حتى قبل أن يتسلل من الرحم، كان الشعر قد اندس بين ثنايا الروح زارعا نهما أبديا بتفاصيل الحياة. في البدء، كانت الجدة وبكل ما أوتيت من فصاحة العرب، تزرع الطفل في أحضان الصحراء، كي ينمو منذورا للعطاء، شعرا وحبا. نعم، كانت الجدة تهمس في أذن الصبي: «ليس مستحيلا أن تكون آخر الفرسان». بالفعل كان، يمتطي الفارس صهوة الشعر ويمضي مترجلا، جذلان يهيم، وحين تتعبه الشموس، ينزوي تحت ظلال الريح. بكل سخاء الروح والجيب، يصرخ ليلا والناس نيام: «الحياة ممكنة والإنسان الجدير بالحياة على مرمى غضب». حينما تدعوه موائد علية القوم، لا يتردد في الوقوف شموخا، ليسلم على إنسان خانته الموائد، كلبا ضالا، بحنو بالغ يربت على كتف، ما عادت تستطيع تحمل غدر الأيام. كان بذلك يمرر خطابا يتفجر كالديناميت: «غبن أن تمتد اليد لغير المكاشف». كان للرجل صديق طلق الحياة طلاقا لا رجعة فيه. يسكن مع العناكب والصراصير والجرذان. لا كهرباء إلا شمع يحترق بكسل، ولا ماء غير النبيذ، أما الأكل فحكاية تروى فقط. سألت أبا زيد ذات سكر: لماذا تصر على زيارة الصديق؟ أجاب على الفور كمن كان ينتظر غباء السؤال: لكي آخذ جرعة عصيان... كلما استعذبت مباهج الحياة، ومخافة أن يتسرب الغباء إلى دم الشاعر، استنجدت بذاك الزاهد الكبير.