مازال فلاديمير بوتين رجل المخابرات الروسية السابقة KGB ,الذي انتخب رئيسا سنة 2000 بحكم قبضته على روسيا بعد مرور 13 سنة, بدون منازع ولا حتى ظل منافس قوي وبأسلوب صارم لا يخفيه. بمناسبة الألعاب الأولمبية الشتوية التي تحتضنها مدينة سوتشي بعد ثلاثة أشهر, يريدها بوتين تتويجا ورمزا لسلطته ونفوذه. هو ليس لاعب شطرنج، إنه مصارع من المستوى الرفيع, يعرف كيف يستفيد من قوة خصومه من أجل إرباكهم وإسقاطهم على الأرض، فلاديمير بوتين كان هو الرجل الذي انقذ البلاد من الدوران في حلقة مفرغة، وأصبح في الأشهر الأخيرة بفضل الحرب الأهلية السورية «»منقد العالم«« ,ولو أنه لم يكن بالضرورة منقد السوريين من كل الأطياف الذين يموتون يوميا. ومع ذلك فالرجل مازال هو نفسه, الرجل الذي يقسم مثل سائق عربة ويحب إبراز عضلاته (بالمعنى الحقيقي والمجازي أيضا) الرجل الذي سحق الشيشان وغزا جورحيا، ويستعمل البترول من أجل إخضاع جيرانه وزعزعة أوربا. وإذا كان يتحسر على اختفاء الاتحاد السوفياتي ويعتبره «»أكبر كارثة في القرن الماضي«« فذلك ليس لأسباب ايديولوجية, ما يتحسر عليه هو العالم ثنائي القطب ,العالم الذي كان فيه كنيدي وخروتشوف يتلاسنان في الأممالمتحدة، العالم الذي سرع فيه ريغان وبرجينيف سباق التسلح, وليس العالم أحادي القطب أو متعدد الأقطاب الذي أيد فيه بوريس يلستين اختيارات الديبوماسية الامريكية، لأن الاعتقاد السائد في موسكو هو أن روسيا المحترمة هي روسيا المهابة وليس روسيا التي تتواطأ. بشكل من الأشكال، فلاديمير بوتين هو نتاج تسويق للنخبة الروسية، النخبة التي تمكنت من الاستمرار سياسيا واقتصاديا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، النخبة التي لم تسافر كثيرا في أواسط سنوات 90 والتي لم تتحرر تماما من الارث السوفياتي. بوريس يلتسين أول رئيس لروسيا هاته، أعيد انتخابه سنة 1996, لكنه خيب الآمال, لقد أبرم اتفاق سلام مع الشيشانيين وترك الغرب يفعل ما يريد في البلقان وتخلى عن دول البلقان لفائدة الحلف الأطلسي. كان لابد من خليفة له حسب الصقور، استغرق البحث عن الرجل المناسب عدة أشهر, يتذكر غليب بافلوفسكي, أحد مهندسي تلك المرحلة «شيئا فشيئا, بدأنا نرى بروز الصورة التي يريدها الناس: رجل شاب، رياضي في صحة جيدة, له ماضي عسكري إما وسط الجيش أو داخل دواليب المخابرات السوفياتية, باختصار صورة رجل مخابرات وبطل قوي«. وفي المجتمعات الغربية, باستثناء شخصية جيمس بوند، لاتحظى صورة الجاسوس بسمعة جيدة, أما في روسيا وخاصة في تلك الفترة، فإنه شخصية وطنية تحظى بالاحترام, ولكن بوتين لم يكن جاسوسا من المستوى الرفيع. مساره في هذا الميدان كرجل مخابرات عادي إن لم يكن دون المستوى، فهو حاصل على دبلوم في القانون من جامعة سان بتروسبوغ مسقط رأسه، لم تكن له اختصاصات أو انجازات مرموقة خلال اقامته في درسيدي (1990-1985) رغم صفته كمدير لدار الصداقة الألمانية السوفياتية. عند عودته كان ذكيا عندما ظل بعيدا عن الانقلابيين الذين كانوا يريدون إحياء الاتحاد السوفياتي.. ارتبط مع أناتولي سوبتشاك أستاذه السابق في القانون الذي أصبح عمدة بترسبورغ، بل إنه انقذه عندما رتب رحيله عن البلاد عندما أثيرت ضده اتهامات بتلاعبات مالية ,وكسب سمعة بالوفاء التام, وخلال ولايته كنائب مكلف بالشؤون الدولية في بلدية سان بترسبورغ، أظهر بوتين الذي غادر المخابرات, مهارات على النقيض من صورة الرجل النزيه التي سيحاول أنصاره الترويج لها