كان من المفترض أن يشكل احتضان قطر لكأس العالم 2022 نقطة تتويج لاستراتيجية النفوذ والهيمنة، لكن الامارة الخليجية الغنية تجد نفسها في مواجهة أكبر فضيحة في تاريخها: استعباد آلاف العمال بإسم كرة القدم,وسط الأوراش الضخمة في قطر يموت العمال الهنود والنيباليون بالمئات. في هذا التحقيق أضواء على معاناة هؤلاء العمال الذين تتم التضحية بهم قربانا لكرة القدم... رفاقه في المسكن لايتذكرون اسمه العائلي, بالكاد يتذكرون أن اسمه بيرومال وأن عمره حوالي الاربعين, وأنه ينحدر من جنوب الهند. الرجل حل في يونيو ليقيم في غرفة صغيرة يتخذها كمسكن ببلدة الحوز التي تعصف بها الرياح الصحراوية طيلة الصيف. ظل يشتغل طيلة 11 ساعة في اليوم ,6 أيام في الاسبوع في واحد من الاوراش الكثيرة التي فتحت في هذه الإمارة التي عهد إليها بتنظيم منافسات كأس العالم سنة 2022. يقول أحد رفاق بيرومال :» »رفض مشغلنا منحنا فترة الراحة المنصوص عليها في القانون ما بين 11 والنصف والثالثة ظهرا خلال الشهرين الاكثر في السنة, حيث تصل الحرارة إلى 50 درجة««. ماذا كان بإمكانه أن يفعل, فهذا العامل لم يكن باستطاعته تغيير العمل أو العودة إلى بلده, فقادة الكفيل أحد أسس الحياة الاقتصادية في قطر البلد الذي يتوفر على أعلى دخل فردي في العالم (110 ألف دولار سنويا) تمنع على جميع العمال الاجانب بمن فيهم الغربيون فسخ عقد تشغيلهم دون موافقة الكفيل الذي يكون في الغالب هو مشغلهم, وبالرغم من هذه الاكراهات التي تحيل على الاشغال الشاقة, ظل بيرومال متشبثا بالأحلام العادية للأيادي الصغيرة القادمة للعمل في شبه الجزيرة العربية, إعالة العائلة التي بقيت في البلد والعودة بعد ثلاث أو أربع سنوات ببعض المدخرات المالية لتغطية مصاريف تزويج بنت أو بناء مسكن. لكن في أحد أيام منتصف شتنبر وجده أصدقاءه مرميا على السرير, يقول السائق المسؤول عن نقل العمال إلى موقع الورش: »اشتكى في الصباح من حمى شديدة ولم يركب الحافلة ,نقلته إلى المستشفى حيث أعطوه دواء ثم عدت به إلى المخيم ورحلت, وعندما عدنا في المساء كان قد فارق الحياة بعد أن فاجأته أزمة قلبية, حملته سيارة اسعاف بعدها لم نسمع عنه شيئا«. موت عادي تقريبا, كل سنة يغادر الكثير من العمال المنحدرين من جنوب شرق آسيا والذين يشكلون 80% من سكان قطر البالغ عددهم حوالي 2 مليون نسمة, يغادرون في توابيت تنتهي حياتهم في البلد الذي كانوا يعتقدون أنهم سيبدأون فيه حياة جديدة، يحصدهم الموت بفعل ظروف العمل القاهرة، قام أحد خبراء الكونفدرالية النقابية الدولية الذين جاؤوا في بداية الشهر إلى الدوحة في سياق التحقيق الذي أنجزته صحيفة الغارديان البريطانية, والذي يقدم قطر كدولة تمارس العبودية, قدموا خلاصاتهم على افتراض أن نسبة الوفيات لن تتراجع حتى سنة 2022 واخذا في الاعتبار 1,5 مليون عامل المنتظر وصولها إلى البلد، خلص الخبراء إلى أن ما لا يقل عن 4000 عامل مهاجر سيؤدون بأرواحهم ثمن المونديال القطري. «عدد العمال الذين سيموتون خلال بناء التجهيزات الاساسية, سيفرق عدد اللاعبين الذين ستطأ أقدامهم الملاعب»« يتوقع ساران بورو, الكاتب العام للكونفدرالية النقابية العالمية. بناء الملاعب التسعة الضخمة التي ستحتضن