خلافا لقناعتي الراسخة بأن على المرء أن يكنُس باب منزله قبل أن يفكر في كنس أبواب الجيران، سأتعرض هذه المرة إلى1 ما يجري حاليا في مصر. والسبب في كسر هذه القاعدة هو أن إخواننا الأصوليين الدينيين المغاربة حولوا ما يجري في مصر إلى شأن وطني مغربي، وتناولوه من زاوية واحدة تحجب الرؤية الموضوعية للحدث. فهم يرون أن «الإخوان» المصريين تعرضوا لانقلاب عسكريٍّ فَجٍّ، لا مسوغ له، أفسد اللعبة الديمقراطية التي أوصلت الرئيس المعزول إلى رئاسة أم الدنيا. وحين يُفَصِّلون قليلا يتحدثون عن مؤامرة يقودها فلول النظام القديم وبعض البلطجيين، وبعضهم يصب جام غضبه على العلمانيين المارقين من الدين، ومن زاد على هذا، وهم قلة، ردَّدَ ما قاله الرئيس مرسي نفسُه من أنه أخطأ في بعض الإجراءات بدون تحديد.. هذه هي الرواية التي ينقلها «إخوانُ» المغرب وخوارجه نقلا عن إخوان مصر وخوارجها. والواقع هو أن المؤرخ الذي سيتناول مستقبلا هذا الحدث بموضوعية وبعيدا عن الأهواء، مرتكزا على كل المعطيات، سيواجه وقائع تجعل هذا الفهم قاصرا ومختَزِلا، فأولُ ما يُثير انتباهَ المتأمل هو طبيعةُ الجهات التي اصطدم بها الإخوان، وناصبوها العَداء، وحاولوا إقصاءَها فكانت سببا في إقصائهم، هل هي فعلا من الفلول؟ والثاني مفهوم المشروعية: هل هي مشروعية مطلقة أم مقيدة؟ سنقتصر على هذين المدخلين لتبين جوانب الموضوع التي يراد إخفاؤها: 1 خصوم أم فلول؟ من السهل القول بأن الذي أطاح بالإخوان هو الجيش والصحافة الحرة التي ندموا على عدم خنقها في المهد. الصحافة شوهت وحرضت والجيش قَلبَ الطاوِلَةَ. هذا ما يروجه الغاضبون، وما يحلو للإخوان أن يَسمعوه، ولكن تعميق النظر، واستحضار مُجريات الأحوال يظهر أن الصحافة والجيش مجرد أداتين، أو آلتين تحتاجان إلى وقود، وشكلٍ في حاجة إلى مضمون، ما كان لهما أن تشتغلا بدون هذا الوقود وهذا المضمون. وحين نتأمل هذا المضمون نلاحظ، كما قال أحد المحللين، أن الإخوان هم أكبر عدو لأنفسهم. لقد دخلوا منطقة الشرعية عن طريق القضاء الذي أشرف على الانتخابات، ثم حاولوا تفكيكه متذرعين باستمرار الثورة على الفلول، ورفعوا شعار الدين وحاولوا تفكيك الأزهر، وتحالفوا مع المثقفين ضد زمن مبارك ثم سعوا إلى تخريب المؤسسات الثقافية. والأخطر من كل ذلك أنهم تحالفوا في هذه المعركة الفاشلة، مع متطرفين احترفوا العنف اللفظي والمادي. لقد تسرعوا حيث يلزم التأني وتفكيك جبهة الخصوم. أما الجيش فلم يعْدُ، في الظاهر، تكرار ما فعله بعد التهاب الشارع ضد مبارك: أخذ من مبارك وأعطى مرسي، وأخذ من مرسي ووضع فوق الطاولة. 1 محاولة تفكيك القضاء: إذا جاز لكل بلد عربي أن ينافس أرض الكنانة في مجال من المجالات فإن القضاء ما زال يعتبر مفخرة مصرية لا تُنازع. قاوم كل محاولات الاستعمال وظل شامخا إلى أن جاء الإخوان فقرروا تمريغ أنفه في التراب، واستعملوا في ذلك مصطلح «التنظيف»!! إشارة منهم إلى كونه منطقة وسخة. بدأ الاحتكاك بين الإخوان والقضاة حول الإشراف على الانتخابات، ثم وقع الاصطدام بعنف حين عابوا الأحكام التي كان القضاة يصدرونها في ملفات أحداث الثورة ورجال العهد السابق، ورد القضاة بأنهم يحكمون كما