بداية أكتوبر 1974 ، نزلت فاس طالبا بكلية الآداب ؛ بدت لي المدينة فضاء رائعا لا نهاية لبهائه، فمنيت النفس باكتشاف علومها وحدائقها وأزقة مدينتها العتيقة. كانت لفاس في مخيلتي صورة باذخة تكونت من خلال أحاديث أهل بلدتنا الجبلية عنها: نساء بيض ،غض، ظفائرهن من حرير وحناء، ترفلن في أثواب من سندس أخفاف من وبر ناعم، ورجال تقودهم بطونهم نحو متاجر الذهب والفضة وتزين هاماتهم طرابيش حمراء تعلو جلابيب من «شعرة».ن وجامع كبير ذو سواري منقوشة ونفورات ماؤها أصفى من دموع الغوادي إلى جوار ضريح ولي صالح تحكي أخبار السلف أنه مؤسس هذه الجنة. نزلت فاس وأنا لا اعرف عنها سوى ما حكته ألسن الرواة ولا أعرف من ناسها سوى أسرة عمي عبد السلام القاطنة حي «باب الغول». حين جئت فاس قادما إليها من بلاد سوس حيث ودعت الحبيبة والأصدقاء ومرتع الشباب وشيء من الطفولة ، كنت أرى في الجامعة فضاء الفكر والحرية حيث البحث عن الذات والاستقلال عن كل سلطة وأن الحياة الجامعية هي إبحار مع الذات نحو ضفاف ساحرة وإن كانت مجهولة. قطنت الغرفة 228 بالطابق الثاني للحي الجامعي رفقة ثلاث طلاب لم أجد فيهم ما يناسب اهتماماتي وطبعي، ولم تتيسر لي توطيد العلاقة بأي منهم، مما جعلني أعاني نوعا من الوحدة، خاصة وأن الدراسة لم تبدأ بعد. لمؤانسة النفس كنت أقضي ساعات طوال أتجول بين شوارع المدينة وساحاتها: دار دبيبغ، لافيات، فاس الجديد، جنان السبيل، الطالعة إلى أن أتيه بين الأزقة الضيقة لمولاي إدريس. لم تطل أيام التسكع إذ سرعان ما فتحت المدرجات أبوابها، فأقبلت الاستمتاع بمحاضرات أساتذة أجلاء سحروني بأسئلتهم العميقة وبرحابة أفقهم العلمي وبرزانة وبهاء الأداء...هكذا بدا لي جمال الدين العلوي، وهو يتحدث في هدوء يجلله حزن عميق، عن الحكماء الأوائل وأطروحاتهم عن أصل الوجود، ومحمد سبيلا في أحاديثه المغرية عن عن الفلسفة الحديثة، عن ديكارت وشكه المنهجي الذي كان ضروريا لاستعادة يقينه في العالم قطعة قطعة. ذات مساء التقيت بباب الحي الجامعي بادرني طالب يشاطرني الفوج نفسه بالتحية فبادلته بأحسن منها ثم دعاني لجولة تبادلنا أثناءها أطراف حديث عادي: الاسم والأصل والمسار التعليمي. عرفت أن (ع.ص) طالب قادم من الشرق ويسكن الغرفة 128، وأنه إنسان منفنح وودود . منذئذ توطدت صداقتنا واكتشفت أن للطالب البركاني اهتمامات سياسية، ومن خلاله توسعن دائرة معارفي. دعاني (ع.ص) مرارا لاستكشاف مكتبات فاس وخزاناتها، وفي كل لقاءاتنا كان يبادر إلى طرح قضايا الجامعة للنقاش ،ويؤكد على النضال من أجل استعادة الحياة للحركة الطلابية ومنظمتها الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وهي نفس القضايا التي كانت تطرح في الحلقات الطلابية الأولى، والتي كانت مسرحا لجال لا ينتهي بين شباب تبدو عليه حيوية وحماس بالغين. أعجبت بآرائي ومواقف صديقي، ولاسيما بجرأته ومبادراته، فبدأت أحضر الحلقات، منصتا أولا، ثم متسائلا عن سر الاختلاف في الرأي، وعن طبيعة الفرقاء، وعن ماهية (أ و ط م)، وتاريخه، وعن أسماء ووقائع يدلي بها المتجادلون. كانت الحلقات تتخذ من الوضع الطلابي منطلقا للنقاش الذي كان سرعان ما يتشعب إلى قضايا سياسية كبرى: أزمة النظام السياسي بالمغرب، القضية الفلسطينية، حركات التحرر العالمية ومصارعتها للإمبريالية العالمية... كلما اتسع النقاش ازداد حدة بين المتدخلين الذين يطنبون في بسط آرائهم وشرح مواقفهم، مستشهدين بماركس وماو ولنين وتروتسكي...