في الساعة العاشرة صباحاً، اتخذَ مكانَه بمقهى "النجاشي" ، بشارع جمال الدين الأفغاني . اختار طاولة على الرصيف، بقرب الباب الزجاجي. وبحركة رشيقة ، جرَّ أحدَ الكراسي، ثم جلسَ واضعا إحدى ركبتيه على الأخرى. كان يضع نظارتين سوداوين ، و يرتدي قميصا أزرقَ بلا أكمام ، وسروالَ دجينز ، بحزام جلدي سميك ، و حذاءَ موكاسان بلون القميص. وعندما اعتدل في جلسته ، أزال النظارتين ووضعهما على الطاولة ، ثم شرعَ يمرّرُ أصابعَ يده اليمنى على شعره الأسود الغزير. كان الأشخاص الجالسون من حوله يدخنون ويتكلمون دون انقطاع . أما هو فكان يكتفي بالنظر إلى العابرين أو إلى ساعته اليدوية ، مع أنه لم يكن على عجلة من أمره ، في الحقيقة . فأمامه أربع وأربعون دقيقة كاملة ، قبل تنفيذ المهمة التي جاء من أجلها إلى ذلك المكان . كان بعض زبائن المقهى ينظرون إليه بنوع من الجفاء . فهو ليس واحداً من الوجوه الأليفة ، التي تعودوا على رؤيتها هناك . وبالتالي ، فلم يكونوا مرتاحين لوجوده بينهم، هو الغريب الطارئ، في ذلك الفضاء الذي ألفُوه و صاروا يعتبرونه ملكا لهم ، مع مرور السنوات . بَيْد أنه لم يكن يشغل باله بما يفكر فيه أولئك الزبائن ، في حقيقة الأمر. إذْ ليس من طبعه أن يهتم بأشياء من ذلك القبيل . لقد جاء إلى مقهى " النجاشي " في مهمة خاصة ، تتعلق بالنادل الذي يعمل هناك ، و الذي يتعين عليه أن يغادرَ عالمَ الأحياء ، في تلك الصبيحة بالذات . وهو يعرف جيدا أنه سيؤدي مهمته تلك بحياد مطلق و بدقة منقطعة النظير ، وفق ما هو مسطر بحروف واضحة في الورقة الزرقاء ، المنسوخة بعناية شديدة من سجل الأحياء الكبير. وكان قد طوى تلك الورقة بعناية ، قبل مجيئه إلى المقهى، ووضعها في جيب قميصه الأزرق الخفيف. كانت الساعة تشير إلى العاشرة و ثلاث عشرة دقيقة، حين شبك ذراعيه خلف رأسه ، و مدّ رجليه تحت الطاولة ، ثم تمطى قبل أن يعتدل في جلسته من جديد . و في تلك اللحظة بالذات ، وقفَ النادلُ أمامه، و هو يحمل صحنا فارغا في اليد اليمنى، وجريدة مطوية بعناية تحت إبطه الأيسر، ثم سأله بنبرة لاتخلو من فظاظة : - آش تشرب آلشريف ؟ أجابه : - قهوة كحلة ، عافاك ... كان النادل في الثامنة والثلاثين من العمر، أصلعَ، نحيفاً، طويل القامة، خفيف الحركة، حادّ النظرات. وكان من الواضح أنه رجل طيب في العمق، وأنه ميال إلى الدعابة و المرح، حين يَكون رائقَ المزاج. و هو ما جعلَ زبناء المقهى يسمّونه " الشاب الظريف". ثم إنه يتمتع بصحة جيدة . ولعله لم يزر الطبيب قط ، خلال سنوات عمره الماضية. ومع ذلك ، فقد كان مقرراً أن يموت في الساعة العاشرة و أربع و أربعين دقيقة ، من صباح ذلك الخميس الربيعي الجميل . لم يكن ذلك القرار قابلا للطعن أو لإعادة النظر أو التأجيل . فمنذ ألوف السنين ، و الناس يموتون بالطريقة نفسها ، مهما اختلفت