هو الواجب عليهم قانونا بما تحتويه «أوراق» القضايا المعروضة أمامهم. وهذه قضية من ألبائيات القضاء، فالقاضي لا يحكم بما يعرفه بل بما تتضمنه الملفات وما يروج أمامه. وما على الإخوان إذا لم ترضهم أحكام القضاء العادي إلا أن ينصبوا محاكم عرفيه، ولْيُسموها محاكم الثورة، أو أي اسم يبرر ما يريدونه منها. على إثر هذا النزاع وَلَّوْا وجهتهم نحو النيابة العامة التي قدمت، في نظرهم، ملفات فارغة، فعُزل النائب العام وعُين مكانه نائبٌ عام يثق فيه الإخوان، ولكن جهاز القضاء انتفض ونبذ شبهة الاستعمال، فكان أولَ من ثار على النائب الجديد زملاؤُه ومرؤوسوه في النيابة العامة، وحاصروا مقر النائب العام، وطالبوه بالاستقالة، فاستقال، فرجعوا إلى مقرات عملهم فرحين ظانين أنهم قمعوا أول محاولة للمس باستقلال القضاء، ولكن الرجل تراجع عن استقالته، فنبذه الجسم القضائي من أعلاه إلى أسفه، خاصة حين قال إنه تعرض لضغوط قوية، إذ ردوا عليه قائلين: من يخضع للضغوط لا يصلح أن يكون نائبا عاما، وما أدراك ما النائب العام في مصر. واستمرت هذه الكرة تتدحرج وتكبر حتى حكمت المحكمة ببطلان العَزل فسقطت شرعية النائب المعين، لأنه احتل وظيفة غير شاغرة، و منزلا مسكونا. وقد صار هذا النائب موضوعَ تَندُّر، صار رئيس نادي القضاة أحمد الزند يدعوه على الهواء: «المدعي الملاكي»، أي المنتمي للقطاع الخاص! سخرية مرة. بعد تخريب منصب النائب العام بقي القضاةُ الكبارُ أولئك الذي رفعوا اسم مصر إلى أعلى عليين عَبْر تاريخ ذلك القضاء الشامخ حَجَرَ عثْرة في طريق «المنظفين»، فحوصرت المحكمة الدستورية العليا من طرف المتطرفين المتعاونين مع الإخوان منعا لها من إصدار حكم يعرقل مسيرة الاستيلاء على أجهزة الدولة التشريعيةِ، وحوصرت مدينة الإنتاج الإعلامي منعا لها من متابعة هذه التجاوزات، وأصبح اسم حازم أبو إسماعيل يثير الرعب باعتباره قائدا لإحدى أعنف الملشيات المنفلتة التي يحميها الإخوان، تسمى «حازمون». وقد هدد بالتصدي للجيش بالصوت الحي، على الهواء. وبعد ذلك وضعت خطة تفكيك القضاء باقتراح قانون يحيل كبار القضاة المستقلين على التقاعد، وذلك عن طريق تخفيض سن التقاعد من 65 إلى 60 سنة. لم يكن هذا الإجراء ذكيا كما تخيل من فكروا فيه، ذلك أنه يتنافى مع طبيعة المهنة، ومع ما هو معروف دوليا في مجال القضاء والبحث العلمي في شتى المجالات، إذ في هذا السن يصبح القضاة والباحثون في قمة العطاء والإنتاج. تصدى نادي القضاة لهذه المؤامرة بقوة، وكشف الغرض منها: إقصاء الرؤوس الكبيرة وإحلال المؤلفة قلوبهم، أوالمعلَّفة بطونهم محلهم. ولم تنفع المكائد المتعددة للنيل من سمعة رئيس النادي أحمد الزند، أو كفه عن التنديد بسياسة الحكومة ليل نهار، ظلت صفوف النادي الذي يضم أكثر من 12 ألف قاض متراصة مستعصية. كان هؤلاء القضاة يسترجعون خلال المعركة تاريخ ناديهم المجيدَ، ويذكرون المواقف الصلبة لرؤسائه وأعضائه، وكيف قاوموا كل محاولات الرؤساء الثلاثة السابقين (جمال عبد الناصر والساداة ومبارك) اختراقه وإفساده، ولكنهم يسجلون لهؤلاء الرؤساء أنهم كانوا يمررون تجاوزاتهم بعيدا عن جسم القضاء العادي: عبر قانون الطوارئ المدان، ولذلك