بالرغم من تنصيص الدستور في تصديره على إقراره وتشبثه بحقوق الانسان كماهي متعارف عليها عالميا. وبالرغم من انخراط المغرب في التربية على حقوق الانسان ووضعه استراتيجية في الموضوع. وبالرغم من التزامه وإقراره بمراجعة المضامين وخلقه لمجموعة من البرامج والميكانيزمات الموازية. وبالرغم من تحديد نفس الاختيارات على صعيد الميثاق الوطني للتربية والتكوين. ومن بعده المخطط الاستعجالي الذي لم يقدم شيئا لتعليمنا، فإن مستوى إعمال هذه الاختيارات يعكس التفاوت الملموس بين المبادئ والتزامات القطاعات المعنية, وبين التجسيد الفعلي لها على مستوى المضامين المتصلة بالكتاب المدرسي. فبناء على كون التعليم حق تضمنه الدولة لكافة المواطنين كماهو متبث في تشريعاتها (»الدستور)« والاتفاقيات ذات الصلة التي صادقت عليها واعتبار المدرسة أحد أهم القنوات الأساسية لتحصيل المعرفة والنهوض بالتربية على القيم بحكم وظيفتها المتصلة بالتكوين والتنشئة والتأهيل, إضافة إلى كونها, »أي المدرسة,« تعكس مباشرة اختيارات المجتمع على مستوى الرسالة التربوية والتعلمات المتصلحة بها, فيما يخص نوعية المواطن الذي يراهن عليه المجتمع. وانطلاقا من الوثائق المرجعية التي تؤطر استراتيجية وزارة التربية الوطنية والتي تعلن صراحة التزامها بالتربية على قيم حقوق الانسان, من خلال الاتفاقية الموقعة بتاريخ 26 دجنبر 1994 والمبرمة مابين وزارة حقوق الانسان ووزارة التربية الوطنية، فإن استقراء عينه من الكتاب المدرسي يكشف عن الهوة العميقة بين الالتزامات ,كما جاء في الأدبيات أو الوثائق المرجعية للسياسة التربوية, وبين مضمون وواقع الكتاب المدرسي. من زاوية الخصاص الملموس على مستوى تمثل قيم حقوق الانسان وتفعيلها في الكتاب المدرسي. إن وضع الكتاب المدرسي من زاوية مدى تمثله لقيم حقوق الانسان, يعكس مؤشر ارتداد قياسا إلى النوايا والالتزامات التي تؤطر خطاب الوزارات المتعاقبة على التربية والتعليم منذ سنة 1994، حيث أن الوثائق المرجعية تعتبر مكسبا ينبغي أن يترجم على مستوى الكتاب المدرسي وباقي الدعامات البيداغوجية والديداكتكية ذات الصلة. واعتبارا لهذا الواقع, أصبح لزاما من كل الجهات المعينة دولة وحكومة ومؤسسات وطنية ومجتمعا مدنيا، العمل على تظافر الجهود لإعادة النظر في الكتاب المدرسي الجديد من خلال التربية على القيم الانسانية التي تؤصل للتسامح والمساواة والكرامة، وهو ما يرد في أدبيات حقوق الانسان باعتبار فكر حقوق الانسان هو حصيلة لتطور الفكر الانساني بدياناته وفلسفته وعلومه وابداعاته, ومن تم فإن حضور هذه القيم كمبادئ أساسية ومهيكلة والاتفاقيات ذات الصلة, هو حضور مستمر وتحديدها هو ما يتأتى انطلاقا من الوجود والحياة. والحق في تحسين شروط الوجود من خلال ضمان جميع الحقوق مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، فالفقر يهدر كرامة الانسان واللامساواة تقوضها, كما أن العبودية أو تقييد الحريات وتشجيع اللاتسامح لا يؤسس لها كقيمة انسانية. التسامح إذا كانت فئة الأطفال المتلقية للكتاب المدرسي موضوع الاستقراء, يتراوح عمرها ما بين 6 و 12 سنة، فإن ذلك يؤكد على أهمية هذه المرحلة العمرية في اكتساب التعلمات وبداية ترسيخها في