منافسات كأس العالم لم يبدأ بعد، لكن غابة الآليات والرافعات المنضوية في شوارع الدوحة تمهد لهذا الموعد العالمي, فهناك خط ميترو قيد الانجاز وكذلك ثلاثة أحياء سكنية ضخمة .. الذي يجري بناؤه على انقاض مركز المدينة القديم. حي لوزاي المقرر بناؤه بضواحي العاصمة وحي بيرل وهو عبارة عن مارينا من خمسة نجوم, حيث يتهافت علية القوم ,ومن المرتقب أيضا بناء مطار جديد خلال الأشهر القادمة,يتوقع أن ينافس مطار الدوحة, أحد أكبر المطارات في العالم. وحرصا على السمعة, يستعرض كبار شركات البناء والاشغال المكلفة بهذه المشاريع الضخمة ,حرصهم على حسن ظروف العمل, ممنوع الدخول بدون خودة ولباس خاص وأحذية العمل إلى ورش مشيريب داخل المدينة حيث يعمل حوالي 13 ألف عامل, ولم يسجل وفد الكونفدرالية النقابية الدولية الذي زار الموقع أي خرق فاضخ لقواعد السلامة, وأمام الزوار الاجانب يستعرض مسؤولو هذه الشركات العملاقة امثال فانشي للبناء (فرنسية) أو بروكفيلد الاسترالية أو CH2 HILLالامريكية» آلاف ساعات العمل المنجزة دون وقوع أدنى حادث ويفتحون ابواب معسكرات اقامة العمال النموذجية ,حيث يتوفر كل شيء لضمان شروط الراحة والترفيه للعمال عند عودتهم من العمل, مقابلات في كرة القدم, مسابقات ترفيهية ورياضية, امسيات راقصة.. وكتب على لوحات احد هذه المعسكرات العامل السعيد هو عامل منتج ,بل يوجد طبيب نفسي لعلاج العامل أو مسير الاشغال الذي يعاني من وحشة البلد. لكن بمجرد التدرج في سلسلة المناولة التي تشكل النسيج الاقتصادي لقطر, تبدأ التجاوزات في الظهور: صلاح الدين من أصل هندي يبلغ من العمر حوالي 50 سنة ويعمل في مجال التبليط بورش بيرل, يعرف ذلك جيدا. بعد 5 أشهر في البلد، مازالت المقاولة الهندية التي تعاقد معها لم تسلمه بعد رخصة الاقامة, ويؤكد أنه بدون هذه الوثيقة يستحيل ارسال الاموال إلى الخارج أو تلقي العلاج في مستشفى عمومي وداخل البيت الذي لاتتعدى مساحته 15 مترا مربعا الذي يتقاسمه صحبة 7 عمال آخرين. ويضيف كل شهر ترسلنا الشركة إلى دبي من أجل تجديد التأشيرة, وهو أمر غير قانوني, هناك خطر أن يتم اعتقالنا في أية لحظة من طرف الشرطة ومثل أغلبية المشغلين في قطر, تخرق الشركة القانون الذي يفرض اقامة 4 عمال في الغرفة كأقصى حد, ويمنع الاسرة المنصوبة فوق بعضها, ويقول صلاح الدين «لقد اجبرتنا الشركة على شراء أفرشتنا، ولا توفر لنا حتى الماء الصالح للشرب. وعندما اشتكينا مرة، اقترح علينا المشغل أن نشرب ماء المراحيض. سيل من الاهانات من اجل اجر هزيل في نهاية الشهر: 900 ريال ( 180 اورو) كحد ادنى و 1200ريال كحد اقصى، مع احتساب الساعات الاضافية. يقول راجيف شرما النقابي الهندي وعضو فريق الكونفدرالية النقابية الدولية» للاسف هذه ممارسات مألوفة. لقد التقيت عمالا يتكدسون في غرفة واحدة. وآخرون وقعوا عقودا بأجر 200ريال ولا يتوصلون حتى بهذا الاجر كاملا. وباستثناء نظام الكفالة،فإن قانون الشغل جيد والمشكل يكمن في التطبيق. والعدد غير الكافي من المفتشين وبطء العدالة تشجع على كل الخروقات. نفس اللامبالاة تجاه المتوفين أثناء العمل. والحكومة التي لا تتوفر على احصائيات رسمية تحاول التقليل من المشكل, لكن الأرقام التي تقدمها السفارات