ظل جسم القضاء مستقلا وسليما، أما الإخوان فإنهم اتجهوا إلى تخريب القضاء من الداخل مرة وإلى الأبد، يريدون قضاء على مقاسهم لا على مقاس العدل. لقد كان المس بالقضاء كبيرة لا تُغتفر، ولذلك كان القضاة يردون، من كل المواقع، بقوة وحزم وشجاعة لا عهد لنا بها في المغرب، وفي كل العالم العربي. ولذلك لا عجب أن نرى القضاة يحتفلون اليوم ويفتخروا بأنهم كانوا حجرا في حذاء من حاولوا اختطاف الدولة المصرية، وأنهم أولُ مسمار دق في نعش الإخوان، وقد سمعتُ رئيس نادي القضاة يُعاتب رئيس الدولة الجديد الموقت على عدم إشراك القضاة في وضع البيان الدستوري الجديد اعترافا بفضلهم في خرق سفينة الإخوان (سمعته مساء يوم 09/07/2013 على أمواج قناة cbc). فهل هؤلاء القضاة من الفلول؟ 2 المؤسسة الدينية من أغرب ما يمكن أن يتصوره المرءُ حدوث توتر وتنافر بين المؤسسة الدينية العتيدة في مصر والعالم الإسلامي: الأزهر، وبين حزب تابع لجماعة إسلامية جاءت هي الأخرى (فَرَضاً) لتكريس القيم الدينية. فقد كانت هذه المؤسسة توفر عبر القرون المعرفة الدينية العقدية والشرعية وما يتصل بها من علوم ضرورية لفهم الخطاب الديني، وتقوم بالتوجيه والإرشاد إلى جانب السلطة الدنيوية التي كانت تدبر الحياة اليومية للناس. كان ذلك يتم على قدر من التوافق في الغالب، المهم هو أن المؤسسة الدينية ظلت تشيع هذه الثقافة بدون تدخل يؤدي إلى تغيير طبيعتها لتصبح صوتا لبعض المصريين دون بعض، أو بعضهم ضد بعض. ولكن هذه الغرابة تزول حين يعود المرء إلى الجذع المشترك بين الجماعات الأصولية المتفرعة عن الإخوان المسلمين، الجذع التكفيري الذي يُشْبِهُ العُرَّ، يكمُن حينا ثم ينتشر2. فرغم كل المراجعات، ورغم كل أشكال التقية وترتيب الأسبقيات فإن الإخوان وحلفاءهم لم يستطيعوا أن يتخلصوا من رواسب تكفير «الأخر»، أو تأثيمه على الأقل، مهما فعل، ولو عبد الله ليل نهار، لمجرد أنه غير داخل تحت عباءة المرشد. لم يستطيعوا أن يكبحوا رغبتهم العارمة في تحويل الأزهر إلى معقل حصين لهم. فشيوخ الأزهر الذين كانوا يدرِّسون جميع المذاهب بدون حرج أو خوف كانوا على علم بأن مؤسستهم صارت تخترق من طرف المتشددين منذ ثلاثة عقود، ولكنهم لم يكونوا يتصورون أن يحالوا على التقاعد مرة واحدة بعد وصول الإخوان. هذه هي العثرة الثانية للإخوان التي وضعت ورقة رابحة في يد خصومهم: من سيلتفت إليهم بعد ذلك حين يقولون الأزهر لا يمثل الإسلام. لن يصدق المصريون أن ألأزهر لا يمثلهم حتى يصدقوا أن النيل لا يَعبُر أرضَهم والأهرام ليست من بناء أجدادهم. ومن تناقضات الإخوان وهم يقولون اليوم بأن الأزهر لا يمثل المسلمين في مصر اقتراحهم، عند إعداد الدستور، أن يكون الأزهر مرجعا دينيا. ومن المعلوم أن شيخ الأزهر رفض هذه الهدية المسمومة لسببين: أولهما مبدئي يبعد مفهوم المرجعية عند الشيعة، والثاني استراتيجي وهو اقتناعه بأن الإخوان يضعون هذه الوديعة في جيبه إلى حين التصويت على الدستور، ثم يسترجعونها باحتلال المؤسسة التي تصبح قلعة للصراع بين الإخوان والسلفيين. قبل أيام قليلة من عزل الرئيس مرسي سمعتُ الشيخ الأزهري أحمد كريمة يتحدث في إحدى الفضائيات عن حالة