عندما يتم الحديث عن تطور العلاقات الدولية، لا يمكن للمتتبع إلا أن يستحضر تطور التفاعلات الإيديولوجية والمصلحية دوليا وإقليميا وعلى صعيد البلد الواحد. فبالرغم من إثارتنا إشكالية ترجيح «الحسم» الإيديولوجي لصالح الفكر الرأسمالي بعد سقوط جدار برلين (انتصار الحق في التراكم الرأسمالي وفي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج)، لا زالت المعركة في أوجها بين التوجهات النيوليبرالية المدعمة للسيطرة المالية والاقتصادية للشركات العابرة للقارات والشركات متعددة الجنسيات (إلغاء كل الحواجز المعرقلة لحرية حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال مع فرض نظام انتقائي في مجال الهجرة ونقل الخبرات العلمية والتكنولوجيا) وبين من يربطون الديمقراطية على الصعيد الكوني وعلى صعيد البلد الواحد بضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية والحرص على تقليص الهوة ما بين الأغنياء والفقراء وما بين الشمال والجنوب. وفي هذا الصدد, نجد الولاياتالمتحدةالأمريكية، بالرغم من إعلانها ولادة النظام العالمي الجديد المؤسس على الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان الكونية، لا زال منطق دبلوماسيتها مرتبط بثلاثة انشغالات أساسية: إسرائيل، مصادر الطاقة خصوصا النفطية منها، والإرهاب. إنها انشغالات ليست منفصلة فيما بينها, بل محورها الأساسي هو الحفاظ وتقوية إسرائيل، الحليف الأقوى والأهم دوليا بالنسبة للولايات المتحدةالأمريكية بشكل خاص والدول الغربية بشكل عام. إن هاجس التحكم في مصادر الطاقة في الشرق الأوسط أصبح المحدد الأول لتطور العلاقات الدولية في المنطقة، تطور يستثني بشكل قاطع احتمال تعرض إسرائيل للخطر أو لأزمات أو مشكلات قد تضعفها وهي تحت مظلة الحماية الأمريكية. إن إسرائيل «أداة» غربية للسيطرة على منابع النفط والغاز وبسط النفوذ على الدول الناتجة له. فبتأييد إسرائيل وحمايتها ومناصرتها تمكنت الولاياتالمتحدة من نشر قواعدها العسكرية في منطقة الشرق الأوسط بسهولة إلى درجة أصبحت المنطقة مجالا لتجديد المناورات في العلاقات الدولية إلى أن أصبح شائعا وكأن حماية الأنظمة العربية أصبح هاجسا لا يمكن تحقيقه إلا مقابل النفط والغاز. وعليه، وأمام هذه الاعتبارات، التي كانت ولا تزال مطروحة للنقاش، يصبح تجديد السؤال بشأن المآل المحتمل للتطورات السياسية على المستوى الإقليمي وعلى مستوى البلد الواحد ذا راهنية دائمة. إنها راهنية مرتبطة بطبيعة مفهوم «الإستراتيجية» الذي لا يمكن إثارته كمصطلح جديد بدون استحضار إمكانية التعديل والتصويب لمحاورها الأساسية والثانوية حسب المستجدات والمفاجئات في كل مراحل التنفيذ. وهنا يبقى السؤال التالي، في نظري، من أهم الأسئلة الراهنة التي تتطلب فتح النقاشات المعمقة في موضوع المآل الديمقراطي والتنموي للدول العربية: هل يمكن أن نفترض استمرار أمريكا في اعتماد نفس المنطق الاستراتيجي في التعامل مع الأحداث الدولية والإقليمية بعد التطورات التي أحدثها الربيع العربي؟ ومن أجل الإجابة عن هذا السؤال، أرى أنه من الأجدى فتح النقاش بالتركيز على ثلاثة محاور مرتبطة بالقضايا الراهنة التي تميز الوضع السياسي في المشرق العربي ودول شمال إفريقيا، خاصة ما يتعلق بالتطورات التي تميز ارتباط مصير ملفات القضايا الجوهرية للدول الأساسية في المنطقة، وهي مصر وسوريا وتونس وفلسطين. 