هل من الممكن أن يعود إلياس لحمل مسدس بلاستيكي كسائر الأطفال الذين هم في سنه، ملوّحا به عاليا وهو مزهوّ، محاكيا رجال الأمن ، كما يشاهدهم في الأفلام التي تعرض على شاشة التلفاز أثناء تدخلاتهم لإيقاف اللصوص والمجرمين؟ هل بوسعه أن يتمنى ، بكل فخر واعتزاز، أن يصبح شرطيا عندما يكبر كما كان الحال بالنسبة لوالده وقدوته في هاته الحياة؟ حتما لن يمكنه تكرار تلك المشاهد التي كان يقوم بها بكيفية طفولية بريئة، وحتى إن هو استطاع أن يكررها فلن تكون بنفس تلك السلاسة والعفوية السابقة، كما أن نظرته للمجرمين ولرجال الأمن عند تدخلاتهم في هذا الشريط أو ذاك، وانفعالاته أثناء ذلك ، ستتغير حتما مع تغير السنين، عندما سيصبح واعيا وبشكل كامل بمأساة والده وقدوته الذي حرم منه وهو صغير السن، الذي ، وبكل أسف، وافته المنية قبل أن يصير إلياس يافعا، فشابا فرجلا، ويحقق كل آماله وطموحاته ويبلغ انتظارات أسرته. إلياس هو ابن شهيد الواجب «محمد الشيهب»، مفتش الشرطة بفرقة محاربة المخدرات بالمنطقة الأمنية عين الشق بالدارالبيضاء، الذي وافته المنية يوم الجمعة 25 أكتوبر بقسم العناية المركزة بالمركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد، والذي نقل إليه قبل ذلك بأربعة أيام على إثر تعرضه لصعقة كهربائية مصدرها أسلاك كهربائية عالية التردد، حين مطاردته لمروج للمخدرات بمنطقة لمكانسة بعين الشق. وهو الإبن الذي لن يكون اليتيم الوحيد الذي حرم من حضن والده طفلا، لكون الواجب المهني حتّم عليه ذلك، وعجّل بنهايته إما على يد مجرم، أو لعامل من العوامل الطبيعية أو البشرية الأخرى ، التي تكون سببا في وفاة المنتسبين إلى أجهزة الأمن والدرك والقوات المساعدة ...، أو في إصابتهم بعاهات مستديمة، أو بندوب وجروح تصاحبهم بقية حياتهم، والتي تكشف عن وجه آخر لهذه الفئة، ليس هو نفس الوجه المألوف الذي يتحدث عنه الجميع في كل المحافل الخاصة والعامة. رحل الشيهب وسط حيرة وحزن أفراد أسرته، زملائه في سلك الأمن، أصدقائه، معارفه وجيرانه، الذين وإن تسلحوا بالصبر أمام هذا المصاب الجلل الذي ألمّ بهم، متقبلين حكم القدر ، رغم قساوة وقعه عليهم، إلا أنهم بالمقابل لم يستسيغوا أن ينقل فقيدهم إلى المستشفى، وأن يبادر زملاؤه في العمل لاقتناء الأدوية الباهظة الثمن، وألا ينقل بالمقابل إلى مصحة خاصة، وألا تعمل مؤسسة الأعمال الاجتماعية للمؤسسة الأمنية المنتسب إليها ، على متابعة حالته والاهتمام به، وتوفير المستلزمات الضرورية طبيا، حتى لاتتعدد معاناة ومحنة زوجته ووالديه، في لحظات انتظارهم لخروجه من تلك الانتكاسة من عدمها. إنه نصف الكأس المملوء الذي لايبصره الكثيرون، ممن لايتقنون سوى الانتقاد، الذين يسارعون للبحث عن الهفوات، ويتوارون متى كان هناك حديث عن الايجابيات وعن مثل هذه النماذج من التضحيات، بشكل عفوي أو عن سبق إصرار وترصد، مكتفين بالنصف الفارغ من الكأس، حتى أضحى الحديث عن رجال الأمن والدرك والحرس الترابي ... وغيرهم من عناصر القوات العمومية، مقتصرا على التجاوزات، وممارسات شائنة، لاتزال ، للأسف الشديد ، مقترنة بسلوكات البعض، والتي لايمكن قطعا وبأي شكل من الأشكال السكوت عنها أو مباركتها، لكن بالمقابل وجب تسمية الأشياء بمسمياتها. ودّعت أسرة الشيهب فقيدها، وكان من الممكن يوما بعد ذلك أن تودع أسرة أخرى عنصرا من فرقة الشرطة السياحية التابعة لولاية أمن مراكش، الذي أصيب بجرح غائر على مستوى يده تطلب نقله على وجه السرعة صوب مستعجلات ابن طفيل، وذلك بعد محاولته إيقاف شخص متهم بالتربص بالسياح ورواد ساحة جامع الفنا، والذي استل سكينا كبير الحجم وقام بطعن رجل الأمن الذي سقط مغشيا عليه. كما