تترددُ في بيانات «إخواننا» المغاربة (وعند حلفائهم والمتعاطفين معهم والمشتغلين عندهمُ)كلمة «السلمي» و»السلمية» وصْفاً لِ»اعتصام» إخوانِ مصر وتظاهراتِهم في رابعة العدوية والنهضة بعاصمة مصر القاهرة. يدفعون بهذه الصفة، ويرافعون بهذه «الحجة»، قصد إدانة عملية فض الاعتصام التي أنجزتها قوات الأمن المصرية بأقل ما يمكن من الخسائر، يوم 14 غشت 2013، وتحميلها مسؤولية ضحايا العملية. وللاحتجاج لهذه السلمية يقولون: 1 ليس المعتصمون هم الذين توجهوا لمقرات الأمن للهجوم عليه، بل هو الذي حاصرهم وشرع في الهجوم عليهم. 2 ويقولون: لو لم تكن سلميةً لكانت قد اِعْتدتْ على مؤسسات الدولة المجاورة لها، ومنها مؤسسة تابعة للجيش. (جاءت هذه الحجة في آخر كلمة للبلطجي(. هذه الحجج فاسدة، وأساس فسادها الخلط بين سلمية الكيان السياسي المستقل (الدولة أو الإمارة) الذي صار حاضرا في لاشعورهم، وبين سلمية تجمهر مواطنين داخل وطنهم. فهم حين يتحدثون عن السلمية يتخيلون أنفسهم إمارة مجاورة لدولة مصر، ففي مثل هذه الحالة يوصف الكيان السياسي المسلح بالسلمية ما دام يمارس سلطته داخل حدوده ولا يهاجم جيران . وهذا غير مفهوم السلمية المقصودة حين يتعلق الأمر بالاعتصام، أي تظاهر مواطنين داخل دولتهم وبين إخوانهم المواطنين المخالطين لهم، المشاهدين لمظلمتهم رغبة في إشراكهم. فنحن نتظاهر لإشهار مظلمتنا أمام مواطنينا أولا، ولذلك لا معنى لاعتصام مغلق معزول عن المجتمع. والدليل القاطع على أن الاعتصامين خارجان من منطق السلمية وشروطها هو: 1 خروج المنطقة من تحت رقابة الدولة، بحيث لم يعد مسموحا لرجال الأمن والقضاء وغيرهما من سلط الدولة ومصالحها بدخول المنطقة، بل تجاوز الأمر تغييبَ سلطة الدولة إلى ممارستِها. ومن مظاهر هذه الممارسة: مراقبة هويات سكان المنطقة دخولا وخروجا، ومن ذلك اعتقال كل من يشتبهون في هويته من صحفيين ومواطنين عاديين، والتحقيق معه وتعذيبه، وقد تواترت الشهادات في هذا المجال. كما تواترت الشهادات والفيديوهات التي تثبت وجود جثث في محيط الكيانين، ومن المنتظر أن يدقق القضاء في مصدرها، وكذا تلك التي أكدت قواتُ الأمْن أنها وجدتْها تحت منصة النهضة مكفنة ومرقمة وعليها بيانات. 2 لتدعيم استقلال منطقة الاعتصام عن الدولة المصرية قام المعتصمون بإقامة حواجز ومتارس من الرمل والياجور وقطع البلاط، بل تجاوزوا ذلك إلى البناء بالإسمنت والحديد. 3 حشدُ السِّلاح واستعمالُه، فقد رأى العالَم، من زَوايا متعددة، من الأرض والجو ، قناصةً يحملون أسلحة نارية ويتمترسون وراء التحصينات،. ومن المعلوم أن هذا السلاح استُعمل، أولَ الأمر، في الهجوم على مسكن الحرس الجمهوري، كما استعمل في الهجوم على قوات الأمن خارجَ حدود الاعتصام، عند جسر صلاح الدين، وفي الواقعتين كان رد رجال الأمن رادعا. ولذلك لم يعودوا يفكرون في غزوات مسلحة خارج الأمارتين، والاكتفاء بمسيرات من حين لآخر. وقد أُشهِر هذا السلاح في وجه رجال الأمن عندما فكروا في دخول الإمارتين، وظهرت أسلحة متطورة لم تكن في الحسبان، أسلحة تخترق المذرعات، كما تم عرضها. هذا فضلا عن الأسلحة البدائية التي تراوحت بين الأحجار والسيوف والمنجنيق. 