لا ينبغي التعامل مع ما يحدث اليوم بمصر، وكأنه حدث طارئ أو معزول، فهو شديد الصلة بصيرورة مركبة وممتدة تقهقرا حتى بداية حرب العراق، ولربما كان استكمالا لما كان يجب أن تتمخض عنه هذه الحرب. ويتكشف هذا الأمر من المواقف المتناقضة لصانعي القرار في هذا العلم (الولاياتالمتحدة)؛ إذ تنحو نحو دعم جهات تتورط في الحدث ظلت علاقاتها بها دوما عدائية وتتسم بالكراهية. إن الأمر يفوق مجرد صراع حول الديمقراطية، أو دواليب الحكم، ويتعدى ذلك إلى تطبيق استراتيجية محكمة تتغير أهدافها وفق معطيات الواقع، وأيضا وفق نجاعة الأساليب المستخدمة، ومن ثمة تتغير الجهات التي تُتّخَذ وسائل لتسهيل إنجاح تطبيق هذه الاستراتيجية. وما دامت عناصر الحدث التاريخي المعاصر الذي يجري أمامنا وحبكته لم تكتملا بعد، فإن المحلل لا يملك من عدة ناجعة سوى النظر إلى الأعراض للاستدلال بها على الخفي الذي يمور تحت السطح. ولا حاجة لنا للتذكير بكتاب فريدمان نوح، وكتابه الشهير حول الخلافة بوصفها حلا، ويكفي أن نذكر بأمرين: الثابت والمتغير في سياسة الولاياتالمتحدة. فالأول ينبني على الحفاظ على امن إسرائيل، والحفاظ على الهيمنة على حقول البترول بالشرق الأوسط، والوسيلة في ذلك الإنهاك المستمر للدول الإقليمية الفاعلة بالمنطقة، وإضعافها، والثاني يتمثل في تغيير التحالفات والتحكم فيها وتوجيهها نحو الأهداف التي يشكلها الثابت. فما يحدث بمصر اليوم تمثل نتيجته المرجوة في إعادة تحقيق ما كان مآلا لحرب العراق، ولكن هذه المرة بأدوات من داخل البلد المستهدف، وليس بحرب مباشرة تخوضها الولاياتالمتحدة، والسناريو المحتمل هو ما يحدث الآن بسوريا. إن هذه الدول عرفت بجيوشها القوية، وقربها من المنطقة الاستراتيجية لصانع القرار الدولي. وإذا كان الجيش العراقي قد تفكك، وفقد قدرته الكاملة، ويتعرض اليوم الجيش السوري إلى تفكك محتمل، فإن الجيش الذي ما زال قويا بالمنطقة (الجيش المصري) ينتظر دوره ليخضع للمصير نفسه، وبالأدوات نفسها. فقبل أن يعبر الإنسان عن موقفه مما يحدث بمصر عليه أن يستحضر هذا المعطى بقوة. ولنا أن نتساءل لماذا المفاوضات الآن بين الفلسطينيين والإسرائليين؟ هل كان من اللازم صنع وضع قلاقل في محيط الصراع الفلسطيني ? الإسرائيلي، وإشغال أهم فاعليْن فيه حتى تمر التسوية من دون وجود أوراق داعمة للقرار الفلسطيني؟ ربما، لكن ينبغي أن ننظر في هذا الجانب إلى الحصة المحتشمة التي يخصصها الإعلام لأهم مصير في تاريخ الشعوب العربية ألا وهو القضية الفلسطينية (المفاوضات)، ومقارنتها بالحصة الهائلة التي تحظى بها الأحداث بسوريا ومصر. لكن التحليل أعلاه لا يعني أبدا نفي مسألة الحراك العربي، وبزوغ الشعوب بوصفها قوة تتطلع إلى أن تقول كلمتها في صدد مصيرها، والطريقة التي تُحكم بها. لكن يحدث ذلك في إطار العالم، وصراع القوى فيه، ومراقبة القوة المهيمنة في العالم لما يجري فوق الأرض. بيد أن ما يهمنا هنا هو أن النتائج التي سيسفر عنها ما يحدث بمصر ستكون له تبعات جد مؤثرة في أنحاء العالم العربي برمته. وأهم ما ينبغي استخلاصه من ذلك هو طرح أسئلة جريئة حول مفهوم الديمقراطية التي نريد. وما هي الآليات التي ينبغي الاحتكام إليها، وكيف نحصنها من الوسائلية المؤقتة التي تجعل منها مرحلة للمرور إلى استبداد جديد، ربما يكون أكثر ضراوة، وأكثر تخلفا. وحول الفصل لا بين السلط فحسب، ولكن أيضا بين المؤسسة السياسية والجماعات الفكرية أو العرقية أو الدينية، لأن المعول عليه في كل ديمقراطية هو نشوء مؤسسات حزبية مبنية على أسس سياسية تخدم المجتمع من خلال برامج واضحة تستهدف النمو الاقتصادي، وضمان العيش الكريم، والعدالة الاجتماعية، بوسائل تنتمي إلى العصر لا إلى الحقب التي انطوت وانتهت إلى غير رجعة. * (ناقد أدبي و روائي)