أصيب ضابط شرطة آخر بجروح خطيرة أثناء محاولته تحرير فتاة من مختطفيها على الطريق الساحلي للرباط، والذي أجريت له عملية جراحية على مستوى العين. وهو نفس المصير الذي كان سيلاقيه رجل أمن ثالث يوم الاثنين 22 اكتوبر بحي كويملة بشرق مدينة تطوان، لولا تدخل زميل له الذي استعمل سلاحه الناري وأطلق رصاصة تحذيرية في الهواء دفاعا عن زميله، هذا في الوقت الذي أدخل رجل أمن رابع إلى مصحة خاصة بنفس المدينة لتلقي العلاجات بعد تعرضه، وفقا لمصادر إعلامية، لجروح وطعنات سكين بليغة في يده اليمنى قد تؤثر على حركتها، أثناء تدخله لإلقاء القبض على شاب كان يهدد المارة والباعة، طالبا منهم بالقوة منحه إتاوات، دون الحديث عن رجال أمن من الصقور الدرّاجين وغيرهم الذين أصيبوا في حوادث سير أثناء تعقبهم اللصوص والمجرمين. إلى جانب هؤلاء، هناك من سقط بنيران صديقة، كما هو الحال بالنسبة لعناصر الشرطة الثلاثة الذين كانوا يعملون بمفوضية الشرطة ببلقصيري، والذين استقبلت أجسادهم رصاص السلاح الوظيفي لزميلهم، الذي وجه إليهم فوهة المسدس وأطلق العيارات النارية التي أصابتهم في مقتل، نتيجة لعوامل نفسية ألمت بالجاني، لم تأخذ بالحسبان تداعيات خطوته على زملائه وعلى أفراد أسرهم. وينضاف إلى سجل «ضحايا الواجب» أيضا، الأحد عشر شهيدا المنتمين لجهاز الدرك والقوات المساعدة الذين قضوا في أحداث مخيم «كديم إيزيك»، وكذلك الأمر بالنسبة لضحايا الحادث الأليم لطائرة «هرقل» العسكرية المغربية أو ما يعرف بفاجعة كلميم، وضحايا حادثة السير المفجعة التي وقعت بالطريق المتوسطي الرابط بين تطوان والحسيمة، والتي أودت بحياة العديد من أفراد الحرس الملكي ...، والراحل محمد زنبيبة مفتش الشرطة الذي وافته المنية يوم 10 أبريل 2007 خلال الأحداث الإرهابية لحي الفرح، والتي أصيب فيها 5 آخرون من زملائه، واللائحة طويلة ممن قضوا أو تعرضوا لإصابات بليغة في حوادث، أو نتيجة لاستهدافهم من طرف مجرمين ومهربين، كما هو الحال أيضا بالنسبة للمنتسبين لإدارة الجمارك، الذين تتعرض حواجزهم للمداهمة وأجسادهم للدهس بسيارات المهربين غير ما مرة. حوادث بمراكش، فاس، الرباط، أكادير، الدارالبيضاء ... وبكل شبر من الرقعة الجغرافية المغربية التي تحولت إلى مسارح للجريمة، تعددت فصولها وازدادت رقعة شراستها اتساعا، حيث أضحت السكاكين، والسيوف والسواطير وغيرها من الأسلحة البيضاء أدوات قاتلة جاهزة في أيدي المجرمين لتنفيذ اعتداءات دموية شنيعة في حق من أوكلت لهم مهام الحفاظ على أمن المجتمع وسلامة المواطنين وممتلكاتهم، والتضحية بسلامتهم وبأرواحهم هم نظير تحقيق شرط الأمن واحترام القوانين المؤطرة لعلاقات الأفراد فيما بينهم وبين المؤسسات. إنها ضريبة الانتماء إلى سلك الأمن، والدرك، والقوات المساعدة ...، ضريبة ليست بالهينة لدى المؤمنين بقدسية واجباتهم، والمدركين لتبعات هذه المسؤولية، لكن بالمقابل وجب عدم تعطيل وتفعيل الشق المتعلق بحمايتهم، حتى لا تستباح سلامة أجسامهم وأرواحهم، وحتى إن سجلت حوادث أكانت بتبعات جسدية أو ترتبت عنها وفيات لاقدّر الله، فإن ذكراهم يجب أن تظل راسخة في الأذهان، وألا تزول بمواراة أجسادهم التراب، أو بعد انتهاء مراسم تقبل العزاء على أقصى حد، وأن تصان كرامة ذويهم، ويتم تحصينهم اجتماعيا، حتى لايعيشون تقلب وانتكاسة الأيام، ويتجرعون الذل والهوان بعد فراق فقيدهم ومعيلهم. ذكرى يجب أن تكون مدعاة للافتخار، لاعنوانا للمزيد من التحسر والآلام، حتى لايقتل «شهداء الواجب» مرتين، مرة بأيدي المجرمين أو بفعل العوامل المختلفة التي قد تترصدهم أثناء القيام بواجباتهم، ومرة بأيدي مسؤولي الأجهزة التي انتموا إليها ذات يوم!