بعد صراع مع المرض، توفي بأحد المستشفيات الخاصّة بالرباط الأستاذ والكاتب والناقد إدريس بلمليح. الذين تعرّفوا على المرحوم بلمليح، يعرفون أنه واحد من الذين حبّبوا لجيلي من الطلبة، منذ بداية الثمانينيات، عشْق الأدب العربي القديم. كان السّياق في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، يمور بالنقاش السياسي والثقافي الذي يستمدّ مرجعيته من الخطاب الماركسي وما ألقاه من آثار على الثقافة والأدب. تشبّع منذ طفولته بالنصوص العربية، فقرأ نصوصا تراثية، كما قرأ للشابي وأعجب به، وكان ينافس طموحه، ثمّ طه حسين. وبقدْر ما تعمق في العربية ازداد عشقه لها، وهذا ما تجسّد في دراسته الجامعية بمدينة فاس. ثمّ أصبح أستاذا جامعيا، واطلع على النصوص العربية القديمة، التي كانت، برأي بعض أساتذتنا، هي المقياس العلمي الصحيح للأستاذ الجامعي. كان المرحوم بلمليح يعتبر الأستاذ الجامعي الذي لا يستطيع قراءة النص العربي القديم لا يستحق هذا اللقب، لأنّ دراسة هذا النصّ قد تكون أفيد للأستاذ من علوم العربية في العهد الحديث. وبموازاة ذلك، كان المرحوم بلمليح يتقن اللغة الفرنسية، وهو الأمْر الذي تجلّى بالخصوص في ترجمته لكتاب «النقد الشعري عند العرب إلى حدود القرن الثالث للهجرة»، والتي فازتْ بجائزة المغرب للكتاب. وقد انعكس هذا الموقف المعرفيّ، ليْس فقط على تدريسه، بل انعكس أيْضا على أطروحته الجامعية «الرؤية البيانية عند الجاحظ»، التي أعدّها تحت إشراف أستاذه الراحل أمجد الطرابلسي، وبعدها دكتوراه الدولة التي أشرف عليْها الدكتور محمد مفتاح، ثم كتاب »المختارات الشعرية وأجهزة تلقيها عند العرب«. كما أشرفَ الراحل على العديد من الرسائل الجامعية. وفضْلا عن النقد والدراسات، أصدر المرحوم بلمليح ثلاث روايات هي: «خط الفزع»« التي طُبعتْ ببيروت، ونفدت من المكتبات، و«»مجنون الماء««، التي نفدتْ بدورها، ثم رواية »»الجسد الهارب«.» وبعد، لا يمكن أنْ يختلف زملاؤه وأصدقاؤه والمقرّبون منه على ما كان يميّزه من دماثة خلق ولطف وأدب وكرم، وبالخصوص ما كان معروفا عنه من ابتعاد عن الأضواء وعدم التهافت. كما يُسجَّل عنه حبّه للمثقفين وتقديره لما يكتبون، وقدْ تجلى ذلك بالملموس بعد أنْ أنشأ مشروعا طباعيّا عائليا بحيْث لمْ يكنْ يتعاملُ مع الكتّاب بمنطق التاجر. رحم الله الأستاذ إدريس بلمليح، ولا شكّ أن الساحة الثقافية ستخسر الشيء الكثير بوفاته المفاجئة.