تثير القلق. سفارة الهند التي تمثل اكبر جالية مهاجرة في قطر احصت 237 وفاة سنة 2013 وخلال تسعة اشهر الاولى من سنة 2013. بلغ عدد الوفيات 159 مع أعلى رقم وهو 27 وفاة خلال شهر غشت. في صفوف النيباليين. ثاني اكبر جالية مهاجرة, 400 الف مهاجر والعاملين بكثرة في مجال البناء. فإن الحصيلة لا تقل سوءا 200 وفاة كل سنة حسب مصادر مطلعة طلبت عدم الكشف عنها, حوادث الاصابات القلبية تشكل %50 الى %60 من الوفيات ,تليها حوادث السير وحوادث الشغل التي تمثل حوالي %15 من الوفيات. وفي غياب تشريح طبي، يستحيل تأكيد أن كل حالات الاصابات القلبية او على الاقل الوفيات المصنفة كذلك هي ناتجة عن حياة السخرة والاعمال الشاقة التي يعيشها عمال البناء, كما أن استهلاك الكحول الشائعة في اوساط العمال قد يكون له دور في هذه الحوادث. لكن العارفين بخبايا هذا الموضوع يجمعون على أن عددا مهما من هؤلاء العمال يموتون بسبب مزيج الارهاق وارتفاع الحرارة واجتفاف الجسد من الماء، الآفة الاساسية في هذه الاوراش. ويتساءل ساغارنيبال, احد زعماء هذه الجالية قائلا: كيف يمكن تفسير ان عاملا نيباليا واحدا يموت كل ثلاثة ايام بأزمة قلبية, بينما لا يتعدى عمر اغلبهم20 سنة؟ وهكذا تجد السلطات القطرية نفسها محاصرة وسط لعبتها. في العمق، ظروف العيش والعمل التي توفرها لليد العاملة لا تختلف كثيرا عن ظروف مثيلتها في الدول المجاورة. الوتيرة الجهنمية للعمل, السكن غير اللائق وشبح الكفالة هي القاسم المشترك بين الباحثين عن العمل في الخليج العربي, سواء في الدوحة او الرياض او ابو ظبي. وجشع الوكالات التي تستجلبهم من القرى النائية في النيبال او الهند او بنغلاديش او سيرالانكا ,تجار العبيد الجدد الذين يلوحون لهم بأجر مغري غالبا ما يتم خصم %30 منه عند وصولهم ويجبرونهم على الاستدانة من اجل اداء واجبات التأشيرة وثمن التذكرة. هؤلاء ايضا يجب ادانتهم. لكن بانتزاعها ورقة المونديال. وضعت الاسرة الحاكمة في قطر نفسها تحت مجهر اضواء وسائل الاعلام والمنظمات المهتمة بحقوق الانسان. فالحاكم السابق الشيخ حمد، كان يتصور أنه سيجعل من الموعد الكبير للكرة المستديرة. نقطة تتويج لاستراتيجية النفوذ والهيمنة التي طورها طيلة عشر سنوات الأخيرة. تتويجا لسياسة اشعاع جعلت من هذه الامارة المغمورة والغنية بالغاز أحد الفاعلين الاساسيين على الساحة الاقتصادية والدبلوماسية الدولية. لكن بالنسبة لابنه تميم الذي وصل الى السلطة في يونيه الماضي، فان الحدث يشكل مصدر ازعاج دائم, كما لو أن جاذبية قطر ذبلت فجأة. وهذه القضية اصبحت مصدر ازعاج كبير للسلطات, بدليل ان صاحب هذا التحقيق. أدى الثمن صحبة صحفيين آخرين من خلال وضعه لساعات في السجن وخضوعه للتحقيق والاستنطاق. فالإمارة التي تحوم حولها شبهات شراء تصويت الفيدرالية الدولية لكرة القدم (الفيفا) وتعاني من نفوذ كبار اصحاب القرار المالي في كرة القدم, لأن المونديال سيجري في الصيف الذي يشهد حرارة مفرطة وقد يتم اجراؤه في الشتاء, وبالتالي سيخلخل جدول المنافسات الدولية. هاهي اليوم تواجه اكبر فضيحة في تاريخها القصير. وباسم الاه كرة القدم, قد يصبح اغنى بلد في العالم, مقبرة الكادحين في الصحراء. بنجمان بارت مبعوث لوموند