4 إعلان الاستقلال الأيديولوجي، وقد تجلى في الخطاب التكفيري الذي صار لغة مشتركة بين الخطباء المتناوبين على المنصتين. فقد صارت منطقةُ رابعة والنهضة «إمارتين للمؤمنين»، وكل من يوجد في مقابلتهما من ليبراليين وعلمانيين ومسيحيين وأزهريين ...الخ مُجرَّدَ كفارٍ يدعو الخطباء عليهم بتيتيم الأطفال وترميل النساء وتجميد الدماء في العروق ...الخ. ومعنى ذلك أن الاعتصام تحول إلى مدرسة لغسل الأدمغة وتأليب المواطنين بعضهم على بعض. ومن الواضح البين أن الغرض من هذا الخطاب التكفيري هو تبرير العدوانية والمأساوية المُتبَنَّاة التي لا يكفي الخلافُ السياسي لتبريرها، فخطاب الشرعية تلاشى مع خروج ملايين المعارضين، وتلاشى مع استقرار الوضع بعد إعلان الخطة الانتقالية. ومعنى ذلك أن المعتصمين خرجوا من حدود التنافس السياسي. أما بعد، فإن إدخال هذه الاعتباراتِ الأربعِ في الحسبان يُزيلُ صفةَ السلميةِ عن الاعتصامين، ويجعل مسؤولية الدولة كبيرةً وعظيمةً في كل يوم وليلة تسمح باستمراره. ولذلك فلم تكن أجهزة الأمن في حاجة لا إلى قرار النيابة العامة ولا أإلى تراضي أعضاء الحكومة أو موافقة مجلس أمن الدولة، بل كان عليها أن ترفع الضرر الذي أصاب المواطنين الذين يسكنون المنطقتين، خاصة منطقة رابعة العدوية، وكان عليها أن تدخل المنطقة بمجرد تسجيل شهادات وشكاوى من وجود تعذيب وقتل. وهذا التدخل والحضور هو الذي كان سيضمن لو تم حرية التظاهر تحت أعين السلطة والمواطنين. بيت القصيد: يجب علينا نحن المغاربةَ ألا نسقط في العَماء الذي وقع فيه الإعلام المشرقي الموالي والمعارض، حيث لا نسمع غيرَ «القتلة الانقلابيين» و»الإخوة المجرمين». يجب قبل أن نفتح أعيننا جيدا لنرى الصورة من كل جوانبها. إن الدفاع عن إمارتي رابعة والنهضة، واعتبار وجودهما مشروعا «لسلميتهما» المدعاة غلطاً وتغليطا يتناقض مع حقنا المشروع الذي مارسناه حين فككنا مخيم أكديم إزيك الذي حشرَ فيه بعضُ ذيولِ وأذنابِ الانفصاليين وعملاءُ المخابرات الجزائرية مجموعةً من إخواننا الصحراويين الذي انطلت عليهم خدعة السلمية والتظاهر الاجتماعي المشروع، فالتحقوا بالمخيم قبل أن يجدوا أنفسهم رهائن فيه بين يدي مجرمين لهم أجندات أخرى. ونحن نعلم أن ذلك الخطأ الذي ارتكبته السلطات المغربية المحلية والمركزية قد كلفنا أرواحا زكية لرجال الأمن الأبرياء، كما شوش على موقف المغرب تشويشا لم يكن يتحمله. إن أي دفاع عن مشروعية إقامة كيان مستقل عن سلطة الدولة ينطوي على دهاء واصطياد في الماء العكر. فإذا ما سايرنا الأصوليين والانفصاليين في رغبتهم في شق المجتمع سنصبح يوما وسنجدهم مخيمين في «ساحة الحمام» بقلب الدارالبيضاء: مِنصَّتُهم بباب المحكمة، وحواجزهم الإسمنتية على مشارف شارع الزرقطوني جنوبا وساحة الباب الكبير شرقا... ومعهم البنادق والمنجنيق وكسارات الزليج. هل تتخيلون أن تُمنَع الشرطةُ والطراموي وسعاة البريد...الخ من دخول قلب الدارالبيضاء أربعين يوما نتيجة «اعتصام سلمي» يقف قناصته خلف المتاريس وفوق أسطح المنازل والمصالح الإدارية، والخطباء يتناوبون على المنصة مُكفِّرين ومتوعدين لاعنين...الخ؟ إذا تخليتم نموذج رابعة العدوية في ساحة الحمام فيُمكنكم تخيلُ إمارة النهضة في باب الحد بالرباط ممتدة إلى باب البريد حيث توضع المتاريس الأولى، والقناصة فوق البريد ومحطة القطار وكلها «سلمية»، عنف لاَيْتْ وحلال!! بلدنا لا يحتمل هذا الهذيان الأصولي الانفصالي. فلْنخاطبْ بعضنا بعضا بصراحة ومنطق: مصلحة «الدولة المغربية» موجودة مع «الدولة المصرية»، وليستْ مع أوهام التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، ولا مع أحلام اليقظة لورثة الخلافة العثمانية، «فلا تمدوا الأعناق إلى غيرنا»، فالمغرب ظل، طولَ تاريخة، بعيداً عن وهم الاستبداد الشمولي القادم من بغداد والإستانة، ولِحد الآن لم نستطع أن نقنع ورثة الباي التركي بحسن الجوار. عادت إلي تفاصيل تلك الكلمة التأبينية الهامة للأستاذ اليوسفي، بقسمها الشهير، الذي يؤكد مواصلة ذات النهج السياسي الوطني للزعيم الراحل، عنوانا عن وعي سياسي لجزء من النخبة السياسية المغربية، التي تتحرك بمنطق رجال الدولة وبوازع وطني، وليس بحساب نخبوي فئوي،، عادت إلي، بعد التطورات العنيفة المؤلمة لواقع تدافع الشرعيات في بر مصر منذ إسقاط نظام حسني مبارك شعبيا. وفصل ساحتي رابعة العدوية ونهضة مصر، ليس سوى جزء من تطورات ذلك التدافع، الذي جعل السؤال كبيرا حول مدى إمكانية التعايش بين الفرقاء هناك، كونهم ينزعون للعنف بسهولة مقلقة. بل إنه مثير أكثر كيف أن زعامات الإخوان سمحت بالتسليح في ميادين مفروض أنها اعتصامات مدنية احتجاجية سلمية فيها نساء وأطفال وشيوخ، كما ظهر ذلك في العديد من الفضائيات العربية والعالمية وسقطت بطفولة سياسية مثيرة في خطة حصرها في رد فعل العنف المسلح، الذي ظل التهمة التي تلصق بها منذ تأسيسها، متناسية أن عقيدة الجيش والأمن، بما يخوله لها القانون في كل دول العالم، هي امتلاك أدوات العنف واستعمالها لمواجهة أي خطر مادي مسلح سياسي أو عقائدي يهدد السلامة العامة. ومن هنا تفهم لغة بيان مجلس الأمن الدولي «المتفهم» لخيار العنف لضبط الأمن من قبل المؤسسات المخولة قانونا بذلك في بر مصر. مغربيا، على اعتبار أهمية الدرس السياسي النضالي المغربي، علينا الإنتباه، كيف انه على قدر ما كانت ضريبة الإتحاديين في تغليب منطق الدولة ومنطق المصلحة الوطنية، باهظة في ميزان صيرورتهم السياسية، رغم ما كانوا يتوفرون عليه من قوة تأطير جماهيرية مؤثرة ووازنة (ما يجعل اللحظة السياسية الحزبية الإتحادية اليوم، هي لحظة مثالية للتأمل وإعادة بنينة الإستراتيجيات السياسية المتساوقة مع الواقع المغربي الجديد، «لأن مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس» بذات لغة عبد الرحيم بوعبيد)، وخسروا الكثير من ريشهم للتحليق بطلاقة في سماء السياسة مجتمعيا، والريش إذا سقط يولد دوما بشكل جديد، ما دامت في جسد الطائر حياة.. فإن الذي ربح هو المغرب، في استقراره وأمنه وفي تحقيق تراكم سياسي تدبيري توافقي، وفي مجال الحريات والحقوق (سياسيا، إعلاميا، جمعويا، إدرايا، تجاريا، أسريا...). ونفس الروح الوطنية هي التي حكمت حتى أهم وأغلب الجماعات السياسية الإسلاموية المغربية، وهذا أمر لا بد من الإعتراف به (عدا التي ظلت مرتهنة