مات هوغو شافيز فرياس ، هذا هو الخبر . مات شافيز ، وفي أعين الملايين ، فنزويليين ولاتينو أمريكيين ، الذين حلموا معه ، الذين صدقوه وساندوه وحملوه على الأكتاف ، فإن شافيز ، الفكرة ، لا يمكن أن يموت ، لذلك فهم الآن ، وسيظلون ، يرددون تلك الجملة التي قالها نائبه ووريث مشروعه ، نيكولاس مادورو ، فليعش شافيز que viva chavez لكن الحقيقة أنه ابتداء من تلك اللحظة التي أعلن فيها رسميا عن وفاة « قائد الثورة البوليفارية » يحس فقراء أمريكا اللاتينية ، في أحياء كاراكاس وماراكايبو الهامشية ، في الضواحي المنسية لريو دي جانيرو ولا باز ، في التخوم المحاذية لأحزمة الموت ببوغوطا وغواياكيل ، في كل القارة التي حررها بحلم كبير سيمون بوليفار دون أن يدرك أن من سيرثون هذا الحلم سيحولونه إلى كابوس متواصل ، كل هؤلاء يحسون الآن باليتم ، ف« الأب» الذي عمل كل ما في وسعه ليجعل من هذا الحلم ، أو من جزء منه على الأقل ، حقيقة ، لم يعد من هذا العالم. لم يعش شافيز مرارة الفقر والحرمان ، فقد كان محظوظا مقارنة بملايين الفنزويليين الذين كانوا يتأوهون كل لحظة وهم يرون كيف تذهب ملايين البترول الذي تنتجه بلادهم إلى جيوب أخرى ، لقد كان والداه معلمين ، من الطبقة الوسطى ، قضى طفولته في أحضان جدته التي ربته على فكرة سيظل محافظا عليها إلى أن غادر الدنيا : فنزويلا . كان يؤمن ببلده ، وكان البلد بالنسبة إليه هو الشعب وليس فكرة هلامية يستعملها الوصوليون والمنافقون كجواز مرور إلى السلطة . وعندما أراد أن يطلع ويفهم تاريخ بلاده ، سيكتشف أنها ذات يوم أنجبت أعظم شخصية في تاريخ القارة : سيمون بوليفار، الذي يلقب في كل الدول الأمريكية اللاتينية ب« المحرر» el libertador لقد حرر بوليفار القارة من الإسبان ، وكما قال غابرييل غارسيا ماركيز في الرواية التي يحكي فيها عن الأيام الأخيرة من حياة المحرر ، « الجنرال في متاهته» el general en su laberinto ، والذي وافته المنية في كولومبيا ودفن فيها ، فقد استطاع قصير القامة هذا والضعيف البنية أن يحرم إسبانيا من أراضي تساوي خمس مرات مساحة أوروبا ، لكن حلم بوليفار بتأسيس امبراطورية موحدة عادلة يستفيد من خيراتها كل أبنائها ويعم فيها السلم والحب ، سرعان ما تبخر مع الرصاصات الأخيرة التي أطلقها على آخر جندي إسباني فار من أرض المعركة ، وعندما أدرك هوغو شافيز ذلك ، أصر على أن يحقق ما عجز عنه سيمون بوليفار ، وبعد سنوات ، سيطلق على مشروعه اسم « الثورة البوليفارية » أكثر من ذلك سيسمي بلده « جمهورية فنزويلا البوليفارية» ، نسبة إلى الجنرال الخالد الذي كانت صورته تزين مكتبه الرئاسي. في البداية اعتقد أن قوة السلاح كفيلة بأن تعيد ترتيب البيت من الداخل ، ودخل الكلية العسكرية وهو يحمل تراثا بوليفاريا مليئا بالطموح ، ويتطلع إلى مستقبل أحمر بلون الثورة ، ولذلك ، عمل على تكوين خلية سياسية من داخل الجيش ، وتوفرت لديه الأداة التي ستدفع الناس إلى الإيمان به وهو في نهاية العشرينات وبداية الثلاثينات من عمره : القيادة ، وكاريزما نادرة في بلاد لم يعد المواطنون فيها يثقون بالساسة المنافقين والمرتشين . وعندما آمن بأنه قد دقت ساعة الصفر ، قاد وهو في الثامنة والثلاثين من عمره انقلابا عسكريا ضد الرئيس آنذاك ، كارلوس أندريس بيريز ، سرعان ما آل إلى الفشل. لم يكن الفنزويليون يعرفون هذا الضابط في سلاح المظليات الذي سيطل عليهم ليلة 4 فبراير 1992 عبر شاشة التلفزيون عندما قال : «لقد فشلنا...هذه المرة» . كان شافيز أذكى من خصومه ، ولذلك عندما كان قادة النظام يفاوضونه من أجل وضع حد للتمرد العسكري وتفادي حمام دم ، اشترط أمرين لا ثالث لهما ، أن يعامل رفاقه في الانقلاب بكرامة ، وثانيا أن يسمح له بأن يلقي خطابا قصيرا يبث عبر التلفزيون ، كانت لحظات وجيزة تحدث فيها إلى الشعب الذي سيتعرف عليه لأول مرة ، ولكنه كان بمثابة الهزة التي جعلت ملايين الفنزويليين يحلمون معه ،« لقد فشلنا...