الظروف وتعددت الأسباب : يأتي ملك الموت ، في الموعد المحدد ، و يتخذ الهيئة المناسبة ، ثم يؤدي مهمته بالطريقة التي يختارها وبالحياد المطلوب. بعدها ينتهي كل شيء . وعندما جاءه النادل بالقهوة و وضعها أمامه على الطاولة ، لاحظَ أن حركاته تشي بالضيق . إثر ذلك ، ركزَ بصرَه على عيني الرجل ، فرأى بريقاً أزرقَ ينبعث منهما . إنه بريقُ الموت ، الذي يَعْرفه هو حق المعرفة ، حين يشعّ من عيون البشر الفانين . كان " الشاب الظريف " - الواقف أمامه - يضع هاتفه المحمول في محفظة جلدية صغيرة، لصيقة بحزامه . و كان ذلك مطابقا تماما لمَا هو مدون في الورقة الزرقاء ، التي تحمل أوصاف ذلك النادل ، و تشير إلى كل التفاصيل المتعلقة بوقائع موته الوشيك . و عندما أخرجها للتأكد من بعض المعلومات ، سقطتْ منه فانحنى النادل و التقطها بخفة و أعادها إليه ، متمتماً بكلام غير مفهوم . شكره هو الآخر بعبارات غامضة ، و أمسكَ الورقةَ بيمناه ، وباليسرى أبعدَ فنجانَ القهوة قليلاً عن النظارتين . وفي العاشرة وخمس وعشرين دقيقة، رنَّ هاتفُ النادل، فأخرجه بحركة مضطربة من المحفظة الجلدية اللصيقة بالحزام ، و شرع يتكلم بنوع من الانفعال . كان واضحا أنه يتحدث إلى زوجته . وكان يقول لها بصوت مسموع : - شوفي، أنا مْعَا الربعة دْ لَعْشية نْكونْ فالدارْ ... أو ذيكْ السّاعة نتْفاهْمُو ...أمّا دابا خلّيني عليك فالتيقارْ ... خليني نصور ليكم طرف ديال الخبز الله يرحم الوالدينْ ... مَلّي نْجي للدارْ ناخذو الوقت الكافي باش نتفاهمو .... كان النادلُ يتكلم بعفوية، غير عابئ بالزبائن من حوله. وكان هو يراقبه ويصغي لما يقوله باهتمام، دون أن يَغيبَ عنه ذلك التطابقُ المطلق بين العبارات التي ينطق بها الرجلُ في الواقع والعبارات المكتوبة في الورقة الزرقاء. وبعد انتهاء المكالمة، أعاد النادلُ هاتفَه المحمول إلى المحفظة الجلدية الصغيرة بحركة تلقائية . و لم يكن يَدور بخلده أنها المرة الأخيرة التي يقوم فيها بذلك . أما هو ، فقد عدّل جلستَه على الكرسي، من جديد ، ثم عاد ينظر إلى ساعته ، التي كانت عقاربها تشير إلى الساعة العاشرة وثلاثين دقيقة . كان من المنتظر - حسب ما هو مكتوب في الورقة - أن تصلَ الابنة الكبرى للنادل ، في تلك اللحظة بالذات، وأن تدلف إلى المقهى و هي ترتدي طابلية صفراء، مزينة بورود صغيرة بيضاء وخضراء . مباشرة بعد ذلك ، يَكُونُ على الطفلة الصغيرة - التي لم تتجاوز بعدُ سنتَها العاشرة - أن تتوجه إلى المكان الذي يقف فيه والدُها النادل . و عندئذ ، ينحني عليها هذا الأخير و يقبلها، قبل أن يضع يده في جيبه و يناولها قطعة نقدية من فئة درهم واحد ، ثم يوصيها بأن تحترس حين تعبر الشارع ، عائدة إلى منزلهم القريب من هناك . و إذْ تبتعد الطفلة قليلا عن باب المقهى ، يشير إليها والدها بيده و يخاطبها