لقد كان بطل الرواية الشهيرة «دون كيشوت» للكاتب الإسباني الكبير «ميجيل دي سرفانتس» (1547-1616) رجلا ولد بعد أن مضى عهد الفروسية، لكنه اعتكف على قراءة الكتب القديمة التي تحكي عن بطولات الفرسان فأصابه الهوس بالفروسية، وأصبح يحلم بأن يكون فارسا حتى أضحى يتوهم أنه صار كذلك، وقرر أن يعيش حياة الفروسية بعد أن انقضى عهدها.. فبدأ يرتدي درعا قديمة ويمسك رمحا مهترئا ويدخل في معارك وهمية، حيث إنه إذا رأى غبارا يثيره قطيع أغنام يتخيل أنه مجموعة من جنود الأعداء، فيندفع فورا إلى قتلهم، لكن سرعان ما يردُّ الرعاة الهجوم ويرمونه بالحجارة... وعندما رأى «دون كيشوت» لأول مرة طاحونة هواء تدور، ظنها شيطانا ذا أذرع عملاقة، فاندفع يعاركها، فقلبته، وسقط على الأرض محطَّم العظام... وبقي «دون كيشوت» يعيش في وهمه، فتكررت له هذه الحوادث المؤلمة، ما جعله يعجز عن رؤية الواقع، ولا يدرك أنه يستحيل عليه أن يكون فارسا لأن عصر الفروسية قد ولَّى، ولا يعترف بأن قراءة الكتب التي عفا عليها الزمن قد حجبت عنه رؤية الواقع... وأخيرا، استفاق «دون كيشوت» من أوهامه، فقطع العُرى مع الماضي... وتبرأ من «أشباح الجهل السوداء» التي جاءته من قراءة الكتب القديمة عن الفروسية.. وندم على عدم امتلاكه الوقت الكافي لقراءة كتب أخرى يمكن أن تنير الطريق أمامه. يسيء بعض الناس في مجتمعنا قراءة هذه الرواية، حيث يعتقدون أن صراع دون كيشوت هو مجرد صراع عبثي مع طواحين الهواء، في حين أن هذا الصراع هو الذي شكَّل أساسا لاستنارة أوروبا ونهضتها وقيامها بالثورة الصناعية... لقد خاض العقل الأوروبي صراعا مريرا من أجل الانتصار على عوائقه الخاصة وأوهامه، ما جعله يعيد النظر في ذاته ويستنير ويتطور بشكل مستمر... لقد كان صراعا إيجابيا ومثمرا لأنه مكَّن الإنسان الغربي من تجاوز أوهامه وأخطائه، وممارسة القطيعة معها واكتشاف الواقع واجتراح آفاق جديدة مكنته من أن ينذر نفسه للتقدم والنمو المستمرين... وبعد أن تخلص المجتمع الأوروبي من أوهامه، انخرط في صراع من أجل اكتشاف معارف جديدة ساهمت في تطوره وازدهاره. هكذا، فإذا كانت شهرة «طوماس إديسون» Thomas Edison راجعة لاختراعاته العديدة وعلى رأسها المصباح الكهربائي، فإنها راجعة أيضا إلى الفشل المتكرر الذي طبع عمله قبل توصله إلى اكتشافاته... فبعد تفجيره لثلاثة مختبرات، بدأ أصدقاؤه يضغطون عليه ليغير مهنته بمهنة أخرى، لكنه كان يردُّ عليهم بأنه أصبح، بفضل تلك الأخطاء، يعرف أكثر من أي وقت مضى كيف يُنجز ما يريد إنجازه، وأنه استفاد من فشله المتكرر، مما جعل نجاحه مؤكدا. ويروي بعض المهتمين أن «إديسون» قد قام بعشرة آلاف محاولة قبل اكتشافه المصباح الكهربائي. وعندمااستغرب أحدهم لمثابرته واستمراره في المحاولة رغم فشله المتكرر، أجابه هذا العالم قائلا: «إنني لم أفشل، بل اكتشفت عشرة آلاف طريقة لا تفضي إلى اختراع المصباح الكهربائي.» لكن، إذا كان الإنسان الأوربي قد تخلص من أوهامه واكتشف الواقع، فإن مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تزال ترزح تحت أوهام قد تؤدي إلى انقراضها... وللتدليل على ما نقول، تعمل زعامات الإسلام السياسي عندنا على استعادة ماضٍ لن يعود أبدا، وهم يعتبرون أنفسهم في مهمة مقدسة. لكن التاريخ لا يسمح