هذه المرة» ، لم يكن يعني نفسه ورفاقه فقط ، كانت نون الجماعة هذه تعني الشعب المسحوق أيضا ، وبعد سنتين قضاهما في السجن ، وبعد أن ترك الجيش مرغما ، عاد أكثر إصرارا وثقة في أن هذا الشعب قد فهم الرسالة .. كان ذلك صحيحا، فعندما تقدم إلى الانتخابات الرئاسية سنة 1999 ، فاز بأغلبية ساحقة فاجأت أصدقاءه قبل خصومه وذلك في الجولة الأولى دون الحاجة إلى جولة ثانية. كان مشروع شافيز يتجاوز كل الحدود ، كان هو يدرك ذلك منذ البداية ، لكنه ارتأى التأني ، وعندما فاز بأغلبية ساحقة حملته إلى قصر « ميرافلوريس» لم تكن لديه نية في أن يصبح مجرد صورة تنضاف إلى باقي صور الرؤساء السابقين بالقصر الرئاسي ، لقد كان صاحب رسالة ، وكان مؤمنا أنه جاء إلى «ميرافلوريس» ليظل فيه ، وبإرادة الناخبين. سرعان ما أدركت الولاياتالمتحدة أن ظاهرة شافيز وطموحه في نشر أفكاره خارج فنزويلا تهدد مصالحها ، تماما كما يحدث في لعبة الدومينو ، لقد ظلت واشنطن عقودا طويلة تفعل في كل ما في وسعها لكي لا تمتد تجربة كاسترو إلى خارج كوبا ، ونجحت في ذلك ، لتجد الآن كاسترو في ثوب جديد ، أكثر شبابا وإصرارا ، يحكم بلادا أكبر وأغنى وأكثر نفوذا من كوبا. في 2002 ، تمكنت بالتنسيق مع أتباع لها داخل المؤسسة العسكرية من تنفيذ مخطط شبيه إلى حد كبير بمخطط سبق أن نجح في الشيلي ، عندما تمت الإطاحة بالراحل سالفادور ألييندي ، لكن 2002 ليست 1973 ، والشعب الفنزويلي كان أكثر التحاما وإيمانا بالرئيس البوليفاري ، فبعد أشهر من الإعداد للانقلا ب ، وثلاثة أيام للتنفيذ ، لم يحتج الشعب الفنزويلي إلى أكثر من 48 ساعة لإحباط هذا المخطط وإعادة شافيز مظفرا إلى قصر ميرافلوريس. إنه انسان لا يقهر.. هكذا اقتنعت المخابرات الأمريكية . وفي كل الانتخابات والاستفتاءات التي خاضها ، كان يخرج فائزا ، وبدأ يتحقق ما تخوفت منه الولاياتالمتحدة ، انتقال « عدوى التشافيزية» إلى الخارج. لقد تغيرت السياسة ومضمون السياسة في قارة بوليفار ، لم يعد الرؤساء ، أو أغلبهم ، يدخلون القصر الرئاسي ويغادرونه كما لو كانوا في زيارة إلى صالون للحلاقة ، أصبحوا يتحدثون عن مضمون اجتماعي للسياسة ، وظهرت مصطلحات جديدة في القاموس الانتخابي أكثر قوة وفزعا للقوى الرأسمالية العظمى وعلى رأسها مصطلح « التأميم». كان هذا شعار فلاح فقير من أصول هندية في بوليفيا ، إيفو موراليس ، وعامل لم يكمل دراسته في البرازيل ،لولا دا سيلفا ، ومتخصص في الشؤون الاقتصادية بالاكوادور ، رافاييل كوريا ...وغيرهم ، شكلوا بشكل أو بآخر ، واعترفوا بذلك ، امتدادا لمشروع وروح هوغو شافيز. لكن ، ولأن لكن هذه ضرورية كضرورة الماء والهواء للفهم ، كان طموح شافيز الجارف في أن يحقق مشروعه بأي ثمن ، نقطة ضعفه الكبرى أو كعب أخيل القائد. لقد طوع الدستور وفصله على المقاس ليبقى رئيسا مدى الحياة ، قام بخنق المعارضة وحرمها من حقها في التعبير عن سياستها ، أهدر جزءا كبيرا من ثروة البلاد لمساعدة أصدقائه وعلى الخصوص كوبا ، تحالف مع عتاة الدكتاتوريين في العالم لمجرد أنهم ادعوا العداء للأمبريالية وصدقهم الرئيس البوليفاري ، لينحاز إلى القذافي والأسد ، ويتنكر لرغبات وطموح الشعوب في هذه الدول. هل سيواصل نيكولاس مادورو نهج زعيمه الراحل ؟ إنه السؤال الذي يطرح الآن بقوة ، وهو السؤال الذي لن يجيب عنه سوى المستقبل ، لكن المؤكد أن شافيز لن يتكرر ، فقد كان قدره أن يكون متفردا ...وربما بعد سنوات طويلة ، عندما سيقرأ صفحة تاريخه من لم يولدوا بعد ، سيتساءلون : كيف استطاع هذا الحالم أن يأسر قلوب الناس الفقراء والبسطاء وأن ينال عداوة الأقوياء والمحظوظين ، وأن يقسم العالم كله إلى فئتين ، من يحبون شافيز ومن يكرهونه ، لكنهم يتفقون حول شيئ واحد.. لقد كان شخصا لا يمكن تجاهله.