بصوت مسموع : - نزهة ! شوفي ! فالعشية را غادي إيجي عمك إيراجع معاك العربية ... ثم يتابعها بنظراته إلى أن تختفي في الجانب الآخر من الشارع. وتَكون تلك آخرَ مرة ترى فيها الطفلةُ أباها و يرى فيها الأبُ طفلتَه . و قد حدثَ كل شيء في الموعد المحدد ، كما هو مكتوب ، دون أدنى اختلال أو ارتباك. وبعد أن انصرفت الطفلة راكضة، مسرورة بقطعتها النقدية ، شرع أحد الزبائن في الاحتجاج على النادل ، بسبب الطعم المرير للقهوة ، التي قدمها إليه . لكن النادل تجاهله، ومضى بخطى سريعة إلى داخل المقهى. أما هو فكان يصغي إلى كلام ذلك الزبون ، بنوع من اللامبالاة ، لأنه لا يَعرف ما طعم القهوة ، في حقيقة الأمر. بعد ذلك نهض الزبون الغاضب وغادرَ المكان . ثم جاء النادل و أخذ يشتمه بصوت عال ، لأنه مضى قبل تأدية الثمن . ويبدو أن تلك الشتائم لم تشف غليله ، إذْ إنه قام أيضاً برمي الصحن الفارغ أرضاً ، و هو يصرخ بأعلى صوته : - الله يلعن بوها خدمة هاذي ! الواحد إيدير أيّ حاجَة فالدنيا أو ما يخدمش گارسونْ مْعا هاذْ البَشَرْ... بعدها ، انحنى " الشاب الظريف " بخفة و تناولَ صحنه ، ثم توجه من جديد إلى داخل المقهى. كانت عقارب الساعة تشير عندئذ إلى العاشرة وثلاث وأربعين دقيقة . و كان هو يعرف أن تلك العبارة التي تفوه بها النادل هي آخرُ ما يَنطق به من كلام، في حياته القصيرة، وفق ما هو مُدَوّنٌ في ورقته. وبعد أن نظر إلى ساعته من جديد، نهض واقفا، ودفعَ الكرسي الذي كان جالسا عليه بخفة لا يستطيعها الآدميون ، ثم لحق بالرجل داخل المقهى ووضع يده اليمنى على كتفه من الخلف. وحين استدار نحوه النادلُ الطيب ، ارتاع من الهيئة التي اتخذها ذلك الغريب الطارئ، في تلك اللحظة بالذات. كانت هناك أشعة زرقاء مميتة ، تنبعث من عينيه، وتنفذ إلى جسم النادل ، مصحوبة بصوت حاد لا يطيقه البشر. لكن النادل وحده كان يرى تلك الهيئة المرعبة ويشعر بنفاذ تلك الأشعة القاتلة إلى جسمه و يسمع ذلك الصوت المرعب الذي يواكبها. أما الزبناء الذين يمتلئ بهم المكان، فلم يبد عليهم أنهم انتبهوا لشيء . وعندما حاولَ النادل أن يصرخ من الرعب، اكتشفَ أنه عاجز تماماً عن ذلك . لكن معاناته لم تطل . ففي الساعة العاشرة وأربع و أربعين دقيقة بالتحديد ، سقط جثةً هامدة. أما هو فقد اختفى مباشرة بعد انتهاء مهمته، مثلما اختفى الكرسي الذي كان يجلس عليه. و كذلك الطاولة و الفنجان المليء بالقهوة . إذْ لا ينبغي لأحد من البشر الفانين أن يستعمل لاحقا تلك الأشياء الدنيوية التي استعملها هو أو لمسَها . وعلى أية حال، فمنذ ألوف السنين و الناس يموتون بالطريقة نفسها ، مهما اختلفت الظروف و تعددت الأسباب : يأتي ملَكُ الموت في الموعد المحدد ، و يتخذ الهيئة المناسبة، ثم يؤدي مهمته بالطريقة التي يختارها و بالحياد المطلوب . بعدها ، ينتهي كل شيء.