1 . تطورات الملفين المصري والتونسي وإمكانية بناء مشروع نهضة عربية جديد على أساس الدولة القطرية الديمقراطية لقد أكدت الأحداث أن التطورات التي عرفها الملف المصري لم تكن في الغالب منتظرة بالنسبة للغرب بشقيه الأمريكي والأوروبي. وكما أشرت إلى ذلك في السابق، كانت الثورتان الشعبيتان الأولى والثانية بمثابة تعبير عن إجماع وطني رفض من خلاله الشعب المصري الاستبداد بشقيه السلطوي والعقائدي. لقد كان التمرد على حركة الإخوان المسلمين بمثابة مؤشر سياسي واضح عن النضج الثقافي للشعب المصري وإيمانه القوي بوجود ارتباط وثيق بين الممارسة الديمقراطية الحقيقية والتنوير الثقافي والتنمية الاقتصادية. ومن خلال تتبعي لاحتفال هذا البلد بأمجاد حرب «6 أكتوبر/6 ساعات» لسنة 1973، وتفاعل الجماهير الشعبية مع هذا الحدث التاريخي (الذي توج بسهرة «ستاد» الدفاع الجوي الذي شاركت فيها كل الطاقات الفنية المعروفة في بلاد الكنانة)، ولجوء حركة الإخوان إلى ردود فعل عنيفة وبليدة غير محسوبة سياسيا في نفس اليوم، تبين لي، من خلال تقييمي الخاص للأحداث، أن عودة مصر إلى واجهة الأحداث الدولية بوجه ديمقراطي قد تتحول، في حالة تقوية الالتفاف العربي والخليجي حول تحقيق القيم الديمقراطية، إلى محفز لبناء مشروع مجموعة عربية جديدة على أساس التعاون الاقتصادي والسياسي الإقليمي (العمل على ترسيخ الثقافة الديمقراطية والتعاون التنموي). إنه توجه تؤكده طبيعة الأحداث السياسية المتراكمة في تونس التي أبانت بدورها عن وجود مقاومة شعبية لمحاولات الاستناد على «التمظهرات» الدينية لتيارات الإسلام الحركي من أجل السيطرة على الدولة والمجتمع. نفس التوجه عبرت عنه الأحداث السياسية المتراكمة في المغرب. فحكومة عبد الإله بنكيران عبرت، عكس ما كان منتظرا، عن ممارسات جديدة لا تمت بصلة عن نزعات التعالي وعن التهديدات السابقة التي كانت تعلنها بمناسبة وبغير مناسبة (في بدابة الولاية التشريعية). على عكس ما كان سائدا في أيام تشكيل الحكومة الأولى، التزم بنكيران الصمت وهو يجري مفاوضاته مع حزب الأحرار لتشكيل النسخة الثانية بعد انسحاب حزب الاستقلال من الأغلبية. كما تتبعنا كيف دعا وزير الدولة باها شبيبة حزبه في أحد الملتقيات عدم تكرار رفع شعار «رابعة»،......إلخ. إنها مؤشرات تدل أن التمرين الدستوري الديمقراطي المغربي بتراكماته السياسية قد يتحول في اعتقادي إلى نموذج في المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط. فإضافة إلى ظهور ملامح اقتناع قادة حزب العدالة والتنمية تدريجيا بالالتزام بالتواضع، تتبع الرأي العام كيف استطاعت المعارضة، بمختلف أجهزتها الحزبية والنسائية والشبابية والنقابية والجمعوية، تقوية صفوفها والاستعداد لخوض المعارك ضد الابتزاز الحكومي والتفقير الاجتماعي مباشرة بعد حلول الموسم السياسي والاجتماعي 2013/2014. في عبارة واحدة أقول أن على الشعوب العربية اليوم أن تطالب بالدعم الدولي من أجل بلورة طريقها الخاص للنهضة، وعليها أن تعتبر الانفتاح على العالم ذا أهمية قصوى في هذا الشأن، لكن شريطة أن لا تكون القوى الدولية الغربية والشرقية دعامة للاستبداد بمختلف أشكاله. إن هذه القوى مطالبة اليوم، من أجل تقوية شرعيتها الدولية، أن تبادر، وباستعجال، إلى تبني مصالح الثورات الشعبية بصدق وأمانة. وفي هذه النقطة بالذات، يمكن القول أن الزيارة التي يقوم بها الرئيس المصري المؤقت