ليس بعد إسقاط الدولة غيرُ ميلاد نظام الطوائف والمذاهب والقبائل والعشائر، وانقسام الشعب الواحد إلى «شعوبٍ» بعدد العصائب والمناطق، واصطدام هذا الخليط ببعضه مدفوعاً، كُلاً وأبعاضاً، بمنازع الاستيلاء والسيطرة، وبأوهام إمكان بناء سلطةٍ على حدود الجماعة الأهلية التي يبدأ تَمَايُزُها من غيرها في التعاظُم والاتساع! ليس بعد إسقاط الدولة غير توليد نقيضها/ نقائضها حُكْماً: إذا كانت الدولة، أيّ دولة، ترمُز إلى النظام والسلطة والقانون - أيّاً تَكُن طبيعةُ تلك السلطة والنظام والقانون - فإن حالة اللادولة هي حالة الفوضى العامة والمعمَّمة، والحرب الأهلية: الساخنة والباردة، والتَّخاوف (= الخوف المتبادل). ليس بعد الدولة إلّا العودة إلى ما قبل الدولة، إلى الحالة التي وصفها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز بعبارة «حرب الجميع على الجميع»، حيث لا وازع من الناس يَزَع بعضَهم عن بعضهم، ويَكُفُّ أذى بعضِهم عن بعضهم، كما يرى عبدالرحمن بن خلدون قبله. لم تَهْتَدِ البشرية إلى تركيب معادلة أخرى غير التي كانت سارية في التاريخ، وأدركها العقل الإنساني، وسَلَّم بأنها المعادلة التي تفتح للمجتمعات باباً نحو الاستقرار والتعايش والتقدُّم، لأنها المعادلة التي تُخمِد نوازع الشرّ في البشر (وهي من صميم نوازعهم الحيوانية)، بل التي تجعل الإنسان إنساناً حين تهذّبُه، وتُخْمِد منزِعه الافتراسي، وتُخْضِعه لنظامٍ جماعي يتجاوز نداءَهُ الحيويّ (= الحيواني)، ويَعْقِلُه. لم تكن الدولة/ الدول «الحديثة»، التي قامت في البلاد العربية، في القرن العشرين، ممّا يصِحّ نعتُها بالدولة الوطنية الحديثة، لأنها ما قامت على عقدٍ اجتماعي متوافَق عليه، ولا تأسَّست على مبادئ المواطنة، والفصل بين السُّلط، ومُجْمل ما يقع ضمن منظومة الدولة الوطنية الحديثة من قواعد، بل هي إلى مزيجٍ من نظامِ الدولة السلطانية والدولة الكولونيالية كانت أقرب، وكان التجاذب فيها - لهذا السبب بالذات - حادّاً بين منطق الدولة التقليدية، بتقاليدها الاستبدادية العريقة، ومنطق الدولة العصرية الذي لم يمسَّ فيها إلّا السطوح والقشور. لكنها، مع ذلك كلِّه، كانت دولة أو كانت فيها ملامح من الدولة: السلطان السياسي الجامع، والنظام والقانون، والحدّ الأدنى الضروري من الأمن الاجتماعي الذي من دونه لا تكون حياةٌ عامة ولا خاصة. ليس هذا تبريراً لاستبداد النظام الحاكم في الدولة، أو تستُّراً على فظاعاته الوحشية ببيان حسنات الاستقرار ونِعَمِ الأمن المجتمعي، بل هو إلى التشديد على خطورة الفراغ الذي يخلّفه غياب الدولة أقرب. هذا من دون أن نذهب مذهب كثيرين في المقارنة بين استبداد الدولة والاستبداد الأهلي، بين القمع والحرب الأهلية، فليس في الاستبداد ما يُحْمَد إنْ كان أحدٌ لا يختلف في الاعتقاد أن نظيره الأهلي (= حرب الجميع على الجميع) هو الشرّ المستطير الذي يهون على أيّ مجتمعٍ أن يضحّي من أجل مَنْع إمكان وقوعه. استبداد الدولة يُفْسِد الدولة والسياسةَ والمجتمع، ويضع ما لا حَصْرَ له من الحوائل دون تقدّمها، لكن استبداد سلطات الأمر الواقع الأهلية والعصبوية، يأتي على الدولة والمجتمع معاً بمعاول الهدم، ولا يترك للاجتماع الإنساني مكاناً. إذا كان من سبيل إلى مقارنة الحالين: حال استبداد الدولة وحال استبداد اللادولة، فهي (= أي سبيل) إلى ملاحظة الفارق الخرافي بين إمكان مغالبة الاستبداد الأول، واستحالة مغالبة استبداد الثاني بالعودة إلى صيغة الدولة، وغالباً ما يقع ذلك بشروطٍ أسوأ تكون فيها صيغةُ الدولة المُوَلَّدَةِ من جوف الفتن والحروب الأهلية، أكثر تشوُّهاً وفظاعة من طبعتها الأولى الساقطة تحت سنابك المحارِبين الساخطين على دولتهم! يقتدر الناس، طبقات وفئات اجتماعية وروابط وهيئات مدنية وأحزاباً ونقابات، على أن يروِّضوا وحش الاستبداد الدولتيّ ويَكُفُّوا غائلتَه، ولو بأثمان اجتماعية باهظة، لكنهم لا يملكون أن يَأتُوا الدفاعَ نفسَه عن أنفسهم حين يقاتل بعضهم بعضاً، ويفرض بعضهم قانونَه - بالقوة - على بعض، وتنعدم لهم أسباب الحماية. إن الفارق عظيم بين الظلم وقانون الغاب، فليس يستوي فقدان الحق في الرأي أو في المشاركة السياسية - حتى مع استحالة مغالبته - مع فقدان الحقّ في الحياة: أقدس حقوق الإنسان كافة. الخروج من عصر استبداد الدولة يمْتَكن لكلّ من ركبوا مركب النضال عن الحقوق والحريات بالأساليب المدنية الديموقراطية، ولو طالتِ الرحلة واستهلكت من الزمن الكثير. أما الخروج من غياهب الحرب الأهلية فعسير وطويل، لأن تَرِكَة تلك الحرب في المجتمع والناس والنفوس ثقيلةُ الوطأة، وطويلةُ الأمد مفاعيلَ. وإذا ما قُيِّض لمجتمعٍ أن يخرُج منها بتجديد «العقد الاجتماعي» وابتعاث الدولة من تحت رماد الحرائق، تكون صورة الدولة «الجديدة» شوهاء لأن حقبة اللادولة دمرت المجتمع وشوَّهت تكوينه. ألم تكن هذه حال الدولة في لبنان وفي العراق بعد حربَيْهما والدمار العظيم؟!