قبل سبعين عاما، كان الليوتنان كولونيل «بيير بواييه دولاتور»، الجنرال المقبل، يقود «الكوم» و هم الجنود المغاربة التابعون لجيش إفريقيا، الذين ساهموا في تحرير جزيرة «بوتيه». في هذا المقال تتحدث حفيدة «بيير بواييه دولاتور» في صحيفة «لوفيغارو» عن هذا الحدث الذي شكل مَعلمة في تاريخ حرب التحرير الفرنسية، و عن جنود «الكوم» المغاربة الذين تم تجاهل تاريخهم المنسي لمدة طويلة إلى أن سلط عليهم الضوء شريط أحمد المعنوني سنة 1992 . كانوا في العشرينات من عمرهم. علي النادي، سعيد مهلاوي و حمو موسيك...كثير من رفاقهم قضوا في معارك الحرب العالمية الثانية، في كورسيكا و كذا في تونس و في جزيرة «إلب» و في إيطاليا و فرنسا و في ألمانيا نفسها. في كورسيكا، و بالضبط في المربع العسكري بباستيا و المقبرة البحرية ل»سان فلوران» تتجه شواهد قبور المسلمين نحو مكة ، صحبة قبور المسلمين هاته يرقد جثمان الليوتنان «كوفران» الذي أوصى بأن يُدفن قرب رجاله المسلمين المغاربة. كانوا يُسمون «الكوم» . و يوضح «دانييل سورنا» مؤرخ هذه الوحدة من الجنود المغاربة بقوله :»هؤلاء الجنود، الذين لم يكونوا من القوات المساعدة كما يُقال عن خطأ، بل كانوا جنودا يتبعون لفرق جيش إفريقيا» الفرنسي. و «كوم» لفظة عربية دارجة معناها «قُم». بيد أن هذه الوحدة لا تشبه أيا من الوحدات الأخرى. فقد كانوا يرتدون جلاليبهم الخضراء و يضعون «الرزة» على رؤوسهم الحليقة و يلبسون «النعالة»، كانوا يحملون «بردعة» على ظهورهم و يَجُرون بغالهم في خطوط متوالية تثير فضول الفرنسيين حين مرورهم و تثير رُعب العدو في ساحة القتال. شعارهم: «يضحك من يضحك أخيرا»: نزلوا في أجاكسيو في 23 سبتمبر 1943 . جميعهم ينتمون للمجموعة الثانية من الطابور المغربي. كانوا حوالي ثلاثة آلاف رجل، يقودهم الليوتنان كولونيل «بيير بواييه دولاتور»، الذي سيصبح جنرالا فيما بعد و مُقيما عاما لفرنسا في تونس ثم في المغرب. شعارهم كان هو :»يضحك من يضحك أخيرا». تم تدريبهم سرا في جبال الأطلس المتوسط، الذي ينحدر أغلبهم منه. هؤلاء الرجال الذين ينتمون لقبائل بربرية شجاعة، مثل أيت سرغروشن، كانوا مستعدين للقتال و لم يكونوا وحدهم. ففي ليلة 16 و 17 سبتمبر تم إنزال كتيبة القناصة المغاربة بقيادة الكولونيل «باتلر»، و هي الكتيبة التي ستفتح مرتفع «سان ستيفانو» في الثلاثين من سبتمبر. في الوقت الذي نزلت فيه كتيبة المظليين الأولى يوم 13 سبتمبر في «كازابيانكا» بالقرب من أجاكسيو بقيادة الكوماندان «ليرمينييه». قبيل ذلك الوقت بقليل ، في بداية سبتمبر، شن المقاومون الكورسيكيون بقيادة الكوماندان «كولونا ديستريا» عمليات التمرد. اعتقل الفاشيون الإيطاليون المقاوم «فريد سكارموري» ففضل الانتحار في السجن على الاعتراف و البوح بأسماء رفاقه، فيما تم قتل «جون نيكولي» البطل الكورسيكي، بوحشية في 30 غشت 1943 . هذه الانتفاضة تم التحضير لها باتفاق مع أجهزة الجنرال «جيرو» بالجزائر، التي كانت تزود المقاومين الكورسيكيين بالسلاح و الذخيرة منذ شهور. لم تتمكن قوات الاحتلال الإيطالية من الصمود، فانضم أغلبها لجيش إفريقيا. و بعد معارك شرسة ضد لواء «ريخسفوهرر» الألماني ، تمكن «الكوم» المغاربة يوم 3 أكتوبر من السيطرة على ممر «تيغيم»، و دخلوا باستيا يوم 4 أكتوبر تحت قصف الطيران الأمريكي الذي لم يكن يعلم بالانتصار. هكذا أصبحت كورسيكا أول مقاطعة فرنسية يتم تحريرها. و كان هذا قبل سبعين سنة. يوم الجمعة هذا، قام علي النادي و سعيد المهلاوي و حمو موسيك و أربعة آخرون من رفاق السلاح، برحلة مماثلة إلى كورسيكا، لكن هذه المرة على متن طائرة رئيس الجمهورية الفرنسية. على متنها أيضا كان «قادر عريف» وزير قدماء المحاربين، الذي جاء خصيصا إلى الرباط كي يرافقهم. إنهم جميلون و فخورون في جلاليبهم التقليدية المزينة بالنياشين العسكرية .