المساجد التي استولت عليها الجماعات الأصولية حتى لم يعد يُسمح له ولأمثاله من أساتذه الأزهر غير المتحزبين بالخطابة في أي مسجد، بعد أن كانت الخطابة المسجدية شأنا أزهريا. ومواساة له دعاه نادي القضاة لإلقاء خطبة الجمعة الأخيرة في مسجد النادي. وقد صار من العادي أن تسمع متشددين يصدرون فتاواهم تحت لقب شيخ أزهري، أو أستاذ كذا بالأزهر. هذا الاضطهاد لن يمر بدون عقاب، ففي الوقت الذي كان شيوخ الفضائيات والمنصات الخطابية الموالون للإخوان يُفتون بتحريم الخروج عن الحاكم طعنهم شيخ الأزهر بفتوى تُشرِّع الخروج للتظاهر والمعارضة، وتبعه شيوخ آخرون منهم أحمد كريمة الخصم الصلب للأصوليين. وبذلك أصبحت الحرب معلنة، فلم يجد شيخ الأزهر غير الاصطفاف إلى جانب ملايين المصريين الذين خرجوا يوم ثلاثين يونيو 2013 مطالبين بانتخابات سابقة، فكان من بين الموقعين على الخارطة الجديدة التي عزلت الرئيس. وأعتقد، والله أعلم، أن هذه الفتوى رفعت الحرج عن ملايين المصريين، إن لم تكن قد حفزتهم للخروج. فاعتبروا يا أولي الأبصار. أما ما أصاب الأقباط من حيف وتضييق وإهانات من طرف المتطرفين، وبإغضاء من الإخوان، فلا يتسع المقام للخوض فيه، ولذلك فقد كان حضور بابا الأقباط في المجلس الذي عزل الرئيس مرسي مفهوما ومبررا. لقد أجج الأصوليون مشاعر الكراهية ضد الديانات غير الإسلامية وضد الفرق الدينية المخالفة لتوجههم لدرجة تحول فيها أتباعهم والمتأثرون بخطابهم إلى آلات قاتلة لا تستشعر الرحمة إزاء الكائن البشري. هذا ما شاهده العالم في إحدى القرى المصرية حيث حرض «السلفيون» الأهالي ضد الشيعة وجمهروهم وتسللوا من بينهم مقتحمين أحد البيوت لينهالوا بالعصي والسكاكين على المتحصنين به من الشيعة، فقتلوا أربعة منهم أمام الملأ، وتركوا الآخرين كالأموات مدرجين في دمائهم. إن هؤلاء جميعا تظاهروا ونادوا برحيل الإخوان، فهل هؤلاء من الفلول؟ 3 المثقفون من الأخطاء التي لا يمكن للأصوليين، في وضعهم الفكري الراهن، إلا أن يرتكبوها الاصطدامُ بالمثقفين والفنانين، وكافة والمبدعين. فهذه الميادين لا شأن لهم بها، بل هم ألذ خصومها منذ القديم. واختلافهم في هذا المجال هو اختلاف في الدرجة، ففي حين يشترط المتطرفون التوبة أو القتل، يرى المعتدلون ضرورة استصلاح ما يمكن استصلاحه، واحتواء ما يمكن احتواؤه، وعزل من أبى ذلك والتشهير به وقمعه. وهنا يبدأ تقسيم المهام، ففي حين يقوم المتطرفون بالهجوم على كل المجالات التي يتحرك فيها المثقفون والفنانون، من معارض ومهرجانات غنائية وأنشطة ترفيهية وسياحية...الخ يقوم المعتدلون الواصلون لموقع القرار بالتستر على تجاوزاتهم، من جهة، وتجفيف منابع الثقافة والفن من جهة ثانية: كتغيير المسؤولين غير الموالين وإلغاء الاعتمادات..الخ. الحدثُ الأضخمُ الذي فجر العلاقة بين المثقفين وحكومة الإخوان في مصر هو تعيينَ وزيرٍ للثقافة يراه المثقفون المصريون أميا لا يشرف ذلك الموقع. بل أكثر من ذلك ينتمي إلى حزب صغير شاذ معروف بأفكاره التكفيرية. والواقع أن من شاهد هذا الوزير وسمعه وهو يرد على أسئلة أحد الصحفيين في قمة الأزمة بينه وبين المثقفين سيقتنع بأن الذين عينوه كانوا يقصدون فعلا إهانة المثقفين وتشتيت شملهم. يذكر المثقفون أن تعيينَه كان على إثر نشره مقالا فريدا تملقَ فيه الإخوان، أما هو فقد ذكر أن له مؤلفَين نشرهما خارج مصر، في سلسلة سورية، والله أعلم. ومع ذكره لهذين المؤلفين المغمورين فإن الصحفي وجد الحاجة إلى سؤاله، بلباقة تقطر سخرية، عما إذا كان يحس بأنه يَمْلَؤُ الكرسي الذي جلس فيه قبله طه حسين ويوسف السباعي وأمثالهم من مشاهير الثقافة والعلم؟ فأجاب بكل «براءة» وبرودة: نعم، أعتقد ذلك!! وخلال الجواب عن سؤال آخر قال: أنا لا أنتمي إلى «هؤلاء»! فسأله الصحفي: من هم «هؤلاء»؟ قال بكل بساطة: المثقفون!! غريب أن يصرح وزير الثقافة بأنه لا ينتمي إلى المثقفين!! ولشرح ذلك قال: إن الذي أتي به إلى هذا المنصب هو الثورة! هذا الوزير، بهذه المواصفات هو الذي شرع في عزل أقطاب الثقافة المسؤولين عن القطاعات والمؤسسات الثقافية: أنكر نية عزلهم ثم مارس العزل بعد ثلاثة أيام، فكان مادة جيدة لسخرية باسم يوسف. في هذا الوضع تَنادي المثقفون من جميع القامات والأوزان واحتلوا وزارة الثقافة. ولا شك أن هؤلاء خرجوا بدورهم مع الجماهير يوم 30 يونيو 2013 ينادون بانتخابات مبكرة، وبذلك ساهموا في سقوط الرئيس مرسي. بعد عزل مرسي رأيت الشاعر الكبير عبد المعطي حجازي يتحدث بارتياح عن العهد الجديد، ورأيت عشرات المثقفين والفنانين والصحفيين يتحدثون عن «الانعتاق»... هل هؤلاء فلول؟ إن كانوا فلولا فنعم الفلول. الحليف البديل في مقابل مناكفة القضاء والمؤسسات الدينية والثقافية اعتمد الإخوان على جيش من الشيوخ الدعاة الذين تركوا الدعاء إلى الله واحترفوا الدعاء إلى الكراهية، والفتنة. وقد نجحت الصحافة الحرة في تجميع أقوال هؤلاء «الدعاة» والمقارنة بينها وبيان تناقضاتها، وانحطاط مستوى أصحابها، وفساد الطريقة التي يفكرون بها. لقد أفتى هؤلاء «الدعاة» بضرورة تحطيم كل الأثار المصرية، وادعى بعضهم أنها لم تكن معروفة طوال تاريخ المسلمين وإلا كانوا حطموها، وإنما هي من اكتشاف الفرنسيين، وادعى بعضهم أن الأهرام بنيت بريع زنا بنات الفراعنة، ودعا البعض إلى محو أم كلثوم من الذاكرة المصرية لأنها سبب كل الانحرافات وفساد البنين والبنات، إلى غير ذلك من الترهات التي يتندر بها المشاهدون على اليوتيوب. وحين اشتدت المعركة نشطت فتاوى القتل، فأفتى أحدهم بشرعية قتل زعماء حركة الإنقاذ التي تعارض مرسي، وسئل أحدهم على الهوى عن جواز قتل باسم يوسف فآجاب: ليس الآن! أي يقتل في وقت لاحق. كما فتح باب الأحلام الكاذبة من على منصة رابعة العدوية: فهذا يرى مرسي يصلي بالرسول، وذاك يرى جبريل يصلي مع المعتصمين. هذا فضلا عن استعمال الجنة والنار في التصويت على الرئيس، وكان هذا وحده كافيا لبطلان نتائج التصويت. وبالرجوع إلى برنامج البرنامج لباسم يوسف وحده يمكن للمرء أن يدرك مدى الضرر الذي لحق بالرئيس مرسي وكثير من أعضاء جماعته من اقتران صورهم وأقوالهم بصور وأقوال «دعاة» و»صحفيين» تافهين متملقين موالين لهم، فالمغاربة يقولون «مْعَ مَن شفتك شبهتك»، وعلى أمثالها تقع الطير. 2 المشروعية ردد الرئيس مرسي في خطابيه الأخيرين (قبل وبعد العزل) كلمة مشروعية عشرات المرات، وتحدث أنصاره كثيرا عن مشروعية الصناديق، وسنرى هنا هل كانت مشروعيته كاملة؟ وهل تعني المشروعية التوقيع على بياض». المشروعية السياسية ليست مجرد «صندوق» يحشى بالأوراق، بل هي مرهونة بالوفاء والأمانة والثقة، والمُتسك بالصندوق وحده، دون شروطه، قد يذهب فيه، كما عبر المصريون. الوفاء مشروط بالوفاء. لِنعدْ إلى أول السطر: من المعلوم أن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي خاضها الفرقاء المصريون بعد الإطاحة بالرئيس مبارك لم تعط الأغلبية المطلقة لأي مرشح. ونظرا لأن أحد المؤهلين للدور الثاني كان محسوبا على النظام المخلوع والثاني على الإخوان فقد وجد الديمقراطيون الذين فجروا ثورة 25 يناير 2013 أنفسَهم في موقف حرج، بين نارين. فاختاروا النار التي لم يجربوها بعدُ في مجال الحكم، وأعطوا أصواتهم لمرشح الإخوان بعد مفاوضات ومعاهدة على مجموعة من المبادئ والإجراءات. فنظرا إلى أن الإخوان لم يكونوا واثقين من الفوز بأصواتهم الذاتية فقد أبدوا ليونة كافية لإقناع الديمقراطيين بصواب التصويت عليهم. وقد تبين عند فرز الأصوات أن حظوظ المرشحين متقاربة جدا، كما بينت الحصيلة أن مرشح الإخوان ما كان ليفوز بدون أصوات الديمقراطيين. ومعنى كل ما سبق هو أن منصب الرئاسة ملكٌ مشتركٌ بين المجموعة التي تحالفت ضد شفيق الذي سموه: مرشح العسكر، وصاحوا في وجهه: لا لحكم العسكر! ومعنى المعنى أنه لا بد من حدوث توافق بين مُلاك منصبِ الرئاسة في القرارات السياسية الكبرى، وعلى رأسها وضع الدستور. أي أنه لا يحق لأحد أن يستبد بمقود السفينة ليقودها حيث شاء، وإلا جاز لغيره أن يعطل محركها أو يخرق قعرها ويدع المياه تتسرب إليها لتغرقها. مع الأسف هذا ما وقع: دخل الرئيس مرسي غرفة القيادة وفي يده دليل المرشد وبوصلته وأصطرلاب قديم، ووضع كثيرا من العجين في أذنيه..الخ تصدع هذا التحالف الرئاسي على صخرة أول امتحان، امتحان تحديد قواعد اللعبة. لقد فشل الإخوان في الوصول مع حلفائهم إلى قواعد اللعبة التي ستقرر مستقبل الجميع، وأصروا على استكمال وضع دستور البلاد وحدهم. هذه كبيرة الكبائر، هذا مفترق الطرق، من هذه اللحظة سيبدأ الرئيس في تكديس الأخطاء وتكثير الأعداء. فلحماية دستوره من السقوط قضائيا التجأ إلى التضييق على القضاء، بل وصل إلى حد تعطيله، ثم تَفرعَنَ فأصدر قرارا دستوريا يحصن قراراته، مصطدما بأقرب مستشاريه، وكلما دعا للحوار حول زلة ارتكب أخرى أشنع منها مستهينا بخصومه الذين صاروا مجرد فلول في نظر الإخوان، وكلما عقد عهدا أخلف عهده، فلم يعد أحد يثق به أو يستجيب لدعواته. تنبه معارضوه إلى أنه لم يعد يسمع غير صوت جماعته فخرجوا يرددون شعار: يسقط يسقط حكم المرشد، وانتقلوا من محاصرة «الاتحادية»، مقر الرئاسة، إلى التظاهر أمام المقر الرئيسي للجماعة بالمقطم، فوقع الاصطدام. وحين كثر الحديث عن خطورة الوضع على مصر قال المرشد ضدا على سنه وجلالة موقعه: «طز في مصر!!». لم تكن هذه العبارة مناسبة لسنه ولا لجلالة موقعه، ولو لم اسمعها من فمه ما صدقتها. سمعته يقولها مرة، وقيل إنه قالها مرتين. من الأكيد أن هذه الجملة غير المواطنة ظلت تحفر في نفوس حماة الديار إلى أن جاءت