فيما بعد. لقد كان يشرف على موارد الأموال، ويقايض مواد أولية روسية مقابل مواد غذائية ألمانية... لم تكن تصل إلى أصحابها، تحكي الصحفية ماشا جيسن في كتابها «»بوتين، الرجل الذي بدون وجه»« بالنسبة لها، هذا دليل على أن الرجل يعاني من «»الرغبة الداخلية« «في الاستحواذ على ممتلكات الآخرين، عقدة ستكون أساس الخلاف سنة 2003 مع ميخائيل خودوركوفسكي صاحب شركة »لوكوس« البترولية العملاقة الذي لايزال وراء أسوار السجن بعد أن تم تجريده من إمبراطوريته الاقتصادية. تم استدعاء بوتين الوفي والمتكتم سنة 1996 من أجل إدارة ممتلكات الكرملين، وعين سنة 1998 رئيسا لجهاز المخابرات الجديد FSB، ثم رئيسا لمجلس الأمن القومي في السنة الموالية. استغل مهاراته في المناورة من أجل انتشال يلتسين من مخالب العدالة. ومقابل الحصانة الكاملة، عينه يلتسين وزير أول وعينه كخليفة له. استغل بوتين التفجيرات التي دمرت عدة بنايات في موسكو في شتنبر 1999 (تفجيرات لم يتم كشف ملابساتها، ويعتقد أن يد المخابرات تقف وراءها)، من أجل عودة آلة الحرب الى الشيشان وعدم الجهاز لهذه الحرب. وفي مارس 2000 انتخب بوتين رئيسا للبلاد. ومنذ الأشهر الأولى لرئاسته، سحق الانفصاليين الشيشان وطهر وسائل الإعلام، وأخضع الإمبراطوريات الاقتصادية والزعامات المتمردة، وأعاد مركزة البلاد، وأعاد الاعتبار لبعض رموز الاتحاد السوفياتي، ووضع رجاله في كل مستويات الإدارة ومراكز القرار. في نهاية ولايته الأولى سنة 2004 وحسب مطعيات أولغا كريشتانوفسكايا، المتخصصة في دراسة النخب الروسية. فإن 25% من أعضاء النخبة السياسية تنحدر من المخابرات السوفياتية السابقة أو من دوائر بنية القوة (الداخلية، الجيش، أو الإدعاء العام) مقابل 13% قبل وصوله إلي الرئاسة. وفي نهاية ولايته الثانية سنة 2008 انتقلت هذه النسبة إلى 42% ويعتقد المسؤولون أنهم يعيشون في «»ديمقراطية موجهة« «بينما يعتقد خصومهم أن الأمر يتعلق ب «ديموكتاتورية».« . في بداية سنوات 2000، بدأ الرأي العام ينتفض شيئا فشيئا ضد الأنظمة المماثلة في الدول المجاورة. كما حدث في جورجيا من خلال ثورة الورود ثم الثورة البرتقالية في أوكرانيا. في هذه الثورات لم ير بوتين يدا أخرى وراءها غير يد واشنطن، وخطابه المعادي للغرب، والذي لم يكن سوى دعاية لكسب أصوات الذين يحنون لأمجاد الماضي السوفياتي، أصبح أكثر قوة. لكن حرصه على استمرار استقباله من طرف كبار العالم، جعله يتحاشى تجاوز الخط الذي كان سيجعل منه رسميا رجلا دكتاتورا: لم يغير الدستور من أجل الترشح لولاية ثالثة وغادر منصبه الرئاسي بتعيين خلفه ووزيره الأول الشاب دميتري مدفيدف. روسيا الى خلفها له تغيرت كثيرا، كانت تجتاز عصرا ذهبيا جديدا، هو عهد البترول باهظ الثمن. يوم 8 ماي 2008، عين بوتين وزيرا أول. ومنذ البداية طرحت قضية توزيع الأدوار. أجمعت الصحافة وتحليلات المختصين على أن الرئيس السابق غير فقط العنوان، كانت حيرة الموظفين كبيرة: صورة من من الرجلين (بوتين أو مدفيديف) يجب تعليقها في المكاتب! وبسرعة دفع الوزير الأول الرئيس الى الصف الثاني من خلال وضع رجاله في كل المراكز الحساسة. دون أن يسمح للرئيس مدفيديف بتشكيل فريق يختاره بنفسه. و طيلة 4 سنوات، استمر بوتين في تلقى الاستقبالات المخصصة عادة للرؤساء, سواء داخليا أو خارجيا، لم يغير عاداته الرئاسية: اجتماعات عمل مع اهم الوزراء، لقاء رؤساء الدول, ندوات صحفية ضخمة و»خطوط «مباشرة مع السكان. للوهلة الاولى