منصور للسعودية والأردن في هذا الأسبوع (مع استحضار إمكانية توضيح الموقف الإيراني بشأن مفاوضات جنيف1 ومآل المفاوضات في مؤتمر جنيف2)، وفي هذا الظرف بالذات، يمكن أن تشكل بداية لمرحلة جديدة بتداعيات إيجابية على المآل الديمقراطي والتنموي العربي بشكل خاص وعلى طبيعة العلاقات ما بين الدول الغربية والدول العربية بشكل عام. 2 . مصر ومستقبل علاقتها مع حركة حماس وبالقضية الفلسطينية لقد تتبع الرأي العام تدخل حركة حماس الفلسطينية في الشأن الداخلي المصري، وكيف نددت هي وشرطتها وجيشها (كتائب القسام) بفض اعتصامي رابعة والنهضة. لقد نسيت حماس أن عدوها الأول والأخير هو إسرائيل، ودفعها تعصبها المذهبي إلى معاداة الشعب المصري من أجل الدفاع على مرسي وجماعته. أكثر من ذلك، لقد استباحت الحدود المصرية في عهد المعزول، وكانت راضية كل الرضا على الصفقة الإخوانية المبرمة مع أمريكا وإسرائيل في موضوع تخصيص جزء من سيناء كامتداد للإمارة الإسلامية لحركة حماس في غزة. لقد نسيت حماس أن مصر قدمت أكثر من 100 ألف شهيد من أجل القضية الفلسطينية. ونتيجة لهذه التطورات غير المنتظرة، أصبحت سيناء ملفا من أخطر الملفات الأمنية بالنسبة لمصر. لقد استخدمت حماس الأنفاق كمعابر آمنة للإرهابيين للدخول إلى مصر، وشاركت في عدد كبير من العمليات الإرهابية إلى درجة ساهمت في تحويل جزء من الشعب المصري إلى فصيل مريض لا ينفع معه أي دواء. وكيف ما كان الحال، ومهما بلغت التحرشات التي تمارسها حركة حماس في قطاع غزة ضد الشعب المصري، لا يمكن، من باب المسؤولية التاريخية، أن يهاجم الجيش المصري قطاع غزة. فبالرغم من التذمر الذي عبرت عليه القوى السياسية في مصر جراء ممارسات قيادات حماس، فإن القضية الفلسطينية ستبقى دائما قضية وطنية عند كل العرب وعلى رأسهم الشعب المصري. فمهما كانت حدة محاولات تشويه الحقائق، فلا يمكن لأي كان أن يتنكر لانتصار الجيش المصري على العدو الصهيوني وتحرير سيناء وساكنتها من الغطرسة الإسرائيلية. 3 . الملف السوري، والحاجة إلى التجاوز الغربي لإثارة المعادلة «الفارسية/العربية» لتأجيج الصراع المذهبي «السني/الشيعي» من خلال تتبعي للملف السوري، اتضح لي أن مرحلة التوافق الأمريكي الروسي قد تم تجاوزها بالكامل، ليدخل الملف إلى منعطف جديد بتوازنات جيوستراتبجبة جديدة. فبعد الخيبة التي أصابت مصدر القرار الأمريكي جراء النيل من مقومات إستراتيجية بناء الشرق الأوسط الكبير، وجدت الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها في وضع اضطراري للجوء إلى إيران، حليف روسيا الأساسي في المنطقة، وتحويله إلى جسر إقليمي مشترك (ذريعة زلة لسان كيري التي استغلها وزير خارجية روسيا). لقد تتبع الرأي العام كيف أشادت أمريكا بمجهودات إيران الأخيرة في خلق نوع من الانفراج في هذه الأزمة المعقدة، وكيف أشاد أوباما بالتعاون السوري أمميا من أجل التخلص من أسلحته الكيماوية. لم تعد إيران ذلك «الشيطان الأكبر» بالنسبة للغرب، بل أصبحت الشريك المرحلي في منطقة الشرق الأوسط. أكثر من ذلك، لم تعد أجندة أمريكا ترتكز على توجيه ضربة عسكرية للحليف الاستراتيجي الروسي، بل مالت كل الميل، نتيجة تطور الأحداث، إلى خيار تصفية الثورة السورية. ونتيجة لعودة إيران إلى واجهة الأحداث الإقليمية والدولية، وجدت نفسي في وضع اضطراري لطرح بعض الفرضيات المحتملة في شأن التحالفات المستقبلية للمناقشة. الفرضية