المناسبة فرد عليها الفريق السيسي بقوله: «لِنَمُتْ بَأَ أحْسنْ»! ووقفت القيادة العامة للجيش تصفق في حماس تصفيقا طويلا حاسما. العبارة تقول: إذا خيرت بين مصر والجماعة فسأختار الجماعة غير آسف على غيرها. وهذا هو المأخذ الذي صار الجميع يأخذه على الرئيس: رئيس جماعة وليس رئيس مصر. وامتد التحليل إلى القول بأن النظام الهرمي للجماعة يشترط أن يدخل الوطن فيها لا أن تكون هي جزءا من نسيجه المتعدد الألوان. قد يقول قائل: وما الذي كان عليه أن يفعل في الحالتين: حالة تعذر التوافق على الدستور، وحالة خروج الملايين مطالبين بإعادة الامتحان؟ الجواب قانوني في الحالة الأولى: كان عليه أن يعيد الرئاسة إلى الذين صوتوا عليه ولو بصوت واحد، لأن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب، أما في الحالة الثانية فالجواب أخلاقي: فقد كان الأكرم له أن يستقيل نهائيا ويترك شخصا آخر من حزبه يخوض السباق، فإن لم يتطلع إلى هذه الرتبة فمن حقه أن يعرض نفسه للاستفتاء. لكل ما سبق فإن مشروعية الرئيس مرسي، نسأل الله له السلامة التامة، كانت مشروطة، و»ما قام بشرط سقط بسقوطه». الرئيس مرسي متهم بعدم الوفاء في جميع مراحل التعامل معه، وهذه هي الحجة التي أبطل بها الشاعر عبد الرحمن القرضاوي فتوى أبيه يوسف القرضاوي المؤيد لمرسي حين خاطبه قائلا: «لقد تعلمت منكم أن المسلمين عند شروطهم، ألست القائل: «إن الإمام إذا التزم بالنزول على رأي الأغلبية وبويع على هذا الأساس، فإنه يلزمه شرعا ما التزم به، ولا يجوز له بعد أن يتولى السلطة أن يضرب بهذا العهد والالتزام عرض الحائط، ...إذا اختاره أهل الحل والعقد على شرط وبايعوه عليه فلا يسعه إلا أن ينفذه ولا يخرج عنه، فالمسلمون عند شروطهم، والوفاء بالعهد فريضة، وهو من أخلاق المؤمنين». «...لقد عاهدنا الرجل (أي مرسي) ووعدنا بالتوافق على الدستور، ولم يف، وبالتوافق على الوزارة، ولم يف، وبالمشاركة لا المغالبة في حكم البلاد، ولم يف، وبأن يكون رئيسا لكل المصريين، ولم يف، وأهم من كل ذلك أننا عاهدناه على أن يكون رئيس مصر الثورة، ثم رأيناه في عيد الثورة يقول لجهاز الشرطة، الذي عاهدنا على تطهيره ولم يف أيضاً، يقول لهم : «أنتم في القلب من ثورة يناير!!!»، فبأي عهود الله تريدنا أن نبقي عليه ؟»، مضيفاً: «لقد تصالح مع الدولة العميقة، ومع الفلول، ومع رجال أعمال مبارك، ومع كل الشرور الكامنة من العهود البائدة، بل حاول أن يوظفها لحسابه، وأن يستميلها لجماعته، وأعان الظالمين على ظلمهم فسلطهم الله عليه». (عن الحياة 7يوليوز 2013). وبالمناسبة فقد لعب يوسف القرضاوي، غفر الله له، دورا سيئا عقد المشكل المصري: فبعد انسحاب مبارك طار القرضاوي من قطر إلى ميدان التحرير ليختلي بشباب الإخوان ويخطب فيهم خطبة شبيهة بما قاله أبو سفيان لشباب وأطفال بني أمية بعد تولي عثمان: لقد آلت إليكم يا بني أمية فتلقفوها تلقف الكرة. قال لهم القرضاوي حسب ما تناقلته الصحافة: لقد جاء دوركم، أو دورنا، لقد جرب العلمانيون دورهم وفشلوا، وجاء دوركم...