أكبرهم يبلغ السنة الرابعة بعد المائة أما الأصغر ففي التاسعة و الثمانين من عمره. في الطائرة الرئاسية أيضا بعض تلاميذ «ليسي ليوتي» بالدار البيضاء جاؤوا لتقفي آثار هؤلاء الأبطال المجهولين الذين كانوا في سنهم تقريبا أو أكبر قليلا في بداية الأربعينات... هؤلاء «الكوم» استجابوا لنداء محمد الخامس، الذي دعا في 3 سبتمبر 1939، من خلال كل مساجد المغرب، في ظهير ملكي، قوات المغرب للدفاع عن فرنسا في المعارك التي ستخوضها إلى جانب الحلفاء ضد الطاعون الأسود. في يوم الجمعة ذاك قام الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند و صاحب السمو الملكي مولاي رشيد، صنو الملك محمد السادس بالإشادة بهم في باستيا. كما تم توسيمهم بوسام الشرف من درجة ضابط، إلى جانب المقاومين الأوائل الذين شاركوا في معركة تحرير كورسيكا. و من جهته، ترأس وزير قدماء المحاربين احتفالات معركة ممر «تيغيم». و أمام النصب ذكر قادر عريف بأن «المغاربة قد ضحوا بحياتهم من أجل فرنسا (أكثر من ثلثي الضحايا في معركة كورسيكا كانوا مغاربة) و قدموا دماءهم و شبابهم من أجل بلاد يقتسمون قيمها». طال التجاهل طويلا إنجازات «الكوم»، إلى أن جاء الشريط الوثائقي ل»ألان سيدوي» و أحمد المعنوني حول «تاريخ الكوم المنسي» سنة 1992، كي يتم الالتفات لهم و إعادة تقييم المنح العسكرية التي يتلقونها. ثم جاء فيما بعد شريط «أنديجين» الذي أعاد لهم الاعتبار لدى الرأي العام. و اليوم أصبحوا يتقاضون منحا محترمة. كما لم ينسهم الكورسيكيون أيضا. و خاصة منهم «إرنست بونا كوسيا» الذي كان يُلقب بالموتشو من طرف «الكوم» المغاربة. فهو الذي كان دليلهم في ممر «تيغيم» الجبلي. سأله الليوتنان كولونيل «دولاتور» : «هل تعرف قراءة الخرائط» أجابه «الموتشو» بالنفي فطوى «دولاتور» الخريطة و أشار إلى «سان فلوران» فأجابه الموتشو : «أحفظ الطريق إليه عن ظهر قلب. الساحل ملئ بالألغام لكني أعرف كيف أتفاداها». قوات بمعنويات مرتفعة: في كتابها «مقاتلو الحرية» الذي ظهر مؤخرا مزينا بصور «روبيرتو باتيستيني»، تكتب «ماري فيرانتي» عن ملحمة كل الأبطال الذين شاركوا في تحرير كورسيكا. أحد هؤلاء الأبطال هو «إرنست» الملقب ب»أرنيريو» أو الطفل الذي ينتعل الريح» و هو يروي للكاتبة : «من الصعب أن أحكي لك كل شيء. القذائف، الهجمات، الجرحى، القتلى. كانوا يصيحون بي : تمدد أيها الوغد الصغير. لكن الوغد الصغير لم يكن ليتمدد. كان هناك الضباب فكان الجنود يتيهون عن بعضهم و كنت أُعيدهم. كنت أركض في كافة الاتجاهات كنت أضبط الارتباط كنت لاواعيا...» . في مركز الإنقاذ بقرية «بارباجيو» كان الجرحى يتقاطرون. أحدهم و هو الجنرال «لو ديبيردييه» الذي شارك في معارك كورسيكا كضابط شاب، يتذكر ذلك «الكومي» المغربي الذي بعد أن أحس بدنو أجله، طلب منه أن يأخذ سبابته و يوجهها نحو مكة قبل أن يتلو الشهادة و يموت... أما القتلى، فقد كانوا على امتداد الشارع الرئيسي ل»بارباجيو»، كثير من «الكوم» لقوا مصرعهم في ريعان الشباب. و قد رآهم «إرنست بوناكوسيا»، فلم ينسهم أبدا. في رابع أكتوبر صباحا، دخل «الموتشو» مع «الكوم» إلى باستيا التي غادرها الألمان على وجه السرعة، في الوقت الذي كان فيه الجنود الفرنسيون يرفعون العلم الفرنسي الثلاثي الألوان فوق بناية البلدية. و في الإشادة بهذه الفرقة جاء : «هذه الوحدة المغربية الرائعة المشَكلة على صورة قائدها. وحدة بمعنويات مرتفعة و صلابة لا تُضاهى و ثبات رائع، قد أعطت كل قدراتها الحربية بخسائر ثقيلة في الرجال و العتاد، رغم تعرضها لنيران عنيفة من المدفعية و الطيران، إلا أنها حافظت على كامل شراستها و دخلت إلى باستيا منتصرة في رابع أكتوبر، مساهمة بذلك بقسط وافر في نجاح الحملة التي شنت من أجل تحرير كورسيكا». يقول «كلود سورنا» المراقب العام و رئيس»جمعية قدماء الكوم المغاربة و شؤون الأهالي بفرنسا» : «ينبغي أن نُنصت للدرس الذي أعطاناها هؤلاء الرجال الذين حاربوا بالأمس جنبا إلى جنب الهمجية النازية من أجل حرية فرنسا دون تمييز في العنصر أو الأصل أو الدين، و لنحفظ اليوم هذا الدرس بالنضال جميعا من أجل الأخوة و الاحترام المتبادل» باتريسيا بواييه دولاتور لوفيغارو - عدد 5و 6 أكتوبر 2013