الأولى: هناك نوع من الإجماع في المنطقة، وعلى المستوى الدولي، على مواجهة القوى الإسلامية الجهادية في سوريا والحيلولة دون تحولها إلى قوة استقلال في المنطقة. كما أن إحساس التيارات الإسلامية الجهادية بهذا الميول الدولي والإقليمي دفعها إلى طرح مسألة وحدة التيارات الإسلامية المعارضة والدعوة إلى توحيد الجيش المعارض تحت اسم «جيش محمد». في نفس الاتجاه، يمكن اعتبار الاتصالات بشأن فتح العلاقات الدبلوماسية ما بين إيران والسعودية بمثابة تزكية لهذا الميول. الفرضية الثانية: إن تحليل منطق تراكم التطورات السياسية مشرقيا جعل القوى الدولية تقر بعدم جدوى التدخل العسكري في سوريا. إنه اقتناع جنبها دفع فواتير الحرب العشوائية القذرة، وفتح المجال للبحث عن تقاطعات مصلحية ما بين الغرب بكل مكوناته ومحور الصعود الجديد الممثل من طرف موسكو وبكين. إنه توجه التقطه الرئيس الإيراني الجديد (روحاني) وتمكن من اغتنام الفرصة المواتية لفرض بلاده كفاعل في الوضع الاستراتيجي المحوري الجديد لتكتمل صورة بناء تحالف جديد مدعم من طرف الغرب الأوروبي يضم كل من موسكو وبكين وواشنطن وتل أبيب وطهران. وهنا يمكن أن نفترض أن الرسائل التي تضمنتها كلمة نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والمعادية لإيران، مجرد مناورة سياسية لتمويه الرأي العام العربي والدولي، وفي نفس الوقت التعبير عن رفض تحويل إيران إلى قوة محورية في المنطقة. وهنا يمكن أن نفترض كذلك أن الأهم بالنسبة للغرب في الملف السوري هو الكشف عن منابع الإرهاب وعزل الإرهابيين داخل سوريا. وقد ساهمت تركيا في تحقيق هذا الهدف من خلال السماح للمجاهدين بعبور حدودها والدخول إلى التراب السوري. الفرضية الثالثة: يمكن أن تكون المبادرة السعودية لتجديد العلاقات الدبلوماسية مع إيران محاولة جدية، مدعمة بشكل سري من طرف الدول العربية، من أجل التفاوض مع إيران من أجل بناء مشروع استراتيجي عربي/شيعي وبناء جبهة شرق أوسطية عوض المشروع المحتمل الغربي/الإسرائيلي/الشيعي. وباستحضار الكلمة الأخيرة للرئيس التونسي المرزوقي، التي دعا من خلالها إيران إلى تغيير معاملاتها مع الدول العربية، تصبح هذه الفرضية محتملة كذلك. كما يمكن أن نفترض، نظرا لنجاح إيران في مواجهة الغرب، وخوف هذا الأخير من ترسانتها الصاروخية المهددة للمحطات النووية الإسرائيلية، ومن استمرار عمليات تخصيبها لليورانيوم، وما يثيره هذا الاستمرار من تخوفات جراء اقترابها من صنع القنبلة النووية، أن الدول العربية تستحضر عامل القرب الجغرافي والتاريخ، وتطمح إلى الاستعانة بالإمكانيات الإيرانية الضخمة وشراسة المحور الإيراني المنظم والمحكم من أجل بناء مشروع مشترك لا مكانة فيه لإسرائيل. إنه طموح لتقوية التقارب العربي-الإيراني وتطوير علاقاتهما الدبلوماسية للحفاظ على التوازن والاستقرار في المنطقة. وهنا يمكن أن نفترض إمكانية خروج إيران من اليمن والجزر الإماراتية من أجل توطيد العلاقة مع دول الخليج، وابتعادها ولو ظرفيا عن استغلال النزعة الشيعية لإعطاء الانطلاقة لمسار تصالحي مع الدول السنية، الشيء الذي سيخفف عليها الصغوطات المالية المترتبة عن الإنفاق الكثيف الموجه لدعم حزب الله وسوريا وشيعة العراق. كما لا يمكن أن لا نستحضر الموقف الحكومي الإيجابي لدولة مصر ما بعد الإخوان اتجاه إيران واتجاه سوريا. فإضافة إلى الدعم الخليجي الواضح للفترة