الأهلية ريثما تنتشر العقلانية بين أفراد المجتمع (...) فمن أراد أن يحرق المراحل في هذا الشأن فإنه يحرق نفسه، ومع ذلك فلابد من الاستفادة من المفاهيم العلمية لما بعد الحداثة ولذلك فقد وظفنا «التفاعل» و»العماء» و»اللانظام». (ص87). - وفي الأخير هناك دوما ولكن (كما كان يقول دوغول): 1- لابد من الاعتراف بصعوبة تتبع وفهم التفريعات الجزئية والشجرية والجينيالوجية المعتمدة في الكتاب. 2- الانتصار للتشابه لا يعني إقصاء الاختلاف، وإلا كيف نفسر العناصر والأجزاء والتعدد والتفاعل والتطور والانتقال والإبدال الواردة في الكتاب. 3- النظرة الشمولية، والإشكالات، والمفاهيم والمبادئ مصطلحات فلسفية واردة في الكتاب ومشكلة للغته. هذا ما شجعنا على قراءته من زاوية فلسفية. 4- هنيئا لنا بمثل هذا الاجتهاد التنظيري والنقدي؛ ويجب أن نعتز به أكثر مما يبدو أننا نعتز بتنظيرات غربية أقل منه إحكاما وانسجاما. قدمت هده الورقة في تكريم د .محمد مفتاح الدي نظمته حلقة الفكر المغربي و محترفو الكتابة بفاس يوم 31 أكتوبر 2009