في إطار لقائه الافتتاحي، برسم سنة 2013 2014، الذي خصص فيه الملتقى برنامجه السنوي للثقافة والمثقفين المغاربة، تحت شعار«الثقافة المغربية تنوع واختلاف»، حاضر المفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا، في موضوع «السياسة والأخلاق». افتتح اللقاء الشاعر صلاح بوسريف، بكلمة بعنوان «محمد سبيلا جُرْح المعرفة»، وفيها اعتبر أنَّ المفكرين المغاربة المعاصرين، من جيل سبيلا، ومن كانوا قبلهم، ساهموا بقدْر كبير في وضع هذا الفكر في سياقه النقدي والمعرفي، الذي قام على المساءلة، وعلى مراجعة عدد من المسلمات. وقد اعتبر بوسريف أن محمد سبيلا، رفقة أفراد جيله، عملوا على إحداث جُرْحٍ في المعرفة، بالمعنى الذي قاله فوكو عن نيتشه، وفرويد عن كارل ماركس. فمن يعرف أعمال محمد سبيلا، يضيف بوسريف، سيدرك أنَّ هذا الرجل عاش في سياق الشرط الفلسفي، وساءل كثير من القضايا، من مثل الحداثة وما بعد الحداثة، كما ساءل السياسي في السياسة، وكان يعمل وفق مشروع قائم الذات، يعتبر لقاء اليوم جزءا من. في بداية حديثه، أوضح الأستاذ سبيلا أنّ الفصل الحاد بين السياسة والأخلاق يعود إلى المطالع الأولي للحداثة. وثمّة من يعتبر هوبز أوّل من دعا إلى ذلك في هذا الموضوع. فهوبز كان يرى أن السياسة مجال إنساني أرضي، بعكس الفكر اليوناني، وأيضاً التصور المسيحي الذي كان يركز على هذا النوع من الارتباط بمثال مدينة الله بدل مدينة الإنسان. إنّ السياسة هي الحقيقة الفعلية، وهي ترتبط بتدبير المعيش، لا بتدبير المثال، كما عند مكيافللي. فهي تُدَبِّر السلطة، وأهمية السلطة، عند مكيافللي، تمثّلت في كوْن السياسة ضرورة اجتماعية أساسية لحماية المجتمع من الفوضى، والارتجال، ومن ثمّة ضرورة ترسيخ ضرورة الدولة. فقد ربط الفكر اليوناني الشرع بالقانون، وهذا هو ما ذهب إليه أرسطو. أمَّا المسيحية، فقد خلطت بين المسألة الدينية والمسألة الدنيوية. مكيافيللي أكَّد على ضرورة الفصل بين السياسة والأخلاق. وهو موقف واقعي، أما الموقف الرابط بينهما، فهو موقف مثالي. في حين أنّ كانط ميّز بين الدائرة العمومية والدائرة الخصوصية، أيْ خضوع السياسة للأخلاق، وخضوع الأخلاق للفضيلة. وقد قام، يواصل سبيلا، موقف الوصل بين السياسة والأخلاق على قدر من الخلط بين الواقع والمثال. كما نجد عند أفلاطون، وعند الدينيّين. وفي الفكر الحديث، فإنّ السياسة هي فن تدبير المصالح اليومية للناس، قد يستخدم، السياسي قيم الفضيلة والمساواة، ولكن العلوم الإنسانية الحديثة تفصل بين المجالين، وتعتبرهما متمايزين. هناك تباين في الخلفية السياسية بين موقفيْ الفصل والوصل. فالوصل يقوم على الطيبوبة. هوبز يعتبر الطبيعة في حالة حرب. الإنسان ذئب للإنسان. القوة والحيلة عند الإنسان، مكيافيللي، يرى أن الناس متقلبون متغيرون، إنهم يخافون الخطر.. اختلاف تصور الفصل، وتصور الوصل، هناك اختلاف في تصور السياسة، التصور الودي والسلمي