الانتقالية المصرية، تطمع مصر الجديدة إلى تقوية علاقاتها الدبلوماسية بدول الجوار بالشكل الذي يجعلها في أتم الاستعداد لمقاومة المناورات الإستراتيجية الغربية الإسرائيلية التي تستهدف تقليص دورها الإقليمي والعالمي، وبالتالي توسيع هوامش فعلها للحسم النهائي في معركتها السياسية ضد الإخوان في الداخل والخارج. الفرضية الرابعة: إن لجوء أمريكا إلى المحور الإيراني جاء نتيجة ملامستها للواقع البائس للدول الخليجية، وضعف التأثير العربي على المستوى الدولي، وعدم قدرة الأنظمة العربية على مواجهة المخاطر التي تهدد أمن إسرائيل. وأمام هذا التقاعس والتراجع، وأمام الامتداد والتقدم الإيراني في العراق والشام ولبنان، بات من الضروري بالنسبة لأمريكا أن تفتح الحوار معها من أجل احتوائها. إن الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة أبانت عن أمرين هامين، يتعلق الأول بغياب نسبي للصوت العربي، والثاني ببروز علاقات جديدة أمريكية-إيرانية كامتداد لانفراج العلاقات الدبلوماسية الأمريكية الروسية. فالتسوية التي كان عمادها الاتفاق على تدمير السلاح الكيماوي السوري هي الصفقة التي رفعت من قيمة «الأسهم» الروسية في بورصة العلاقات الدولية. إنها صفقة وضعت المعسكر المدافع على الضربة العسكرية في موقف حرج إلى درجة أعطي الانطباع وكأن دول هذا المعسكر أصبحت عرضة للتهميش في معالجة القضايا الإقليمية الأساسية وعلى رأسها الأزمة السورية. وبذلك يمكن اعتبار محاولات السعودية للتقرب من إيران مجرد رد فعل لتوحي لدول المنطقة ولدول العالم أنها لا زالت فاعلة في صنع القرار الإقليمي. نفس المنطق يمكن ملامسته في ردود الفعل الإماراتية التي بادرت في الأسابيع الأخيرة إلى طرح مسألة الجزر الثلاث. إضافة إلى ذلك، بينت تطورات المسار التفاوضي أن استمرار النزاع في سوريا ونشوب حرب محتملة لا تخدم مصلحة إيران. وعليه يمكن اعتبار مخرج القضاء على الأسلحة الكيماوية للأسد بمثابة انفراج سيمكن روحاني من ربح المزيد من الوقت والتقدم في ملفه النووي (تفكيك الأسلحة الكيماوية يحتاج إلى الوقت والمال). كما أعتقد أن السلطة الإيرانيةالجديدة ترى أن دخولها على الخط في الأزمة السورية، وفي امتدادها الشيعي في كل من العراق وسوريا ولبنان والبحرين دعامتين لموقعها الدولي والإقليمي الجديد. خاتمة كيف ما كانت الفرضية أو الفرضيات المرجحة، ما يهم شعوب المنطقة اليوم هو الوصول إلى جواب شافي يجيب بشكل واضح عن سؤال دور القوى العظمى في العالم في دعم ترسيخ الثقافة الديمقراطية والحرية والتنمية في منطقة الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا. ما يؤرق الساسة والمثقفين في هذه المنطقة الغنية بثرواتها المعدنية والنفطية هو تحقيق المصالحة الواعية ما بين التراث والحداثة في عقول القوى المجتمعية، مصالحة يكون أساسها تعميم النقاش الفكري في التراث، ونقد أعطاب الثقافة السائدة، وتعميق التفكير والحفر في أسسها وأبنيتها العميقة. أقول هذا لأن تطورات الربيع العربي (الإطاحة بجماعة الإخوان والمقاومة الشعبية لحركة النهضة في تونس، وعدم الرضا الشعبي على الممارسات الأخيرة لتيارات الإسلام الحركي في سوريا، ...) أبانت بالملموس عدم نجاح المنظومة التقليدية في الاستمرار في إخضاع الشعوب بالتأويلات العقائدية الخاطئة. إن مصداقية الدول العظمى في العالم مرتبطة اليوم بمدى استعدادها لدعم حاجة الشعوب