في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، لما التحقت بكلية الآداب بالرباط للدراسة في شعبة الفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس، كان جيل فلسفي قد تخرج لتوه وتفرق أفراده في الثانويات يدرِّسون الفلسفة ويحببونها لأولاد المسلمين. كانت سمعة الفلسفة عموما سيئة وصورة أستاذ الفلسفة تثير الحذر والفضول. إن أستاذ الفلسفة الذي يبدأ درسه بتعريف الفلسفة بأنها هي «محبة الحكمة» هو يثير السخرية: لو كانت لدى هذا الأستاذ الذي يدعي محبة الحكمة، ذرة من الحكمة لاختار مهنة بعيدة عن الشبهات والمتاعب وبالخصوص مهنة «مدرة للربح الوفير» (وما كان أكثر هذه المهن في تلك الفترة المتعارف عليها بسنوات الرصاص!) لقد قام «جيل» أول (الجابري والسطاتي والعمري ...) بمهمة التعريب والتكوين «المهني» في ميدان الفلسفة، وها هو «جيل» ثان يتخرج لتوه وينطلق لممارسة «المهنة» في وسط ملغوم بالسياسة والإيديولوجيا والعداء الصريح أو المبطن للفلسفة. وهذا هو «الجيل» الذي يحق أن ننعته ب»الكتيبة الفلسفية «التي عليها أن تهاجم قلاعا حصينة من موروث الماضي والتقليد، وسلاحها فقط بضعة مفاهيم (العقل، العلم، التقدم...) وبضعة نصوص تشرحها...مع الكثير الكثير من «محبة الحكمة». هؤلاء هم مهنيو «محبة الحكمة» الطلائعيون...وضمنهم كان يتميز شاب أسمر (مولود سنة 1947) اسمه سالم يفوت...يرحل عنا في هذا اليوم السبتمبري الغائم. لقد بدأت شخصيا هذا اليوم (السبت) الحزين مثقلا بذكرى رحيل صاحب «نقد العقل الإسلامي» الفقيد محمد أركون، حيث قرأت البارحة (الجمعة) عدد الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي الخاص بالذكرى وفعل فعله الحزين في روحي. وكان علي أن أتلفن للأستاذ محمد سبيلا من أجل التأكد من تاريخ موعد ثقافي، فبادرني مفكر الحداثة المرموق بالخبر الصاعق: الله يرحم الأستاذ سالم يفوت! عزاؤنا واحد. لقد تعرفت على الأستاذ سالم يفوت لما أصبح أستاذ فلسفة مرموق بكلية الآداب بالرباط، وكاتبا ينشر بانتظام أبحاثا عميقة حول العلم وقضايا الفلسفة المعاصرة بعد أن «قطع» مع السياسة/السياسوية التي اكتوى صامتا بنارها (السجن) ،وقرر التفرغ ل»محبة الحكمة». لم نكن صديقين بمعنى أننا نلتقي باستمرار وانتظام، لكن في المرات القليلة التي كنا نلتقي فيها بمناسبة ثقافية معينة ،كنا على الفور نتواصل وننخرط في «النقاش» كأننا لم نفترق إلا بالأمس. إنها الصداقة العميقة التي يربحها الواحد منا لما تتاح له فرصة التعرف على رجل كبير ومتواضع مهنته: محبة الحكمة.