اتجاه تشكل الوعي للتفاعل مع المواقف والوضعيات وانتاج السلوكات . من هذه الزاوية تبدو المعرفة التي يؤسس لها الكتاب المدرسي على مستوى التسامح محدودة جدا، حين تجعل التسامح قيمة اسلامية محضة, تنحصر في العلاقة بين طرفين لهما نفس العقيدة ويصبح هذا التصور يخترق بشكل عرضاني كل الدروس في العربية والتربية الاسلامية. فالخلفية التي تؤطر القيم هي خلفية تؤسس لمبدأ الأفضلية على أساس الدين, وتنظر إلى الآخر من هذا المنطلق. إن التربية على التسامح من منطلق الاختلاف, بقدر ما تحضر في كتاب الاجتماعيات( »التربية على المواطنة« )فإنها لا وجود لها في كتب العربية والفرنسية والتربية الاسلامية, بينما المفروض في المدرسة هو أن تضطلع بهذه المهمة (»التربية على التسامح«) بعد أن تكون الأسرة بدورها في هذا التوجيه الديني. إن الدروس لاتتيح أدنى الامتدادات التي تخلق لدى التلميذ والتلميذة فرصة التعرف على الآخر, المختلف, وتقبل اختلافه واحترامه. فالنصوص والصور والاستثمار كلها مستويات تنسجها الوحدة في المعتقد. إن الخصاص الذي يعرفه الكتاب المدرسي على مستوى التربية على التسامح, انعكس بشكل مباشر على وضع الحرية في نفس الكتاب, فالحرية التي يتعرف عليها التلميذ والتمليذة هي تحرير الوطن من المستعمر. أما الحريات الشخصية والجماعية فهي مغيبة, سواء على مستوى اختيار وتكوين أسرة أو التنظيم في سياق ممارسة المواطنة، بل إن العبودية كمضمون متواتر على المستوى المعجمي ,ترد في سياق النصوص كمعطى طبيعي لا يعمل الاستثمار على خلخلتها، حيث تبدو الدروس أحيانا مطوقة بأهدافها المباشرة ولا تفتح هوامش لإعمال الفكر بصدد القيم المنافية كالعبودية التي قد يحبل بها النص لكنها غير مدرجة في أهدافه المعلنة. إن التربية على التسامح كقيمة أساسية في ثقافة حقوق الانسان لا تنهض إلا من خلال احترام الآخر والاحترام كسلوك يترجم قيمة التسامح ,لا يمكنه أن يتجاور مع الخوف والطاعة والامتثال. إن خطاب الطاعة يتواتر بقوة لنسج مستوى العلاقات، لكن إذا كانت العلاقة بين الله والانسان علاقة غير متكافئة بناء على التصور الديني لعلاقة الخالق بمخلوقاته، فإن الدرس يحاول استدراج نفس التصور في علاقة الانسان بالانسان. فمن خلال استقراء عينة من الكتب المدرسية التي صادقت عليها وزارة التربية الوطنية في المواد الحاملة التالية: »اللغة العربية - اللغة الفرنسية - التربية الاسلامية والاجتماعيات, بالاضافة إلى التربية التشكيلية« وجميعها يغطي مستوى التعليم الابتدائي والسنة الأولى من التعليم الثانوي الاعدادي. ويمكن الاشارة إلى أن الخطاب المقدماتي. انطلاقا من هذه العينة المذكورة من الكتب المدرسية, لا يشير للقيم التي يحملها, فمجمل الكتب تتجه نحو تحديد الهدف والمنهجية المتبعة في تحصيل التعلمات المتصلة بالمادة, فكتب اللغة العربية والفرنسية ترتكز على التعلمات المتصلة باللغة, من تركيب وصرف وتحويل ومعجم، وكتب التربية الإسلامية تشير الى محتويات المادة وإلى طريق استعمال الكتب, بينما كتب التربية التشكيلية تربط المادة باكتساب مهارة الإبداع - وبعض لجن التأليف لهذه الكتب حين تريد أن تؤطر مشروعها تفعل ذلك في علاقة بوضع الكتاب في سياق إصلاح المنظومة التربوي