لا أخفيكم سرا أن ما دفعني إلى كتابة هذا الموضوع هو مقال الأستاذ محمد الساسي الصادر بجريدة المساء مؤخرا و الحامل لعنوان الدولة المدنية , اذ وجدت أن الأستاذ الساسي وهو يناقش الموضوع قد انغمس في نوع من البحث عن التوفيق بين مجموعة من الرؤى و الاختيارات المتناقضة و المتنافرة في محاولة لقولبتها داخل إطار ما أطلق عليه اسم الدولة المدنية ، فالمقال يتكلم عن امتيازات يجب أن تحفظ للإسلاميين كما يتحدث عن قدر مسموح به من العلمانية يجب أن يستعمل لتحديد العلاقة بين العلمانيين المعتدلين كما اسماهم الساسي و الإسلاميين المعتدلين بالإضافة إلى الاحتفاظ بإمارة المؤمنين كمجرد لقب شرفي, و اعتبار الإسلام الدين الرسمي للدولة و إلى غير ذلك من النقط و الأفكار التي تقدم بها الأستاذ الساسي في محاولته لإيجاد الأرضية المشتركة بين الفاعلين السياسيين ( الإسلاميون المعتدلون و العلمانيون المعتدلون ) من اجل بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تتسع لجميع مكوناتها . أنا لا أنكر أن ما تقدم به الأستاذ الساسي من توضيحات و أفكار هي جوهر الإشكال القائم اليوم بين المعسكرين العلماني و الديني و أن الأسس التي أرساها الكاتب في مقاله يمكن أن تشكل التصور العام لمفهوم الدولة الديمقراطية و لما يتوجب عليه أن تكون العلاقة بين مختلف الفاعلين داخلها ، لكن مفهوم الدولة المدنية هو أعمق و ابلغ من ذلك بكثير, فالدولة المدنية لا تعترف بامتيازات أو توافقات فهي دولة المواطنة و سيادة القانون التي تعطى فيها الحقوق و الواجبات على أساس المواطنة ، فلا يكون فيها التمييز بين المواطنين بسبب الدين آو اللغة آو اللون آو العرق وتضمن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية و تحترم التعددية و التداول السلمي للسلطة و تستمد شرعيتها من اختيار الجماهير و تخضع للمحاسبة من قبلها . و الدولة المدنية هي شكل تأطيري مجرد لا يعتنق الأديان و لايمارس المعتقدات, بل هي قوة اجتماعية منظمة تملك السلطة و تعلو قانونا على أي جماعة داخل المجتمع ، و على أي فرد من أفراده و لها وحدها دون (الأحزاب ) ( الجيش) ( الجماعات الدينية) (التجمعات الاقتصادية ) حق القسر وطلب الإذعان من طرف مواطنيها ، وهي إرادة جدية للتدبير المؤسساتي الديمقراطي للدولة بشكلها المجرد انطلاقا من قوانين و ضوابط وضعية عادلة بدون خلفيات دينية او عقائدية ، و هي غير قابلة لتبني اي دين أو معتقد ، فالكل يعيش في كنفها استنادا لمبدأ المواطنة و سيادة القانون . و الدولة المدنية هي كل غير قابل للتجزيء يأخذ كلها و لا يترك بعضها و إلا افتقدت جوهرها و حادت عن غايتها، وهنا لابد لي أن أشير إلى الاتفاق مع الأستاذ الساسي فيما يخص كون الدولة المدنية هي الوصفة السليمة و المناسبة لبناء المجتمع الديمقراطي الذي يتسع لكل الفاعلين و المكونات السياسية بشرط الإيمان بأركانها و مقوماتها و الابتعاد عن منطق تكييفها و ملاءمتها مع الأوضاع الخاصة بكل بلد على حدة ، و هو ما يشوهها و يجرها إلى التخلي عن مجموعة من مقوماتها و ملامحها التي لا تستقيم بدونها . إن الدولة المدنية هي إيمان من طرف الجميع بضرورة إبعادها عن منطق الهيمنة و التنميط وفق فكر آو دين معين , فهي ملك لجميع أبنائها أو مواطنيها, بعيدا عن أي امتياز ديني أو عرقي أو لغوي أو اقتصادي أو جاه و سلطة, فالكل سواسية أمام القانون أو بمعنى أصح الدولة المدنية هي التي تتعامل مع مواطنيها بمنطق الحقوق و الواجبات, ما لك و ما عليك كما نص عليه القانون، فالكل له مكان في الدولة المسلم و اليهودي و المسيحي .... و ليس لأحد الغلبة, فالمواطنة هي الغالبة. و إذا ما حاولنا إخضاع هذا المفهوم الراقي للدولة لمنطق المجموعات و الحركات الإسلامية المعتدل و الراديكالي منها و استقرائنا لمواقفها وآراها فيما يخص مقومات الدولة المدنية (المواطنة ، سيادة القانون، الحرية واحترام حقوق الإنسان، التداول السلمي للسلطة) سنلحظ بسرعة أن فكرها و معتقداتها يتعارض بشكل بين مع مقومات الدولة المدنية كما سيظهر لنا استحالة إيمانها بهذا المفهوم . فالإسلاميون بصفة عامة يرون أن الدولة يجب أن تحكم بشرع الله وعلى المسلمين تنفيذه و يجب معاقبة المتمردين عليه بإقامة الحدود و القصاص من المعتدين ، و المعتدلون منهم كما سماهم الأستاذ الساسي يدعون إلى دولة مدنية حسب زعمهم تقوم على التسامح فيطبق على المسلمين شريعتهم و لايلزم بها غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى,لأن لهم شرعا مختلفا و لا يجوز حسبهم أن يتولى أمر الدولة أو الحكومة امرأة أو غير المسلمين لأنه لا ولاية لذمي على مسلم و لا ولاية لامرأة على رجل ، و هو شيء يهدد وحدة الدولة و تناسقها و يلغي حق الاختلاف و حق الآخر في تدبير الدولة ويجعلها حكرا على تيار معين دون آخر و ينسف أركان الدولة المدنية بمعناها الكوني القائم على حماية وحدة الدولة مهما تعددت مرجعيات المواطنين الدينية و الثقافية. إن الدولة المدنية هي التي تقوم على ركنين أساسيين : القانون الوضعي و عدم التميز بين المواطنين لا على أساس ديني او عرقي او ثقافي ، و هي بذلك الدولة القادرة على استيعاب الجميع و على حماية الحقوق و المواثيق الكونية المؤسسة لذلك و هي الدولة المستجيبة لشروط العصر و التطور الإنساني غير القابلة للتوافق أو التعديل, فهي دولة المواطنة و الكرامة و التي لا تعتنق دينا آو معتقدا, بل تجعل القانون أسمى ما بها و الديمقراطية الشمولية أساسها الذي تقوم عليه و هي السبيل لبناء الوطن الذي يعتز كل أبنائه بالانتماء إليه . * عضو اللجنة الإدارية لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية