بعد نشره لعدد من الروايات يحمل بعضها عناوين غريبة مستوحاة من أدبيات الماركسية كَ « رأس المال « (2004) و « البيان « (2006) و « الإيديولوجيا « (2008)، أصدر الروائي الفرنسي «سطيفان أوُسمون» رواية جديدة اختار لها عنوان « عناصر خارج السيطرة» (يناير 2013) يرسم فيها صورة مأساوية لبعض شباب اليسار المتطرف من جيل ما بعد « ماي 68 « (سنوات السبعينيات) ... تنطلق الرواية، فيما يشبه التمهيد، بمكالمة هاتفية تجمع بين امرأة فقدت ربيع عمرها من جراء حياة خاملة وراء القضبان و رجل كان عشيقها أيام الشباب.. تتحدث المرأة بأعصاب متوترة وصوت متشنج من فرط ما تناولت صاحبته من مضادات الانهيار العصبي ومسكنات تمنحها المؤسسة السجينة.. تنتحب السجينة وتتنفس ملئ خياشيمها متشتتة بالهاتف لتقول:» إننا حثالة.. أنا وأنت.. و هذا كل ما يمكنك أن تقول: كيف أننا أصبحنا حثالة مع أننا نحلم بكفاح بطولي..« ... في الطرف الآخر من خط الهاتف يأتي الجواب حاسما من رجل (العشيق) يدرك ما يقول قبل أن يقفل الخط ويضع حدًّا للمكالمة:» كم هو سهل أن نحطم حياتنا..«.. حُكِم على المرأة بالسجن بسبب قضية »لم يعد لها معنى في نظر الكثيرين«.. فلقد كانت عضوا في «بْريما لينيا» الإيطالية، و هي مجموعة مسلحة كانت تنافس «الألوية الحمراء»، و شاركت في اغتيال أحد أرباب العمل كما ساهمت في الإضرار بآخر أعلنته المجموعات خصما سياسيا.. أما الرجل (العشيق) فهو في عداد أولئك الذين لم يجرفْهم سيل هذه الحماقات، رغم أنه كان وشك ذلك.. أنه بطل الرواية و هو الذي يؤدي فيها وظيفة السارد إذ من خلال خطابه ستبزغ سنوات السبعينيات بكل ما كانت عليه: فهي محطة سحرية كما إنها، بالنسبة للبعض، بدية الجحيم.. وُلد بطلنا في أسرة متحررة كانت تحاول التكيُّف مع طرافة العيش المُشترك والجوار الغير محتمل في عمارة تقع بِ «مونتروج».. في ماي 68، لم يتجاوز عمر بطلنا سن الثامنة، مما يعني أنه سينشأ في بيئة ستكون له خير مدرسة و خير مثال.. فمن طفل صغير تدهشُه الأشياء و تثير إعجابه و استغرابه، ثم مراهق مشاغب يحب الشجار، ها هو الآن منجرف في سيل المظاهرات و مناقشات المدرج الجامعي، منهمك في البحوث حول «ألتوسير» و المشاجرات مع مناضلي ال «GUD» الذين يضعون على صدور فتيات اليسار المتطرف وشمَ علامة الصليب المعقوف.. عراك أحيانا و مزاح أحيانا أخرى، لكن الأمر لم يتطور قط ليصبح خطرا محدقا لأن الكل كان ينجح في مجانبته.. فلقد شهدت فرنسا قبل قرنيْن من الزمان ثورة عنيفة، أما هذه فهي تريد أن تعطي حيِّزا أوسع للمتعة.. هنا تظهر «فيدورا» جارة بطلنا الفاتنة أيام الشباب والعشق الحر.. إنها المرأة أضاعتها قضايا الإرهاب و التي كانت تنتحب عبر الهاتف، كما تبرزها أُولى صفحات الرواية، لكن بوجه مغاير.. وجه فاتنة شابة تثير حماسة بطلنا.. تحكي رواية «عناصر خارج السيطرة « قصة ضياع «فيدورا»، أو بالأحرى لحظة تواجدها في مباراة يتحدد الرابح أو الخاسر فيها بالنقط.. و لأن «فيدورا» إيطالية فإنها ستعود إلى ايطاليا أواسط السبعينيات حيث توجد أوروبا كلها في قبضة هيجان ثوري.. ففي باريس، تتناقش أوساط اليسار المتطرف فكرة الاستمرار وعدم التوقف مواصلي، منذ «ماي «68 نضالا متحمسا و لكن بدون عواقب دموية في نهاية المطاف.. أما في روما و بولونيا و توران فلقد أخرج المتظاهرون السلاح من جيوبهم، أحيانا، ليصوِّبوه نحو الشرطة.. و في ألمانيا، قامت منظمة «راف» (فراكسيون أرمي روج) باغتيال «هانز مارتان شليور»، رئيس الباطرونا، ثأرا لاعتقال 3أندرياس بادر» و ساندها بعد هذه العملية كوماندو فلسطيني باختطافه لإحدى طائرات لوفتهانزا.. هكذا شرع جزء من شباب أوروبا - كما فعلت فيدورا- في الانزياح عن الطريق.. تشكل قصة هذا الهيجان المتحمس في البداية و المأساوي بعد ذلك، خلفية هذه الرواية المُدهشة حيث يختلط الأدب بالذكريات الحقيقية.. و سنفكر بالطبع في فيلم «سنواتنا الجميلة» لمخرجه «ماركو توليو جيوردانا» الذي حوّل إلى الشاشة الكبيرة المسار المتوازي لأخوين في ايطاليا السبعينيات حين كانت تهتز تحت احتجاجات أعداء الحرية و تحت الإرهاب.. لكن «سطيفان أوسمون»، من جهته، يقفز على الحدود مستسلما لخيوط قصة الحب التي تجمع بين بطليه.. فهو نزق و ثرثار في باريس، صادق و خطِر في روما(...) من خلال طي صفحات هذه الرواية، سيتعرّف، بلا شك، مناضلو 68 . و من بينهم من يتصدّر اليوم وسائل الإعلام و الإشهار أو السياسة، وجوهًا تكاد تكون متنكرة (...) ولكنها، هنا، ليست سوى شخوصا حكائية لرواية لا تسرف الإحالة على أشخاص حقيقيين.. إن أبطال قصة الحب هذه، فضلا عن ذلك، وجوه ٌضائعة ، نلتقي من بينهم رفاقا ماتوا على الرصيف إثر جرعة مفرطة، شباب ملثمون كلصوص الطريق لكن ضد القنابل المسيلة للدموع، فتيان و فتيات في العشرين من عمرهم مستعدون لقتل أحد باطرونات «فياط» و وجوههم سافرة بلا لثام.. ثم نلتقي أيضا أولئك الإرهابيين الإيطاليين الذين ينظرون إلى منظماتهم تتفتت وتفسد من الداخل،ينخرها «قانون التوبة والندم» و يدفع بمناضليها نحو الوشاية ببعضهم البعض.. إنه الاندحار.. لقد سبق ل «سطيفان أوسمون» أن أخرج في رواياته السابقة شخوصا تمثل أرباب عمل و منتجين و وسائل إعلام بدون أخلاق.. و لقد نتج عن هذا ثلاثية روائية غريبة تحمل عناوين تذكِّر بثالوث ماركس و نُشِرت كلها عن دار «غراسي»: «رأس المال» (2004) ، «البيان» (2006)، «الايديولوجيا» (2008).. أما بخصوص هذا النص السردي (عناصر خارج السيطرة) فهو شخصي أكثر و أوفر عمقا و دقة و شراسة أيضا.. إنه بمثابة مرآة أكثر اتساعا لجيل يحصي بالإضافة إلى أبعد من أسطورته، عددا كبيرا من الذين أفسدوا و أضاعوا ربيع عمرهم.. عن جريدة لوموند(12 أبريل 2013) بتصرف