لم يكن يتصور أحد أن تتطور الأمور بهذا الشكل في مصر، وأن يثور الشعب مرة ثانية، وأن تخرج هذه الجموع البشرية الهائلة، التي لم تشهد لها البشرية مثيلا، سنة فقط، بعد انتخاب، الإخواني محمد مرسي. كذبت الصورة الدعائية المطمئنة، التي كانت تروجها الجماعة عن نفسها، مدعمة بقنوات وصحف ورقية وإلكترونية، في مجموع العالم العربي، ممولة من قطر ومن الشبكات الإصولية الممتدة في بلدان الخليج. نزل الى الشارع مئات الآلاف من جماهير الشعب المصري، في كل المدن والقرى، حتى تلك التي صوتت، سابقا، لمرسي، ولم تعد القنوات ووسائل التواصل الأخرى، ذات الطبيعة الدعائية، قادرة على إخفاء الشمس بالغربال، ولكن من المفيد أن نجتهد لنفهم ما الذي حدث، لنستخلص الدروس. ولنبدأ من البداية، الثورة المصرية أطلقها مئات الشباب الحداثي، الديمقراطي، والتحقت بها قوات معارضة، ولم يلتحق بها الإخوان إلا في وقت متأخر، عملوا على السطو على الثورة، فنظموا مليونيات تنطلق من المساجد، للمطالبة بانتخابات برلمانية، بهدف الهيمنة على مقاعد البرلمان، في وضع سياسي غامض، ولم تكن القوى الأخرى مؤهلة لهذا الإستحقاق، وكانت ضعيفة أمام الشبكات الدينية الإخوانية، الممولة في جزء منها من الخارج. الخطوة الثانية كانت هي الإنتخابات الرئاسية، ويتذكر الجميع أن الإخوان كانوا أعلنوا أنهم لن يقدموا مرشحا، حتى يسيطروا على البرلمان، لكنهم نكثوا وعدهم، بعد ذلك، وهنا، أيضا، حصل وضع ساعد الإخوان، وقد بدأ بتشرذم القوى الديمقراطية، من جهة، وبترشح أحمد شفيق، المحسوب على العهد السابق، من جهة أخرى، ورغم ذلك كاد أن يهزم مرسي. و بدل أن يرى مرسي في هذه النتيجة المتقاربة، رسالة يمكن قراءتها على أنها لا تمنحه هو وجماعته السلطة المطلقة، سارع الى إعلان دستوري، شكل انقلابا على القضاء، وعلى كل الشرعيات الأخرى، واستبدادا واضحا بكل الصلاحيات. واستمرت سلسلة الأخطاء، بصياغة دستور من جانب واحد، وبتنظيم استفتاء قاطعته المعارضة، و لم يفز مع ذلك إلا بفارق صغير، بعد أن خرجت ميليشيات الإخوان المسلمين، التي رفعت نسخا من القرآن، واعتدت على المعارضين، كما طوقت المحكمة الدستورية، وأقامت متاريس حول مدينة الإعلام، لإرهاب الصحافيين، حتى لا يقوموا بدورهم في نقل النقاش الجاري، حول الإشكالات السياسية المطروحة في الساحة المصرية. وحتى يستولي مرسي، بشكل كامل على السلطة، أحدث تغييرات في قيادة الجيش، و دخل في مسلسل تمكين الإخوان من أجهزة الدولة. وفي مقابل ذلك، كانت المعارضة تقوي صفوفها، وكان الرئيس يراكم الأخطاء، و خاصة في طريقة تدبيره للوضع الإقتصادي و الإجتماعي. كانت بذور الموجة الثانية من الثورة متربصة، تنتظر الفرصة للإنقضاض على حكم الإخوان، وقد عشت بنفسي، التحضير لتظاهرة 30 يونيو في القاهرة، وشاهدت كيف كانت العفوية حاضرة لدى فئات واسعة من الشعب، التي كانت تستعد باللافتات، في المتاجر وفي كل الواجهات، رافعة شعارات مناهضة لمرسي، بينما كان الشباب، على الدراجات الهوائية يطوف بملصقات تطالب الرئيس بالرحيل، و كان كل من سألته عن الوضع، ينتقد الإخوان ويؤكد أنه سينزل إلى ميدان التحرير. وقد لخص الخطاب الذي ألقاه مرسي، يوم 26 يونيو الأخير، فلسفة الإخوان، الذين يعتبرون أنفسهم محملين برسالة إلاهية، وأن كل المعارضين، ينتمون للنظام السابق يدافعون عن الفساد، بل دخل في حملة تشهير ضد أشخاص، وذكرهم باسمهم، مما يعني تحريضا، يعاقب عليه القانون، كما هاجم القضاء والإعلام. جواب الغطرسة، الذي ألقاه مرسي في خطابه والذي تجاهل المطالب الديمقراطية للمعارضة ولفئات واسعة من الجماهير المسحوقة، التي اكتوت بنار الأزمة، وأيضا مطالب النخبة المثقفة والشباب الحداثي والفنانين ... كان له دور كبير في تأجيج الثورة. لكن هناك عناصر أساسية دخلت في المعادلة، ورجحت كفة المعارضين، وعلى رأسها مؤسسة الأزهر، التي وجهت انتقادات قوية للإخوان، وأسلوب استغلالهم للدين، كما واجه الإعلاميون محاولات حكومة مرسي الهيمنة على القنوات العمومية والخاصة، ووقف القضاء كذلك شامخا مدافعا عن استقلاليته. خطاب مرسي ليلة الثلاثاء الأخير، كشف مرة أخرى، مفهوم الديمقراطية لدى الإخوان، الذي اختزله في ما سماه بالشرعية، أي انتخابه بأغلبية بسيطة، و هذا كاف، حسب رأيه، ليبرر وقوفه ضد إرادة ملايين الشعب المصري، التي خرجت للشارع، مطالبة برحيله، وتنظيم انتخابات مبكرة. وباسم الشرعية، قال مرسي، إنه مستعد للإستشهاد، ووضع حياته مقابل التنازل عن السلطة، وفي ذلك تحريض واضح لأنصاره على العنف وعلى الدخول في مواجهات مسلحة. وهنا لا بد من طرح سؤال أساسي، هل حصل في بلدان ديمقراطية أن استقال رئيس منتخب بشكل شرعي؟ يمكن التذكير باستقالة الجنرال ديغول، بعد التظاهرات الشبابية الكبرى، لسنة 1968، كما استقال، رئيس الوزراء اليوناني، جورج باباندريو، سنة 2011، بسبب الأزمة المالية وضغط الشارع. فهل هناك من شرعية أقوى من تلك التي جمعها ديغول، قائد المقاومة ضد النازية، وصانع فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية؟ وهل يمكن لأحد أن يشكك في شرعية الزعيم الإشتراكي باباندريو؟ دقت ساعة الرحيل، وأصبح مرسي رئيسا مخلوعا من طرف الشعب، ولن تنفعه أية شرعية انتخابية، لأن الديمقراطية لا تختزل في صناديق الإقتراع، وهذا ما أتبثته مرة أخرى الموجة الثانية من الثورة المصرية.