وكان الأجدر به أن يتحدث عن طبيعة المرحلة التي تقتضي التوافق والتعاون، ولكن من أين له بعقل ابنه! إنه من الجيل الذي امتلأ قلبه بالأحقاد على كل من لا يدخل تحت خيمته الراشية المتهالكة. وفي يوم 29 يونيو 2013 طار مرة أخرى إلى القاهرة ظانا، أن الشعب المصري سيهب لاستقباله بالأحضان، وأن فتواه الركيكة كافية لإقناع الناس بالبقاء في منازلهم. لقد كان شؤما على الإخوان في المرة الأولى حين زرع في أذهانهم أن الفرصة فرصتهم وحدهم، وأنها لا تعوض، والدخول إليها لا يتم إلا عبر قهر العلمانيين الكفرة، فشدوا على هذيانه بالنواجذ. وكان شؤما عليهم في المرة الثانية حين أوهمهم بأن «الحشد بالحشد يدفعُ»، وهي نفس الفكرة التي ورط فيها الجزائريين حين كان هناك: إن حشدوا لكم مليونا فاحشدوا لهم مليونين. ولم يدر أن الحشد في اتجاه التاريخ كاندفاع الماء في المنحدر نحو السهل، والحشد ضد التاريخ مثل جر الماء من السفح نحو القمة. وقد اغتر بكلامه من اغتر فقال علي بلحاج العبارة التي أنهت جبهة الإنقاذ في الجزائر: هذه آخر الانتخابات، «لا ميثاق لا دستور، قال الله قال الرسول». وقد تذَكَّر قولَه للجزائريين وهو يحرض المغاربة على التظاهر ضد خطة إدماج المرأة في التنمية. لعله يتأمل الآن عاقبة أمره. الخلاصة المصريون حسموا أمرهم، وساروا في الطريق الذي مهدوه، وجنى الإخوان نتيجة تسرعهم وخطابهم المزدوج المستخف بالآخر. وليس أمامهم الآن غيرُ طريقين: طريق جبهة الإنقاذ الجزائرية، أو طريق أربكان والتجربة التركية عامة. نتمنى أن يختاروا الطريق الثاني. والذي يهمنا نحن هو أخْذ العبرة مما وقع لهم، وأخذ العبرة يقتضي التشخيص السليم، أي النظر إلى الواقعة من كل جوانبها، والتصريح بالحقيقة مهما كانت صادمة. إن محاولة استغفال الآخر باصطناع خطاب مزدوج مآلها الفشل. والخطاب المزدوج ماثل عندنا في المغرب بشكل يعوق نمو الثقة: فإخوان المغرب يتحدثون عن التوافق مع المؤسسات (ومنها الملكية)، والاستعداد للتداول مع الفرقاء كحزب مدني عادي، ولكنهم يخربون أسس التوافق: يحضنون بيوض الفرقة، ويبذرون بذور الريبة جريا وراء سراب. وإلا كيف نفهم احتضانَ شبيبتهم وذراعهم الدعوي وبرلمانييهم للمتطرفين وفتح أبواب المدرجات الجامعية لناشري خطاب الكراهية والجهل، مثل المدعو عبد الله نهاري، وكيف نفهم حملتهم العنيفة على وزارة الأوقاف التي تحاول بصعوبة توفير الشروط الدنيا للتعليم فيما سمي «دور القرآن» التي لا تختلف في وضعها الراهن عن التي أنتجت طالبان؟ والحال أن التعليم العتيق نفسه عارٌ على الدولة المغربية، لأنه مبني على التمييز بين أبناء المغاربة، وقد بينت حيثيات هذا الحكم في مقال سابق. إن السعي لتخريب التعليم بفتح أبوابه ومسالكه للمتطرفين والخوارج، وإنشاء تعليم مواز بمواصفات خاصة، ليس إلا نموذجا للخطاب المزدوج الذي سيفجر الوضع في المغرب طال الزمن أم قصر. ************ 1 وأم الدنيا هي نفسها الأرض التي أنبتت الفراعنة الذين قال أحدهم مستصغرا أمر نبي الله موسى: «أليسَ لي ملكُ مِصرَ وهذه الأنهار ُتجري من تحتي؟ أفلا تُبصرون؟ أم أنا خيرٌ أم هذا الذي هُوَ مهينٌ، ولا يكادُ يُبين». من صفات الفرعون أنه لا يكاد يرى الآخر. 2 تضمين من قول الأخطل: إن العداوة تلقاها وإن قَدُمَتْ ... كالعُر يكمُن حينا ثم ينتشر والعُرُّ: الجرب.