من المؤكد أن كل من يتابع تفاعلات الملف السوري سيتبادر إلى ذهنه على الفور أن سوريا أصبحت اليوم ميدانا لحرب باردة جديدة بقيادات دولية وامتدادات إقليمية وجهوية، وأن الشعب السوري أصبح اليوم ضحية للاستراتيجيات والاستراتيجيات المضادة. إنه واقع اشتد فيه الصراع إلى درجة أصبح فيه سفك الدماء والتشويه بالجثث من هذا الطرف أو ذالك أمرا مستباحا لا رادع له، وأصبح فيه واضحا كذلك أن الحل هو دمقرطة سوريا على أساس الحرية الفكرية والإيديولوجية البعيدة كل البعد على النزعات الطائفية والمذهبية والعقائدية... ما أثار المتتبعين مؤخرا هو "الخرجة" الإعلامية للأسد على شاشة قناة المنار، خرجة مفاجئة في توقيتها وفي حمولتها السياسية. لقد بعث من خلالها رسائل إلى من يهمه الأمر، بعثها إلى "الأصل" وليس إلى "الصورة" حسب قوله، الشيء الذي بعثر أوراق الملف السوري وأبرز تساؤلات جديدة في شأن مآل مفاوضات جنيف2. لقد فرض بشار شروطا يصعب قبولها. إنها شروط متناقضة مع ما جاء في الخطة التركية الأخيرة، والتي راج أنها نوقشت مع القوى الدولية الأساسية القيادية للحرب الباردة الجديدة (الغرب الأمريكي الأوروبي/التحالف الروسي الصيني). لقد استبعد الأسد بشكل قاطع تنازله على صلاحياته كرئيس دولة لأي حكومة انتقالية كيف ما كانت طبيعتها، وأنه مستعد لخوض معركة الانتخابات الرئاسية إذا أراد الشعب ذلك. لقد رفض بشار اقتراح تشكيل حكومة كاملة الصلاحيات عندما كان في أسوأ الأوضاع، أما اليوم، بعدما حقق نوع من الانتصار الميداني في واجهة مدينة القصير القريبة من الحدود اللبنانية، وبعدما حصل على الصواريخ الروسية البعيدة المدى (تتجاوز 100 كيلومتر)، وعلى الدعم السياسي والعسكري الروسي غير المحدود، والدعم الإيراني المباشر بامتداداته الشيعية الإقليمية (حزب الله والحكومة العراقية)، وتجاوزه المعلن للتفوق العسكري الإسرائيلي الجوي، أصبح متداولا أن الحرب قد تطول، وأن عملية الاستنزاف الداخلي ستستمر، وأن مرتكزات الأمن القومي الإسرائيلي ستتقوى على حساب إضعاف القوى العربية، وأن "الجدار" الفاصل بين "عرب آسيا" وشعوب دول شمال إفريقيا سيزداد سمكه، وليس مستبعدا أن تمتد الحرب إلى دول الجوار كالأردن والعراق وتركياولبنان... ومن المحتمل أن تسير المنطقة في اتجاه إشعال نار الفتنة ما بين الشيعة والسنة، وإحياء صراع المشاريع الطائفية المذهبية الماضوية في المنطقة التي قد يترتب عنها نشوب حرب طويلة المدى: المشروع "الصفوي" التركي، والمشروع "الشيعي"، والمشروع "السني"، والمشروع "الصهيوني"، ....إلخ. دوليا، من المحتمل كذلك أن نمضي إلى جنيف3 وجنيف4... بدون مراعاة واقع الشعب السوري ومعاناته. وهذا الأمر ليس مستبعدا لأن المنطقة تعرف صراعا مماثلا ومفاوضات "فلسطينية/فلسطينية" لم يكتب لها أن تحسم لصالح الشعب الفلسطيني منذ عقود مضت(فتح/ حماس). وعليه، هل يمكن أن نقول اليوم أن ما ترتب عن الشد والجذب ما بين أمريكا وحلفائها من جهة، وروسيا وحلفائها من جهة أخرى، يحمل بوادر نجاح إسرائيل في تحقيق أهدافها، والتي تتجلى في إغراق الأمة العربية بالنزاعات والحروب الداخلية. هذه الفرضية التي تستحق البحث والتحليل ليست مستبعدة لأن صراع إسرائيل مع العرب صراع وجود وتفوق وسيطرة إستراتيجية. فإلى جانب فرضية "تأزيم" الأوضاع الداخلية للدول العربية، فإن إسرائيل لا تمل في السعي لتحقيق التفوق العلمي والتقني والاقتصادي والعسكري. إن مستقبل سوريا أصبح اليوم أكثر تعقيدا. إن تجاوز تصريحات الأسد الأخيرة للاتفاق الأمريكي/الروسي في باريس، الذي اقترح تشكيل حكومة انتقالية بصلاحيات استثني منها