يطاردك حين تخشاه، ويهرب منك حين تواجهه. في كل مكان تجده يختبئ. عار من الحقيقة لأنه هو حقيقة. لكن عليك أن تترقبه على الطرقات. كل الطرقات. لا يحمل فانوسا ولا كلمة أو لفظة. لأنه هو كلمة واحدة. كلمة بلا موسيقى ولا إيقاع. لكنها كلمة تحمل الدلالة. هو شبح الساعات و الأيام والسنين والقرون. رائد في كل شيء: في الرموزية، في الغموض، في التأويل، في ضد التأويل...كلمة واحدة كسيحة، على الطرقات وعلى القارعة رغم الكراهية التي يلقاها من الهواء والماء والنبات والإنسان والحيوان والجماد. هو آخر من يتحدث عن سوء الاستقبال. المساوئ والمحاسن عنده سيان. بل إن المحاسن تصبح مساوئ والمساوئ تصبح محاسن. عندما يحزم حقائبه تحسبه أنه ذاهب. لكن عندما تعود تجده في مكانه وقد أفرغ الحقيبة وأعاد كل شيء إلى مكانه الذي كان فيه. تُرى من هو خالق الشبح، يا ربّاه؟ ******* طارد الشبح رجالا مثلنا، من لحم وعظم وقلب وعقل. طاردهم حتى كاد يقضي عليهم. ولولا أنهم أشهروا في وجهه أسلحة عدة لما سمعنا بهم. للفظوا أنفاسه على الطرقات، ولخربتهم ذاكراتنا ونسيناهم. كلود ليفي ستراوس كان مطاردا من هذا الشبح الكوني. وقد حكى حكايته بقلمه. كان ستراوس يرغب في الالتحاق بالكوليج دو فرانس. كان يجهل ما هو الكوليج دو فرانس. لم يكن يعرف أنه مكان مرعب ومحظور. وذات يوم استقبله عالم النفس الشهير «هنري بييرون»، والشيوعي الفذ، والأستاذ في الكوليج. فقال له: « في نيتنا أن ندخلك إلى الكوليج». هذه ال»نحن» أثارت أسئلة عند ستراوس. فكل شيء كانت ترتبه له قوى خفية، وما كان عليه سوى أن يسلم لها قيادته. كان الكوليج دو فرانس رهينة في معركة عصبوية بين المحافظين والليبراليين. تقدم ستراوس لكرسي شاغر، فأخفق. وأخذخ منه شخص آخر أقل موهبة وذكاء وعلما منه. وعندما شغر الكرسي مرّة أخرى شجعه أساتذة أصدقاؤه للتقدم ففعل وأخفق مرّة أخرى. حدث ذلك في سنتي 1949 و 1950 . بعد ذلك أخبره مدير الكوليج « إدمون فارال» أنه لن يدخل الكوليج أبدا طالما هناك شخص يدعى «دوميزيل» كان قد عين مديرا للكوليج. وهو شبح انتخب للمنصب رغم كراهية الجميع له. في تلك الفترة كان يدرس في الكوليج عالم لغويات اسمه «إيميل بنفنست» الذائع الصيت، والذي سعى إلى إدخال ستراوس للتدريس في الكوليج، ذلك المكان المحظور. بقي ستراوس خارج المكان المرعب و المحظور الذي يسطر عليه ويوجهه الشبح المخيف طلية عشر سنوات، وفي هذه المرة تقدم و نجح. كانت هي المرة الصائبة، لقد انتصر ستراوس على الشبح. في كل مرة كان يفشل فيها ستراوس كان يتوارى ويقطع صلته بالماضي، وهو على قناعة تامة بأنه فاشل في بناء مستقبله المهني. فعاد و رتّب حياته الخاصة بل وكتب سيرته الذاتية الفكرية « المدارات الحزينة». هذه هي التميمة التي هزمت الشبح. و في الأخير تعلم هذا الدرس: الساذج هو من يهرع إلى قلب المعكرة بين القدامى و الحديثين. لنتذكر هذه الأمثولة جيدا.