بما يريدون القيام به، بل ليست هناك حاجة إلى ذلك. إنهم عاجزون تماما عن رؤية الواقع، الأمر الذي يجعلهم يُكَفِّرون من ليس على مذهبهم ويرتكبون أعمال عنف معتقدين أنهم يؤدون مهمة جليلة ورسالة نبيلة، بينما هم يرتكبون الجرائم وفي غيِّهم يعمهون. ولقد اتضح للمتتبعين أن هدف زعماء جماعات الإسلام السياسي هو الوصول إلى السلطة، إذ بعد أن تم إدخالهم إلى الحكومة، تحت ضغط بعض القوى العظمى، انكشف عجزهم وتعرَّت أوهامهم، واتضح أنهم لا يملكون رؤية، ولا خططا ولا برامج، ما جعلهم عاجزين عن اتخاذ أي مبادرة... فلحدِّ الآن لم تستطع «الحكومة الملتحية» أن تقدم مشروعا متكامل العناصر والأهداف وانخرطت في معارك وهمية وصراعات لم تصل بها إلى أي شيء. وأمام عجزها الواضح لم يعد لديها ما تقدمه غير مبررات ساذجة لأسباب ضعفها وعدم قدرتها على إدارة الشأن العام، حيث تعتبر أن المشكل كامن في المغاربة لأنهم تخلوا عن القيم كما تفهمها. وهكذا نستنتج أن هذه الحكومة تعتقد أننا لا نعيش مشكلات مؤسسية وسياسية واقتصادية ومالية واجتماعية، وإنما تعود كل مشاكلنا إلى عدم ارتداء المرأة للحجاب.... إنها تحاول إلقاء المسؤولية على الآخر، أي على التيارات المدنية التي ترفض الطائفية... تعيش هذه الزعامات في عالم افتراضي، حيث تعميها أوهامها وتجعلها تنظر إلى نفسها باعتبارها حامية دين الله، وهي ترفض رؤية الواقع لأنه يهدد الوهم المريح الذى تعيش في ظله. فلو أدركت أن ما تسميه بالدولة الإسلامية قد قامت على المذابح والطغيان.. وأن الإسلام دين حنيف ولم يأت بنظام سياسي محدَّد للحكم، وأن أفضل الطرق لحماية الإسلام هو بناء دولة حديثة ديمقراطية يتساوى فيها المواطنون بغض النظر عن دينهم، وليس تأسيس حكم استبدادي باسم الدين كما حدث في السودان وأفغانستان والصومال وغيرها من البلدان التي ضربتها الفاشية الدينية.. لو أدركت زعامات الإسلام السياسي ذلك، لانهارت أوهامها ولفقدت دعوتها جدواها ومعناها. لكنها مصرَّة على التعلُّق بأوهامها لتحتفظ بفكرة إيجابية عن نفسها وتصل إلى السلطة وتحتفظ بها بشكل أبدي وتبيد من يختلف معها... لقد هوى بلدنا إلى الحضيض في كل المجالات وعلى كل المستويات، و»الحكومة الملتحية» عاجزة وفاشلة، لكن زعماء الإسلام السياسي لن يعترفوا بذلك أبدا وما زالوا مستمرين في الحديث عن «الإنجازات العظيمة» التي حققتها «الحكومة»، وهي اعتداءات على قوت المواطنين، حيث تم تجويعهم وتجهيلهم... بل إن «رئيس الحكومة» ذاته في كل أحاديثه يقول كلاما إنشائيا ويرفض الاعتراف بفشل حكومته، فيبدو منفصلا عن الواقع يعيش في عالم افتراضي مليء بالأوهام، أما الأوضاع المأساوية التي يعاني منها المغاربة فلا يراها هذا «الرئيس» وزملاؤه، بل يعتبرون الحديث عنها مجرد مؤامرة يقوم بها أعداء الدين!! إضافة إلى ذلك، فالصراع الذي تخوضه جماعات الإسلام السياسي هو صراع لن يفضي إلى الاستنارة والقطيعة مع الأوهام التي تحجب عنها الواقع، بل قد يتم استغلاله من طرف بعض القوى العظمى لتفتيت الأوطان، وتشتيت الشعوب من أجل إقامة إمبراطورية عالمية تقوم على الليبرالية المتوحشة التي ستلتهم كل شيء... والتشبث بالأوهام لن يؤدي إلا إلى خوض معارك عبثية تستنفد الوقت والجهد وتنتهي بإراقة الدماء، فالدمار ثم الانقراض .