والتصور الحربي، السياسة ترتبط لغوياً في العربيه بالحيلة والمكر، أي بتجنب الحرب، بالمعنى الإخر تبلور مفهوم السياسة عن طريق الربط بين السياسة والحرب. وإذا كانت الحرب استمرارا للسياسة بغير الوسائل السلمية، هي مواصلة للحرب بوسائل سلمية، فهي حرب مضْمرة، بالفضيلة. وحتى في لاوعي السياسيين، فإنه ليس معناه انعدام البعد الحربي الصراعي في الحقل السياسي، بل هو نوع من المكر، وإخفاء الوجه الحربي، والاختباء وراء الأخلاق. كما أنّ العلوم الإنسانية الحديثة دعَّمت موقف الفصل، باتخاذ نوع من الريبة والشك تُجاه المنظومة الأيديولوجية. التحايُل والتمويه والتحايُل عن الذات، هذا ما كشفه التحليل النفسي، أي الآليات النفسية الحية، مما ساهم في التخلي عن التصديق الساذج للمعنى الطاهر للسلوكات والأقوال، والماركسية دعمت هذا التوجّه الشكي، مثلاً ألتوسير حاول ربط مفهوم الإيديولوجية الماركسي، بالرغبات الذاتية للذات، أي اتخذت طابعا تضليليا داخليا. التوجُّه الشكي، تبلور نتيجة تقدم العلوم الإنسانية، وقد بلور فلسفة التَّوَجُّس، كما عند ريكور. وبالتالي لمْ يعد بالإمكان التصديق الساذج للادعاءات والمزاعم، فالذات موجودة فيها، وهي تصدق على السلوك البشري العادي، وتصدق على السلوك السياسي، أيضاً. إن الاتجاه الشكي، يتشكك في مسألة الضمير الأخلاقي، مهما ادَّعَوْا من طُهْرِية. وبالتالي علينا أن نتساءل من خلال دروس هذه التحوّلات الحديثة، بدءا من أخلاق الضمير إلى أخلاق المحاسبة وأخلاق المسؤولية. هذا بالنسبة للموقف النظري الأم. أما في وضعنا المغربي المحليّ، يقول سبيلا، فبالإمكان تلمّس بعض أسباب التردّي الأخلاقي في الحقل السياسي المغربي. وهو تردّ يعود إلى عدة، وهي بعيدة المدى، ساهمت في نوع من التحلّل الأخلاقي، وهو ما يدعم ضرورة الانتقال من الارتكاز على مسألة الضمير الأخلاقي. ومن هذه العوامل تلك التحوّلات الديمغرافية التي وقعت في المغرب والتحولات المعمارية، وما وقع في المدن من ترييف. أما العنصر الثاني، فهو أنّ المغرب شهد بعد الاستقلال صراعات بين العاملين في الحقل السياسي وبين القصر، أي بين الفصائل التقدّمية من الحركة الوطنية، وصناعة الأحزاب والأشخاص، وما صاحب هذا من عنف. العنصر الثالث، هو ذلك التغلغل التدريجي للنظم الرأسمالية، أي استفحال الروح الفردانية، وأولوية القيم المادية المتعلقة بالملْكية والحظوظ. والعنصر الرابع، هو توسّع التقنية والمكْننة، بحسب المناطق والجهات، وهذا عنصر نهمله في ما حدث من تغيّرات في المغرب. هذه التحوّلات العميقة كانت لها انعكاسات على الحقل السياسي، وكان لها تأثير على السياسة والأخلاق. وهي تحوّلات عميقة غيّرت العلاقة بين السياسة والأخلاق. من هنا، يخلص سبيلا، ضرورة إعادة النظر في المسألة الأخلاقية، ليس بإلغاء البعد الأخلاقي، ولكن «بالنظر إليها باعتبارها أخلاقية موضوعية، انطلاقاً مما قلتُ في ما يتعلق بمسألة الضمير الفردي».