وتحديث الكتب المدرسية أو الإلتزام بمبادئ ودعامات التجديد التي نصت عليها الوزارة, لكن القارئ لا يتعرف على تلك المبادئ ولا يتم التذكير بها, بل يحال عليها بضمير الغائب، وهو يتضح في كتاب اللغة العربية السنة الأولى إعدادي. الصفحة 3 - »وفي كتاب آخر للسنة الرابعة ابتدائي الصفحة 3«. المساواة: إن التمظهرات التي تؤطر حضور المرأة في الكتاب المدرسي، لاتزال تجتر نفس القوالب التي يكرسها خطاب اللامساواة اتجاه النساء - فالكتاب المدرسي، من خلال العينة موضوع الاستقراء، مازل يعكس ما ترسخ على مستوى البنية الذهنية من تصورات عن المرأة، حين يحصرها في وظائف تتصل بفضاء البيت والأسرة. ويجعلها ملحقة بالآخر- غير مبادرة أو موضوع وصاية - فالنصوص التي يتم اختيارها كدعامات بيداغوجية في الدروس المتصلة بالموضوع. تطرح هذا التصور أو تنطلق منه. والذي يعكس العلاقات غير المتكافئة من زاوية المساواة بين الرجل والمرأة. غير أن اختيار تلك النصوص بذاتها. وهي تحمل قيما غير معززة لثقافة حقوق الإنسان عامة ولمبدأ المساواة بصفة خاصة. قد يكون ايجابيا على المستوى الديداكتيكي. لكن من خلال نسبة محدودة بهدف واضح يضع التلميذ والتلميذة أمام نصوص ينبغي عليه تمثلها و مناقشتها وإعمال الفكر بصددها و انتاج بدائلها على مستوى القيم. كل ذلك من خلال الاستثمار بما يعنيه من أسئلة موازية للنص, لكن مستوى الاستثمار ظل بعيدا عن هذه الرسالة. وشكل مجرد امتداد للنص. قد يرسخ ويدعم ما جاء فيه. أو قد يجعله مجرد وسيلة للتلقين على مستوى اللغة في كتب اللغة العربية والفرنسية أو على مستوى الخطاب في كتب التربية الإسلامية. إن حضور المرأة بتأرجح ما بين التغييب المطلق والحضور الباهت من جهته وتعزيز علاقتها بالأدوار النمطية من جهة أخرى. فهي مستثناة من كل ما له علاقة بالمعرفة أو ممارستها. فالأم والبنت والأخت والمرأة بصفة عامة مقصية من الاستشارة، بينما الرجل سواء كان أبا أو أخا أو إبنا يشكل مصدرا للمعرفة في الشأن الديني. كذلك تغييب المرأة في محور العبادات، حيث لا يتطلب نفس المحور سوى ممارسة تلك العبادات دون إبراز الصوت المؤطر لها, بالرغم من ذلك تغيب في الصورة التي تعكس ممارسة هذه العبادات »الوضوء - الصلاة - التيمم - طهارة البدن«. إضافة إلى ذلك يحاول الكتاب المدرسي, »خاصة كتب التربية الإسلامية ومحور القيم الإسلامية في كتب اللغة العربية« أن يعكس امرأة نمطية على مستوى الهندام واللباس. إنها المرأة والطفلة المتحجبة. إن ارتباط صورة المرأة من خلال مختلف مكونات الدرس, »عنوان نص - استثمار - صور« بثقافة القوالب الجاهزة والصور النمطية المتراكمة التي يؤطرها فكر اللامساواة اتجاه المرأة يعكس واقعا ملموسا على صعيد الكتاب المدرسي في مجمل مواده وفي مختلف. مستوياته: إن التعلمات المكتسبة في هذا السن المبكر للتمليذ والتلميذة, فيما يتصل بالمرأة، هي التعلمات التي تصوغ فكر ورؤية المواطن والمواطنة في مختلف مراحله العمرية المقبلة. إن الكتاب المدرسي بحمولاته المشار إليها أعلاه, لا يعمل فقط على صياغة مشروع مواطن رجل يرى إلى المرأة بدونية ولا مساواة، بل يعمل أيضا على صياغة مشروع مواطنة. امرأة لا تقدر ذاتها ولا تقر بإمكانياتها وطاقاتها