للخارج إما وهابيا أو أفغانيا أو قاعديا أو إيرانيا، وبقيت معزولة جماهيريا). وما يحدث في مصر يقدم ما يكفي من الأدلة، على مسؤولية النخب السياسية في تدبير منطق التدافع السياسي دون أن يكون ثمنه على حساب المصلحة القومية العليا للجماعة البشرية التي اسمها «المصريون». مثلما يقدم الدليل، على أن الخطو في صيرورة التاريخ، وفي حياة المجتمعات، يستوجب تضحيات (أحيانا تكون ضد الذات)، من أجل بلوغ براح الأمان الذي يحقق التعايش تحت سقف يعلو ولا يعلى عليه، إسمه «الوطن». إن الأزمة الكامنة، بوضوح في بر مصر، هي أزمة نخب، وأزمة شرعيات. وهذا أمر طبيعي في كل دولة قومية حديثة العهد بالتأسيس كدولة مستقلة، بالمعنى الغرامشي الحديث للدولة، بمرجعيته الأروبية ذات الأسس المركزية لتأسيس الدولة. بل إنه حتى في أكثر اللحظات ديمقراطية (الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية بعد الإطاحة بمبارك)، لم تستطع النخبة السياسية الفائزة أن تتعامل بمنطق الدولة، الذي يقتضي مكرمة التعايش، لا منطق الغنيمة، في ممارستها للشأن العمومي، في علاقة مع المجتمع. بدليل، أنها ظلت تصدر عن الرؤية الإيديولوجية، الإنتخابوية، الدعوية، في ممارسة الفعل السياسي، التي ترى إلى المجتمع كقاصر يستوجب التقويم والتوجيه وإعادة التربية، بالشكل الذي يحول بنية الدولة من بنية تنظيمية في خدمة الجميع، إلى آلية للتحكم لرؤية سياسية منفردة ووحيدة. والحال أنه في كل الديمقراطيات الراسخة، المحققة لتراكم تاريخي في ممارسة العملية السياسية، فإن بنية الدولة هي آلية عمومية، في خدمة كل المجتمع بعائلاته السياسية والفكرية، بتعدد فئاته مصلحيا واقتصاديا وأمنيا، وأن العائلات السياسية تتنافس انتخابيا لصيانة تلك الآلية العمومية وتطويرها نحو الأحسن، عطاء وتنمية وأمنا وإنتاجا للثروة. وبسبب صراع الشرعيات هذا، تموقعت كل نخبة في خندقها الذي تراه الحق كله، وأصبحت اللغة الوحيدة السائدة هي لغة العنف بشكليه المادي والرمزي (في الإعلام، في الخطاب السياسي، في الساحات العامة). إن من الأعطاب المكبلة للنخب المصرية منذ ثورة محمد علي ومحاولاته تأسيس الدولة القومية في ضفاف النيل الشمالي، حتى مصبه بالبحر الأبيض المتوسط، هي سيادة منطقان مدمران للأسف، هما صراع الشرعية السياسية (من له حق الحكم وشرعيته وبأية مرجعية، هل هي مدنية حداثية أم دينية شمولية أوثوقراطية؟. هل ديمقراطية أم عسكرية شمولية؟). وكذا نزوع للتعالي (فرعوني) لا يقبل الإنصات لغير صوته الداخلي ولا يتحمل أي رؤية انتقادية خارجية. وهذا أمر يترجم ملمحا ثقافيا ثاويا، يغري بالتأمل السوسيولوجي، يجعل الذات المصرية (نخبا ومجتمع) تعيش صراعا عنيفا وغنيا، بين المدنية والبداوة، لعل مما ضاعف منه، الدور الذي لعبته الهجرة إلى بلدان الخليج وليبيا والعراق (وهي بالملايين) من تغيير مؤثر في البنية الذهنية السلوكية للفرد المصري، وأنتج رؤية للحياة، نزاعة صوب المحافظة والتطرف. بل أكثر من ذلك، جعل أثر الخارج على الداخل المصري كبيرا جدا، وهذا أكبر خطر مدمر قد يصيب دولة قومية، حديثة العهد بالتأسيس (حوالي مئة وخمسين سنة)، كون قرار نخبها السياسية، يكون