قد يعترض معترض: بأي معنى يتحدث هذا المدعي عن سيارة « إسلاموية «!فهل هناك سيارة ليبيرالية و أخرى اشتراكية أو علمانية أو ذات نزعة قومية حتى يٌستساغ الكلام عن سيارة إسلاموية؟أليست السيارة و إن كانت ابتكارا غربيا حديثا فقد أصبحت مكتسبا للإنسانية جمعاء، ووظيفتها، مهما اختلفت أنواعها و درجة تطورها و كمالها، هي واحدة وكونية؟ و الجواب عن هذا الاعتراض الوارد، هو أن السيارة قد تلبّست على يد الوهابيين والدعويين وظيفة إيديولوجية تسمو بها من مجرد أداة تشتغل بطريقة آلية مبرمجة و تؤدي أغراضا نفعية «مبتذلة» إلى مرتبة الفاعل السياسي و الأخلاقي الذي ينافس بل يتفوق على الأحزاب التقليدية و دكاكينها الانتخابية. إذ لديها قدرة خارقةعلى التواصل و التفاعل تعجز عن مضاهاتها أعرق الأحزاب و التي تبقى قاعدتها من المناضلين و المتعاطفين محدودة، خاصة في ظل البلقنة الحزبية،بل تتفوق على جميع وسائل الاختراق الإسلاموية الأخرى. فهذه السيارة «المُتحزبة» تمارس وظيفتها الدعوية أينما حلت و ارتحلت، ليلا و نهارا، في حال الحركة أو السكون، في المدن و الأرياف و السهول و الجبال و الأدغال، إذ تستهدف كل من صادفها و و قع بصره على واجهتها الخلفية، من الراجلين و الواقفين و المُطلين من النوافذ و الأبراج و الممتطين للحافلات والشاحنات و السيارات «اللامنتمية» و للدواب و العربات. إن الهوية التي تتقمصها هذه السيارة، في الظاهر، هي هوية «المٌحتسِب» الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر، كما توحي بذلك المواعظ الدينية المعلقة على «لوحتها» الزجاجية الخلفية الموجهة نحو الخارج، من مثل «لا تنس ذكر الله» و «هذا من فضل ربي» و «ما شاء الله» و «اخفض بصرك» و «لبيك يا محمد»...غير أنه و مهما بدت هذه المواعظ، للوعي الساذج، أخلاقية خالصة و بريئة منزهة عن أي غرض « مدنس «، تروم تذكير « المتلقي» بالسراط المستقيم، فإن هدفها الأساسي هو تكريس الخطاب الدعوي داخل المجتمع. أليس رهان هذا الخطاب برمته هو الأخلاق الدينية المٌؤولة على نحو متزمت كمقدمة للهيمنة السياسية؟ ألم تكتسب السيارة هوية « المُحتسب» لأول مرة في فضائنا العام إلا في العقدين الأخيرين بالتزامن مع المد الوهابي و الدعوي؟ إن الذين ابتكروا هذاالتوظيف الإيديولوجي للسيارة كانوا على درجة عالية من الدهاءوالمكر؛ فهي توفر الاقتصاد في الجهد البشري و المادي أيضا؛إذ لا تحتاج لكي تشتغل لأي إعداد فكري أو فني أوإمكانات مادية مما يتطلبه أي نشاط دعوي آخر، سواء كان سمعيا أو بصرياأو مكتوبا أو اتخذ شكل حركة استقطاب مباشر. إذ اكتفى هؤلاء بإلقاء هذه المواعظ في السوق و ألصقها بعض أتباعهم على واجهات سياراتهم لتحذو الحشود حذوهم و تكتسح السيارة « المُحتسبة» الفضاء العام. بل الأكثر من ذلك فهذا النص الوعظي السّيار سرعان ما قطع علاقته بشجرة أنسابه، إذ بمجرد ما اعتلى منبر السيارة» مات مؤلفه «، و أصبح يبدو كمنتوج للعقل الأخلاقي الجمعي و كتعبير عن « روح الأمة» و كفعل تلقائي داخل مجتمع ذي مرجعية ثقافية دينية. و الحالة هذه، فإن كل من يكشف عن أصله الدعوي قد يٌتهم بالغربة عن مجتمعه أو بالمزايدة الإيديولوجية. إن حيازة سيارة ما هو حق يضمنه القانون و يحميه و يدخل في إطار الملكية الخاصة التي أصبحت تنتمي في المجتمع الحديث إلى المجال الخاص بما هو مجال مقدس تتحقق فيه حرية الفرد في علاقته بشخصه و جسده و معتقداته و أفكاره وأفعاله و ممتلكاته وأسرته و أصدقائه بما لا يمس حرية الآخرين، و الذي يتميز عن المجال العمومي الذي يتحقق فيه المشترك. و بما أن للفرد حياته الخاصة التي لا يتدخل فيها الآخرون و حياته العامة التي يساهم فيها مع الغير في بناء المشترك، فللسيارة أيضامجالها