بعد نهاية كل حلقة يرافقني صديقي عبر فضاءات الحي ليقدم لي شروحات إضافية، فيصف الآخرين بالتحريفيين والاصلاحيين... في ذات الوقت كان يزودني بكتب، بعضها ذو طبيعة فلسفية وجلها في السياسة والفكر الماركسي: ما العمل؟ للينين، في الممارسة وفي التناقض لماو تسي تونغ، وكراسات كثيرة كانت تصدرها دار التقدم في موسكو، ثم نقد الفكر الديني لجلال العظم والثالوث المحرم لبوعلي ياسين، فضلا عن سلسلة «دليل المناضل» توالت الأيام على المنوال نفسه: محاضرات في الفلسفة، جلسات للقراءة الموجهة بحضور ثلة من الطلاب وحلقات في ساحة «هوشي منه» ( هكذا سمينا ساحة الحي الجامعي). تآلفت مع الفضاءات وانخرطت أكثر في الحلقات وتوطدت علاقاتي بزمرة «الطلبة التقدميين»، أحسب عليهم وأعامل على أني كذلك. بدون قرار أو وسيط ، وجدت نفسي أتبنى أفكارا وأدافع عن مواقف، اعترف الآن، أنني لم أكن أعي كل أبعادها، فعلت ذلك بحثا عن الانتماء ورغبة في التعبير عن الذات وتحقيقا لحضورها في وسط جديد، وفي مدينة لا أصدقاء لي فيها ولا صديقات. في غضون ذلك تعرفت على (ع.ح)، طالب حسن الخلق والخلقة، يهيبك برزانة فكره وسداد رأيه وتريثه في مقاربة الأمور... التقيته مرة بباب الغول حيث يقطن عمي عبد السلام، فاكتشفت أنه زميلي في الدراسة، وأن مسار حياته يتقاطع مع مسار حياتي، فهو ابن جندي مثلي، ينحدر من جبالة التي هي مسقط راسي ومهد طفولتي...دعاني مرة لدار أسرته التي ذكرتني بكل الدور التي سكنتها بوزان والصخيرات ومرنيسة وكل الثكنات التي كانت لأبي محطة في سفره الطويل: منزل بسيط وأثاث متواضع مقابل عزة نفس بادية على محيا الوالد، وأم حنون. رغم ضيق المكان، أقام عبد السلام مكتبة بناها من ياجور أحمر وقصب، وزودها بما يكفي من كتب ومجلات ونشرات... حرص على أن يطلعني غلى كل محتوياتها مؤكدا على أنه يضعها رهن إشارتي، واقترح علي برنامجا للقراءة. اكتشفت في عبدالسلام الإنسان التقدمي والطالب المثقف وخصال الباحث ورقة المبدع. أتاحت لي صداقته التي تحولت إلى رفاقية عمر، أن أدقق معرفتي بالساحة الطلابية والتيارات السياسية المتنافسة كما أتاحت لي ولوج فاس الثقافية، فتعرفت على فرقة «المسرح» الضاحك» وانخرطت في النادي السينمائي. مع عبد السلام وعبد الوهاب وحسن والتالية ومحسن وأحمد وإدريس وقويدر والبشير ونزيهة ومحمد ورفاق ورفيقات لم تكن ظروف العمل السري تسمح بمعرفة الأنساب والأسماء، كانت البدايات لتشكل وعيي السياسي ولتجربة جيل عشق الوطن ومارس عشقه ذاك وسط عتمة الزنازن وتحت سياط الجلادين، وفي المنافي البعيدة كي يزهر الوطن وتتفتق جراحاته ورودا.