مرتهنا لحسابات اصطفافات خارجية تستقوي بها ضد باقي منافسيها السياسيين داخليا (من هنا قوة أثر الحركة العالمية الإخوانية، وكذا قوة أثر الحسابات الخليجية خاصة القطرية والسعودية، وقوة النفوذ الأمريكي الإسرائيلي الحاسم). بالتالي، من التجني الكبير، الإصطفاف أو الحكم بالقطع على ما يجري في بر مصر من تطورات، على أنه صراع بين الحق والباطل. بل إنه صراع مع الذات، من أجل تعلم مكرمة التعايش بين المصالح والإنتصار للشرعية الدستورية المتوافق حولها، التي هي السقف المشترك بين الجميع، أي شرعية الدولة كدولة، بروحية الوطن والوطنية. وأن لا يشتط منطق التدافع بين النخب والمصالح إلى الحد الذي تكون نتيجته تدمير المعبد على من فيه. ومن هنا غنى اللحظة المصرية جديا، هذه الشهور، لأنها مشتل كبير لتجريب معنى ميلاد الدولة المدنية الديمقراطية لأول مرة في تاريخ البلد، وإذا ما تحقق منطق الدولة كنتيجة مرتجاة، في القادم من السنوات، فإن ما نعايشه بألم وحسرة ومرارة (إنسانيا ومبدئيا، والذي لا يمكن قبول نتائجه المأساوية الدموية، بأي حال من الأحوال، تبعا لما تفرضه أخلاق حقوق الإنسان ومبدأ الإنتصار للحق في الحياة والأمن والحق في التعبير عن الرأي والحق في المشاركة السياسية)، فإن ما نعايشه هذه الأيام، لن يكون سوى تفصيل صغير في ذاكرة الأيام، لأن الربح الأكبر للدولة الحديثة، المدنية الديمقراطية، تصنعه في الكثير من الأحيان دروس الحياة، التي بعضها فاتورته مؤلمة. تماما مثل الذي حدث في فرنسا بعد ثورتها السياسية، بعد عودة قوة الجيش وبروز نابليون، وتأسيس الدولة الفرنسية الجديدة (بلغت اليوم دستوريا وتنظيميا الجمهورية الخامسة). لأنه من يذكر تفاصيل الثورة الثانية بفاتورتها الرهيبة، أمام تحقق ميلاد الدولة البورجوازية المدنية الجديدة. فالواقع أصلف دوما من الفكرة والحلم. وما ينتجه الواقع المصري اليوم هو نتيجة منطقية لكيمياه الداخلية الخاصة. وواضح أن النخب هناك، في الدولة وفي المجتمع، لا تريد أن تغلب العقل في تفكيك تلك الكيمياء والوعي بها وليس الوقوع ضحية منطقها. إن الأساسي هو التعلم وليس عمى تكرار ذات الخطأ التاريخي (كما يقول بذلك المفكر المغربي الراحل عبد الكبير الخطيبي في كتابه «النقد المزدوج»)، المتمثل في عدم تغليب منطق التوافق والتعايش والإنتصار للمشترك الوطني. أي تغليب منطق التنسيب العقلاني للحقائق، الذي يعلمنا دوما في كل صيرورات الجماعات البشرية عبر التاريخ، أن الواقع دوما يكون أصلف من الأحلام والنظريات، وأن الماء لا يشق طريقه بالضرورة في خط مستقيم، بل لا بد له من تعرجات وانعطافات وأحيانا التواءات تراجع هنا وهناك، قبل أن يحققه حلمه الأبدي في معانقة أصله: «المحيطات».. مغربيا، بهذا المعنى، نحن في حاجة جدية، أن نقرأ اللحظة المصرية، بواجب المسافة العقلانية، الناقدة، المساعدة فعليا للأشقاء ببر مصر، أما الإصطفاف العاطفي الوجداني، بدون سقف وطني مستحضر لأسبقية المصلحة القومية المغربية العليا، فلن يكون أكثر من غبار إيديولوجيا، لا تنفع الناس ولا يمكث أثرها الطيب في الأرض. نحن جديا، في حاجة عالية للعقل في لحظات ألم وتدافع عاطفي وجداني مماثلة.