الخاص المتمثل في فضائها الداخلي الذي يسمى ب «الصالون» و لها كذلك شكلها الخارجي الذي تنتمي به إلى الفضاء العام. و بناء عليه فصاحب السيارة هو حر في أن يؤثث صالونها كيفما شاء و أن يستمع داخلها للموسيقى التي تروقه و للقنوات الإذاعية التي يختارها و للخطابات الدينية التي تلبي حاجته الروحية، وإذا استبدت به الرغبة في توظيف سيارته لغرض الوعظ و الإرشاد»الصامت»فلا أحد يمنعه من تثبيت بعض المواعظ السالفة الذكر أو غيرها داخل هذا الصالون لتٌذكره هو و من معه بمكارم الأخلاق.أما أن يستغل الواجهة الزجاجية الخلفية للسيارة لممارسة الحِسبة، ففي ذلك تطاول على حرمة الفضاء العام و خلط بينه و بين المجال الخاص، و اعتداء على حرية و استقلالية الآخرين، و استخفاف بذكائهم. فمن الناحية المبدئية و المثالية الخالصة، يٌفترض في من ينهض بهذه المهمة، أن يكون ذا سلوك طٌهريمتطابق مع القيم الدينية التي ينصح بها الآخرين. غير أن الواقع يكشف العكس؛ فالوجود الطبيعي يسبق الوجود الأخلاقي و الارتقاء من مستوى الفرد البيولوجي إلى مرتبة الشخص الأخلاقي مطلب صعب المنال، يتطلب التطلع إليها شروطا ذاتية و موضوعية لا يسمح المقام هنا باستحضارها. و الغالب في مجتمعاتنا التي ما زالت تفتقر إلى فهم مستنير للدين و إلىالآليات الحديثة ،الثقافية و المؤسساتية، لكبح الوجود الحيواني، هو سطوة الغرائز و الأهواء التي تستعمل بذكاء المعطى الديني، مصدر المشروعية، لخدمة أغراضها. و إذا كنا نسلم بأن عددا من الذين يستعملون هذه السيارة « المُتحزبة» لا يصدرون في ذلك عن رغبة في خدمة أغراض مبيتة، بل يعتقدون أنهم يتصرفون وفق تعاليم الدين السمحة، فإن الناس غالبا ما يرتابون من أصحاب هذه السيارات، لأنهم يعرفون بالتجربة و الاحتكاك أن عددا كبيرا من هؤلاء متسلطون،فاسدون، منافقون، منحرفون.و يشاهدون يوميا من يتجول في الشوارع طالبا من الآخرين «ذكر الله» و هو يضايق و يعاكس النساء، أو يشرب الجُعة و يرمي بقاروراتها في الفضاء العام أو ينشل هواتف و حقائب الراجلات والراجلين أو يمارس الدعارة في «صالون» سيارته !بل إن فئات عريضة من الفقراء والمحرومين ينظرون إلى الأغنياء و المسؤولين الذين يركبون هذه السيارة بنوع من الامتعاض و الحقد الاجتماعي،لأنهم، بعد أن نهبوا خيرات البلدوأفقروا و تسلطوا، يأمرون الضحايا ب «ذكر الله» ! أو لأنهم بعد أن اغتنوا من المال الحرام و اقتنوا سيارات فاخرة كتبوا على واجهتها الخلفية: « ما شاء الله «و التي تحتمل، على الأقل، تأويلين؛ الأول هو أن « هذا ما أراده الله» و أن هذه السيارة « من فضل ربي» و أن الله قد « فضل بعضكم على بعض»، و الثاني يفيد معنى الاستعلاء و التباهي بالسيارة الجميلة. و من الطريف أن « ما شاء الله « هذه، قد تبعث على الضحك و السخرية في بعض الأحيان، إذ قد تصادف سيارة مٌعمِّرة ، متهالكة، تخدش الذوق العام بشكلها و لونها، إذا توقفت تَعطَّلت و استنجدت بالمارة لمساعدتها على معاودة الإقلاع، و مع ذلك يكتب صاحبها على ظهرها « ما شاء الله «، و التي يبدو أنها تفيد ، في هذه الحالة، معنى التهكم على القدر و المصير. إن الذين كانوا وراء ظهور هذه السيارة، يعرفون حق المعرفة أنها لن تغير في شيء من واقع الناس الأخلاقي، لأنها تستهدف بالدرجة الأولى ، إلى جانب وسائل الاختراق الإسلاموية الأخرى، تكثيف الحضور الرمزي الدعوي في أوساط الحشود تمهيدا ل «غزوة « الصناديق. و نخشى أن يأتي علينا حين من الدهر، تمتطي فيه كل القوى المتصارعة داخل المجتمع سياراتها ،فيتضاعف «التلوث» الإيديولوجي، و تنضاف إلى «حرب الطرق» حرب التراشق بالشعارات الإيديولوجية السيّارة بكل اللغات المتداولة ، من عربية وأمازيغية و حسانية و عبرية.