تبدو روسيا قد استقرت في «ديمقراطية ثنائية» ,لكن في الواقع ظل بوتين هو زعيمها. يقول المستشار السياسي الامريكي زبيغنيو بريزينسكي سنة 2009 «القرارات الحقيقية في روسيا يتخذها بوتين، الرئيس ميدفيديف يلعب دورا مهما. ولكنني لا أعتقد ان الكلمة الاخيرة في اتخاذ القرار ترجع اليه». خلال رئاسته اتخذ ميدفيديف اسلوبا جديدا في الحكامة. اكثر لباقة، توافقي واكثر احترافية, وحسب المحلل السياسي ستانسلاف بلكوفسكي اصبح بوتين يغارمن نجاح الرئيس لدى النخبة المثقفة الليبرالية والنخبة الغربية, و»النقاشات الطويلة حول الانفتاح الاجتماعي والسياسي في روسيا اغضبت رئيس الحكومة «حسب بلكوفسكي. في المقابل كانت الاساليب العنيفة لبوتين تثير امتعاض مدفيديف والتي كانت تنسف كل جهود، لابراز الوجه المتحضر لروسيا. من جانبه لم يكن بوتين يجد ادنى حرج في تجاوز الحدود المفروضة على اختصاصاته بالتدخل في الشؤون الخارجية وهي من الاختصاصات الحصرية للرئاسة. وكانت الاخفاقات الفعلية او المتخيلة بين الثنائي الحاكم توحي باحتمال وقوع تنافس بين الرجلين على منصب الرئاسة. لكن كل شيء كان مبرمجا ومحسوما: في سنة 2012 سيأخذ مدفيديف قيادة حزب روسيا الموحدة والحكومة ويتسلم بوتين قيادة البلد. وعلى خلفية احتجاجات غير مسبوقة. كان يتجاهلها أو يستخف بها علانية. اعيد انتخاب بوتين في مارس 2012 لولاية ثالثة. مع عودته الي الكرملين، احكم هذا البراغماتي المحافظ (حسب توصيفه) قبضته الحديدية على دواليب السلطة بإقرار سلسلة من القوانين اعتبرتها المعارضة ماسة بالحرية وموجهة بشكل خاص ضد المجتمع المدني الذي تجرأ على تحديه. وعلى الرغم من ان مستوى شعبيته لم يعد كما كان %83 في يونيو 2008 لازال رئيس الجمهورية يحظى بتأييد محترم من طرف مواطنيه (%63) وهو رقم مستقر منذ اعادة انتخابه, حسب استطلاعات مركز لوفادا ) وذلك بالرغم من بعض الإجراءات التي تثير غضب الرأي العام الدولي، مثل الادانة الجائرة لمغنيات البوبك في مجموعة بوسي ريوت، التعامل القمعي المبالغ فيه مع لائحة مانيتسكي (لائحة سوداء بأسماء مسؤولين روس لدورهم في الوفاة الغامضة للحقوقي يسرغي مانيسكي داخل السجن) التي نشرتهاواشنطن) والذي يمنع على الآباء الامريكيين تبني اطفال روس، ومؤخرا القانون الذي يمنع الدعاية للمثلية الجنسية والتي تجعل من المثليين جنسيا كبش فداء نظام بوتين. الرئيس بوتين لايحب تلقي الدروس من أحد. وبعيدا عن لغته الشعبوية المعادية لامريكا. فانه يقيم علاقات معقدة مع الولاياتالمتحدة. هذا المنافس الابدي الذي يرفض التعامل معه بجدية. بوتين يردد باستمرار أن امريكا ليس لديها ما تعلمه لروسيا، وفي كل مرة لا يجد جوابا عن سؤال محرج (حقوق الانسان، الازمة الاقتصادية، الفساد.. ) يرد بما يلي «انظروا الى الولاياتالمتحدة، انها ليست افضل حالا «ربما كان باراك اوباما محقا عندما لم يصعد ضد بوتين عندما قرر هذا الأخير استقبال ادوارد سنودن فوق التراب الروسي. سنودن المحروم من جواز سفره الامريكي, اللاجئ في موسكو ,الذي كشف حجم التجسس والمراقبة الامريكية للاتصالات عبر العالم، اعطى الرئيس الروسي فرصة اعطاء نظيره الامريكي درسا في الديمقراطية، والازمة السورية مكنته من اضافة دروس في القانون الدولي، وتنظيم الالعاب الاولمبية الشتوية في سوتشي كتتويج لكل ذلك. والاهم بالنسبة لبوتين هو انه نجح في ان يصبح بالنسبة لاوباما الشريك الوحيد الذي يجب ان يضعه في الحسبان. بتصرف عن جريدة ليبراسيون