الأمن والجيش والمخابرات والبنك المركزي كأرضية قد تساهم في إنجاح مؤتمر جنيف2، قد أكد أن المفاوضات لن تكون سلسة ومرنة، وأن ما صدر عنه لن يخدم لا مستقبل شعب سوريا ولا مستقبل شعوب المنطقة. إن التطورات الجارية في الشرق الأوسط برمته تنم بحدوث الكوارث واستمرارها. لقد اتضح أن القوى المتصارعة تسير في اتجاه التصعيد والضعف، وأن مآل الحرب في المنطقة قد يعصف بمستقبل الشعوب بما في ذلك الشعب الإيراني. إنه واقع يحمل مؤشرات التشتيت وإنهاك القوى الحية في المنطقة حيث من المفترض أن تفضي الصراعات المستمرة في الآن نفسه إلى إضعاف النظام السوري، والثورة العسكرية للائتلاف وجبهة النصرة، وحزب الله، والعراق، وتركيا، ومصر....إلخ. لقد انحدرت الثورة إلى مستنقع العنف الذي طال أمده وتحول مع مرور الأيام إلى "بحيرة" دموية لصراع دولي وإقليمي لا يمكن أن يخدم إلا الكيان الإسرائيلي. هذا الكيان الذي يحتكم إلى استراتيجيات متعددة الأبعاد يسعى من خلالها ضمان سيطرته على المنطقة حيث يعتبر نفسه "قلبها" النابض و"عقلها" في الآن نفسه. وهذا ما سأبينه في الآتي من هذا المقال. أولا، استمرار الشد والجدب بين المعسكرين القويين في العالم بقيادتين الأولى أمريكية والثانية روسية أصبح اليوم صراعا أخذ شكل ضغوطات متبادلة. من جهة يحاول المعسكر الروسي وحلفاءه تحقيق التقدم في ساحة الحرب السورية، ومن جهة أخرى يحاول المعسكر الأمريكي وحلفاءه الضغط على الطرف الآخر بدعم الثورة السورية المسلحة والإكثار من المناورات العسكرية في مناطق مختلفة في الشرق الأوسط (مناورة الأردن بمشاركة 19 دولة، ومناورة الخليج البحرية بمشاركة 41 دولة، مناورة السعودية/تركيا الجوية المفاجئة في سياق غاب فيه السفير السعودي عن أنقرة أكثر من عامين...). في نفس الفترة، جاء قرار الاتحاد الأوروبي في بروكسيل الذي أعاد فتح النقاش في موضوع تمكين المعارضة من الأسلحة النوعية المتطورة. وفي نفس الآن تم تنظيم لقاء ثلاثي بفرنسا شارك فيه وزراء خارجية كل من روسيا سيرغي لافروف، وأمريكا جون كيري، وفرنسا لوران فابيوس، من أجل الإعداد لمؤتمر حنيف2. كما تتبع الجميع الضغط الدولي والإقليمي الذي مورس على المعارضة من أجل توسيع الائتلاف ليضم كتلة ميشيل كيلو الليبرالي ومشاركته في مفاوضات جنيف المقبل لخلق التوازن مع التيارات الإسلامية الجهادية. ثانيا، إن تطور الأحداث يرجح فرضية السعي الغربي الأمريكي والأوروبي، بتعاون عربي شرق أوسطي، للإطاحة أو إضعاف الجمهورية الإسلامية في إيران التي أنشأها الخميني سنة 1979. وهناك من يعتبر أن معركة الثوار المدعمة أمريكيا وأوربيا ما هي إلا معركة بالوكالة ضد إيران. هذا المعطى هو الذي أشعل نار الحرب الباردة من جديد. فالمشاركة المباشرة لحزب الله في الحرب ناتجة عن استحضار هذه الفرضية حيث اعتبر نصر الله سقوط الأسد بمثابة توقيف الدعم السياسي واللوجستيكي الإيراني للمقاومة. وبذلك فهو يعتبر في العمق انتصار المحور الأمريكي الأوروبي وسقوط نظام الأسد ووصول المتطرفين السنة التكفيريين إلى الحكم محاصرة حقيقية للمقاومة في لبنان، الشيء الذي سيسهل على إسرائيل إمكانية الدخول إلى لبنان لتفرض شروطها عليه. فهذه الاعتبارات وأخرى دفعت حسن نصر الله إلى القول أنه سيحارب لحماية نظام الرئيس بشار إلى آخر رمق. أما بخصوص الذرائع التي يقدمها رسميا لتبرير تدخله في سوريا، فقد أعلن أن دافعه هو حماية القرى الشيعية السورية الآهلة باللبنانيين ومسجد السيدة زينب جنوبدمشق، وأن التطرف يشكل خطرا على لبنان، وأن سوريا هي ظهر المقاومة وسندها، وأن حرب 2006 في جنوبلبنان كان الهدف