وحقها من الاستفادة من نفس الفرص المتاحة للجنسين. الكرامة: يلاحظ من خلال عينة من الكتب المدرسية موضوع الاستقراء, والتي تتحدد في 21 كتابا، أن الكرامة بما تعنيه من قيمة متأصلة في الإنسان, وبما تعنيه من شروط أساسية تتصل بالحق في الوجود ,في الحياة.. والحق في تحسين شروط الوجود والحياة. فإنها مغيبة في الكتاب المدرسي، فإذا كان تواترها على المستوى المعجمي فإن مضمونها أيضا مغيب. لأن النصوص المرجعية جميعها تؤثر على وضع غيابها من خلال ملامح الفقر والمرض والأمية وتشغيل الأطفال, والتي تؤطر الواقع المحلي أو العربي الذي تعكسه تلك النصوص. إن اختيار النصوص يبقى موفقا حين يتم بها حبس التعريف بالواقع من خلال وصفه وتمثله وإعمال الفكر بصدده وبناء المواقف والسلوكات اتجاهه. غير أن التوجه الذي يؤسس له الكتاب المدرسي على مستوى الكرامة يقف عند تقديم ذلك الواقع. في مقابل توجيه الحلول نحو الصدقة والإحسان والتعاون, بل أحيانا يتم تقديم واقع الفقر والمرض والجهل.. كمعطى طبيعي حين لا يسعى الاستثمار الى خلخلته وتحسيس التلميذ بالكرامة التي يعتبر الفقر والجهل والمرض هدرا لها. إن خطاب الإحسان والصدقة الذي يخترق النصوص المتصلة بالأوضاع الجماعية والاقتصادية يقلص من خطاب الحقوق. فالكرامة غائبة كحقوق ذات أطراف محددة وذات موضوع وضمانات تمكن المواطن من التمتع بها ,ومن تم تحمل مسؤوليته اتجاه ما يترتب عنها من واجبات. إن الكرامة حاضرة كإشكال من خلال تشخيص واقع الخصاص المتصل بها. في مقابل ذلك لا يعمل الدرس على توجيه التعلمات نحو بناء الوعي بالحقوق, فالكرامة لا ينبغي ربطها بصيغ لا يمكن أن تحل محل الحقوق, فالإحسان والصدقة والتضامن هي صيغ ضرورية بدرجات متفاوتة في كل المجتمعات. لكنها لا يمكن أن تكون بديلا لمشروع مجتمعي يحارب الفقر ويعمل على الحد منه من أجل اقرار العدالة والانصاف، ومن ثمة لا يمكن الرهان على صيغ غير ملزمة لحل المشاكل المتصلة بالخصاص على مستوى كرامة المواطنين - إن ما يتبقى لدى التلميذ من تعلمات ذات الصلة بموضوع الكرامة، هو تقبل الفقر كمعطى عادي صادم. بل يمكن تقليصه فقط بين الحين والآخر بواسطة جمع التبرعات التي يحددها الدرس من زاوية الاستثمار, بأنها غير ملزمة إن تأرجح الخطاب التربوي بين أكثر من رسالة يجعله خطابا غير مؤثر. ولا يؤدي مهمته في علاقة بالقيم التي يحددها لنفسه . وخطاب الاحسان والصدقة كحل متواتر في الكتاب المدرسي. يحد من خطاب حقوق الإنسان ومن خلاله الكرامة كقيمة مهيكلة لنفس الخطاب(»حقوق الإنسان«) بل إن الخطاب نفسه »خطاب الاحسان والصدقة« الذي يحاول التوجه التربوي تأصيله من خلال النص، يصبح أحيانا غير ذي فعالية من خلال التناقض البارز بين مقصدية النص ومقصديات الاستثمار. لقد حان الوقت لاعتبار مبادئ ثقافة حقوق الإنسان. تراثا مشتركا بين جميع الناس باختلاف أجناسهم وألوانهم ولغاتهم وأعرافهم - بل ينبغي أن يأتي في مقدمة الترتيب باعتباره خطابا كونيا مستوعبا لكل الخصوصيات. وهو ما يؤهل مباشرة للتربية على التسامح وتقبل الآخر وتعزيز التنوع والتعدد في مختلف مجالات الحياة والفكر. بموزاة التربية على مقومات الخصوصية المحلية لكونها لا تتعارض مع ما هو انساني وكوني.