العربية إلى التحديث الثقافي على أساس ترسيخ نظرة شعبية جديدة تؤسس لعقل ونظام معرفي جديد دينامي يتطور في التاريخ وبالتاريخ، ويجمع بين النظرية والتطبيق، وبين السياسة والإيديولوجية، وبين النص الديني والتاريخ والأنتروبولوجيا، وبالتالي تعميم الوعي بكون النص القرآني، بوصفه أصل انبعاث التطورات الثقافية بإيجابياتها وسلبياتها عبر العصور، هو معطى يجب أن يخضع للاجتهاد والمعرفة النقدية للوقائع والأحداث وشروطها، وبالتالي توسيع شروط الوعي الشعبي للخروج النهائي من السياجات الدغمائية المغلقة التي رسختها تعسفا المؤسسات الدينية المتعاقبة عبر الأزمنة التاريخية. إن مستقبل الشعوب العربية يحتاج اليوم إلى مضاعفة جهود القوى الحداثية على مستوى البلد الواحد وعلى المستوى الإقليمي والدولي لكي لا يبقى سؤال الحداثة شعارا يتم ترديده في المناسبات وفي المنابر الخطابية فقط، بل حان الوقت لطرحه وتوجيهه إلى التراث بجميع مجالاته، وإلى العقل السياسي بالشكل الذي يعمم الوعي بضرورة مقارنة منطق ممارسة السلطة ونوايا وإرادة الحكام. كيف ما كان موقف الدول العظمى من الدول المشرقية، فإن هذه الأخيرة في حاجة إلى التحرك على المستوى الداخلي وعلى المستوى الإقليمي من أجل ترسيخ الثقافة الديمقراطية الحقة ومأسسة التعاون الاقتصادي والسياسي ما بين أقطارها. إن التطورات التي تعرفها كل من مصر والمغرب وتونس تحتاج إلى دعم دولي قوي لتتحول إلى نماذج ديمقراطية حقيقية يحتدى بها في باقي دول المنطقة، خاصة في دول الخليج التي تحتاج إلى تجاوز نزعة سلطة المشيخة والمرور إلى سلطة الدولة الديمقراطية الحداثية. أما ما يخص تطور العلاقات العربية مع تركيا وإيران، فإنني أعتقد أنه إذا كان الموقع الجغرافي الاستراتيجي لتركيا يؤهلها لتكون نقطة تواصل ما بين أوروبا وآسيا، فإن مستقبل إيران مرتبط أكثر بمستقبل دول منطقة الشرق الأوسط ودول شمال إفريقيا. وهنا أزكي النصيحة التي قدمها الرئيس التونسي المرزوقي أعلاه والتي دعا من خلالها إيران إلى ضرورة تحسين علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية مع الدول العربية والمغاربية. أما عن طبيعة العلاقات ما بين إيران وتركيا، فيمكن القول، أن تركيا، بقدر ما تعبر عن انزعاجها من الدولة الفارسية، بقدر ما لا تريد مخاصمتها نظرا لوعيها بأهمية امتداد سلطتها في كل من سوريا ولبنان والمناطق الكردية والعراقية... إن الشعوب العربية وأنظمتها السياسية في أمس الحاجة لبذل أقصى الجهود لتخفيف الاختلالات الوطنية والقومية والدينية والاثنية والعشائرية، والعمل على تقوية مقومات الدولة الوطنية القطرية، والعودة إلى ربط بنود الدساتير بمصالح الشعوب. إن نجاح الانتفاضات الشعبية في مواجهة ممارسات وخطابات التغليط العقائدي يحتاج اليوم إلى مبادرات جديدة تشارك فيها كل القوى المجتمعية والمؤسسات الرسمية الوطنية من أجل تفنيد ارتباط الفكر الديني السني بالنزعات الانشقاقية والعنف والتكفير والجهاد وهدر الدماء ومعاداة الآخر. لقد حان الوقت كذلك للحسم في مسألة استغلال القاموس الديني بتأويلاته السطحية من أجل تقوية الشرعية السياسية لتيارات الإسلام الحركي بشقيها الحزبي والجمعوي. أقول هذا لأنه تأكد بالملموس أن مواجهة العولمة الجارفة لا يمكن أن يتم على أساس الدعوة إلى الر جوع إلى الوراء والتنكر لتراكمات الحضارة الإنسانية العلمية والفلسفية والتكنولوجية..