منها هو القضاء على الحليف الأساسي لإيران من أجل تسهيل عملية دخول لبنان في إطار المشروع الصهيوني الكبير. كما لا يستبعد حزب الله فتح باب الجهاد ضد إسرائيل عبر بوابة الجولان مراهنا بذلك على جعل الواقع الميداني هو المحدد الأساسي للتسويات والتوافقات الدولية، والأساس للتأثير على الأطراف العربية لدفعها لتغيير مواقفها من الثورة السورية مثل الأردنوتركيا والعربية السعودية ومصر. وفي هذه النقطة بالذات نجد أن إيران قدمت اقتراحات جديدة لتقوية التعاون الاقتصادي والسياسي الإيراني/العربي للتخفيف من الأزمة التي اجتاحت المنطقة محاولة إقناع الجوار أن تثبيت النظام السوري سيكون السبيل الأكثر نفعا للبيئة الإقليمية وأمنها واستقرارها. ثالثا، إن القضية الفلسطينية تتجه في اتجاه الاعتراف بإسرائيل والانسجام مع قواعد اللعبة كما حددتها الرباعية الدولية. فبعد الانقسام المفتعل المعروف للشعب الفلسطيني "فتح/حماس" و للأرض الفلسطينية (قطاعي "الضفة/غزة")، والذي دام عدة سنوات، جاءت مسيرة فتح المليونية الأخيرة، وبرزت تحليلات تؤكد اضطرار حركة حماس إلى التواضع في مواقفها بسبب فقدانها لجزء من رصيدها الجماهيري في غزة بسبب سوء الأمر الواقع، واستمرار حركة فتح في السعي بكل الوسائل إلى إنهاء الانقسام. رابعا، مصر بعد الربيع المصري تعيش اليوم مشاكل داخلية ومحنة خارجية تهدد أمنها القومي ترتبت عن قرار دولة اثيوبيا البدء في إقامة سد النهضة على النيل الأزرق (85 بالمائة من مياه النيل)، بترخيص مباشر من إسرائيل (حرب الماء). وقد تم تقديم ذريعة الحاجة إلى توليد الطاقة الكهربائية كمبرر أساسي لهذا القرار. كما قام في نفس الإطار وزير خارجية إسرائيل بجولة لخمس دول إفريقية سنة 2011 (اثيوبيا، أوغاندا، كينيا، وراندا، الكونكو) توجت بتوقيع اتفاقية تضم تقديم الخبرة والمال لبناء السدود (اتفاقية عنقيبي). خامسا، إن المعركة في سوريا بالنسبة لإيران معركة مصيرية إلى درجة أن جداول أعمال المرشحين وبرامجهم السياسية في الانتخابات الرئاسية أثارت مسألة تثبيت النظام السوري كأساس لحملاتهم الانتخابية وخطاباتهم الدعوية الدينية بدون التركيز لا على مسائل الاقتصاد ولا الاجتماع ولا العقيدة. لقد تم اعتماد هذا التوجه بالرغم من التدهور المستمر لوضعها الاقتصادي ولمستوى عيش المواطنين (معدل التضخم فاق 20 بالمائة، انخفاض قيمة الريال الإيراني،...). ونتيجة لحساسية الملف السوري بالنسبة لإيران، قام "مجلس صيانة الدستور" بتقليص عدد المرشحين من 700 إلى ثمانية فقط مع رفض أهلية ترشيح الرئيس السابق علي أكبر هاشمي رفسنجاني، ورحيم مشائي صهر الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد. خلاصة لا يمكن أن أختم هذا المقال بدون أن نؤكد أن مصير الشعب السوري أصبح اليوم مسؤولية سياسية دولية وإقليمية. فالمفاوضات الجيوستراتيجية لا يمكن أن تعبث بحياة الشعوب ومصيرها ومستقبلها. الملف الفلسطيني/الإسرائيلي يحتاج إلى حل فوري على أساس الترسيم الأممي للدولة الفلسطينية الديمقراطية المستقلة. تنمية شعوب شمال إفريقيا ودمقرطة حياتها السياسية، كأساس لتقوية التعاون شمال-جنوب وجنوب-جنوب، تحتاج إلى دعم دولي مسؤول لتمكين الشعب المغربي من حقه في استكمال وحدته الترابية، وبناء اتحاد مغاربي قوي ومرحل للتنمية جنوبا وشرقا. دول وشعوب المنطقة المشرقية وشمال إفريقيا تحتاج إلى تأسيس فضاءات واعدة للتعاون والتفاوض والبحث عن السبل الملائمة من أجل دعم الديمقراطية والحرية والحداثة والعدالة الاجتماعية والتعاون الاقتصادي والسياسي على أساس احترام مفهوم "سيادة الدولة القطرية".