إفلاس الدولة، التمييز ضد الطوارق والتخلي عن شمال البلاد لسيطرة جماعات إسلامية متطرفة كلها مشاكل شكلت التربة الخصبة للأزمة الحالية، وبعد تدخل فرنسا سيتعين إعادة بناء البلد برمته. يشير المقطع التالي من مراسلة لمديرية الشؤون الافريقية والملغاشية بوزارة الخارجية الفرنسية تحمل تاريخ 2012 إلى أن عودة العديد من الشبان الطوارق المدربين على استعمال السلاح إلى مالي، مرتبطة بشكل مباشر بالوضع المتدهور والمواجهات في ليبيا« بعد سنة على سقوط نظام معمر القذافي في أكتوبر 2011، لقد أصبح ثلثا التراب المالي تحت سيطرة الجماعات المسلحة... لكن هذه الارسالية تعود إلى سنة 1991 آنذاك تصاعدت المواجهات بين الطوارق في المنطقة. يقول الموظف أن هذه الرسالة كانت عن إحساس الطوارق بالتهميش وغياب أي سياسة »»بناءة«« من جانب الدولة وأشارت إلى «»طلاق عرقي»« ورفض «للزنوج» من طرف الطوارق المتورطين في تجارة العبيد, ويشير أيضا إلى أن »المسؤولين الماليين أشاروا بوضوح أنه بدون مساعدة من فرنسا لن يكون هناك خلاص«. بعد أزيد من 20 سنة علي هذه الارسالية، وبفضل التدخل العسكري الفرنسي ابتعدت مالي خطوة عن الهاوية التي كان يهدد التمرد بالسقوط فيها، فهل يعيد التاريخ نفسه؟ لاشيء مؤكد، فإذا كانت بعض عناصر الثورة لاتزال قائمة، فإن عناصر أخرى جديدة ظهرت. زيدان آغ سيد العالين, شاهد على هاتين المرحلتين, فهو طوارقي من بلدة جيبوك بضواحي غاو، شارك في تمرد الطوارق سنوات 1990 قبل أن يصبح مستشارا للرئيس ألفا عمر كوناري (1992 - 2002) يقول تمرد الطوارق عرف عدة مراحل، كانت هناك المقاومة التي تم سحقها في بعض الأحيان بقوة أيام الاستعمار الفرنسي وتوازن سنوات 1960 بعد الاستقلال ثم تمردات سنوات 1990 واليوم هناك حركة عصابات سلفية مطبوعة بجهاد اسلاموي سطحي، إنها «ثورة زائدة», فالحركات الطوارقية السابقة لم تكن تهدد فعليا حياة الدولة، لكن رياح أعمال العنف الاخيرة كادت أن تعصف بكل شيء، هذه الرياح انطلقت من بعيد من مرتفعات ايفوغاس في أقصى الشمال المتمرد المحاذي للجزائر وتغذى من ينابع »»الربيع العربي«« لسنة 2011 وانهيار نظام معمر القذافي في ليبيا ومثل العاصفة تغذى من المياه العكرة التي تسبح فيها جماعات المهربين وتجار الممنوعات ومحترفي الجهاد المتمركزين منذ عدة سنوات في هذه المنطقة الصحراوية الشاسعة في شمال مالي الذي تساوي مساحته مساحة فرنسا مرتين ونصف. هبت هذه الرياح على المنطقة وعلى بعد مئات الكلمترات في باماكو عصفت بالرئيس المالي أمادو توماني توري في مارس 2012 وكادت أن تعصف بدولة تحتضر بعد عشرة أشهر. ومع اندلاع هذا الهجوم في يناير 2012 انطلاقا من أقصى شمال مالي، لم تكن الدولة المالية قادرة علي مواجهة الأوضاع، وسقطت كل المدن الكبرى في الشمال (كيدال, غاو، تومبوكتو...) الواحدة تلو الأخرى وتراجع جيش مهزوم ومشتت كل مرة نحو الجنوب ووضع خطير ومهين. وأصبح الوضع فاضحا ,يقول وزير الدفاع السابق في عهد أمادو توماني توري لأن «الدولة لم تعد الدولة الدركي ولا هي الدولة الراعية»، ذلك أن المؤسسات تفككت والعسكري الانقلابي السابق لسنة 1992 الذي عاد على رأس الدولة عن طريق صنادق الاقتراع بعد 10 سنوات، بنى سلطته على »توافق على الطريقة المالية« كما يقال في باماكو, بمعنى آخر نظام يجمع أغلب الأحزاب, أي بدون معارضة حقيقية تكون فيه الكلمة الأخيرة للرئيس أمادو توماني توري. هذا الأخير كان حريصا على إرضاء أكبر عدد ممكن مما غدى داخله »نظاما من الفوضى والتسيب والإفلات من العقاب والفساد وهو ما كان تربة خصبة لتجار المخدرات« كما يشرح محمد وديالي أحد مستشاري المعارض ابراهيم بوبكار كيتا، الوزير الأول السابق والرئيس السابق للبرلمان والمرشح المرتقب لانتخابات رئاسية مقبلة. في الشمال، كانت لهذه السياسة آثار سلبية مضاعفة,. رغم أن أسس تفادي الكارثة كانت موجودة. فالميثاق الوطني لسنة 1992 الذي وضع حداً لتمرد آخر للطوارق، أثمر انسحاباً عسكرياً للجيش من هذه المنطقة التي كانت تسير بنظام استثنائي وعبر تفويض الأمن للأقليات والقبائل المحلية. وبينما لم يكن أي ضابط من الطوارق داخل الجيش المالي سنة 1992 ,كانوا حوالي 200 من المتمردين السابقين المندمجين بشكل سيء بعد 20 سنة. الميثاق تضمن أيضاً شقاً اقتصادياً واجتماعياً موجه لتنمية هذه المنطقة المنسية منذ زمان. ونص أيضاً على مسلسل للامركزية. هذا الميثاق الذي بدأ تنفيذه في عهد الرئيس ألفا عمر كوناري، تلته سنة 2006 اتفاقيات الجزائر الناتجة عن تمرد جديد، تجاهله الرئيس أمادو توماني تورني، واللامركزية بقيت مخططاً على الورق في غياب الموارد المالية. بالموازاة مع ذلك، أصبح الجيش »عبارة عن مجموعة موظفين وليس عسكريين« يتقاضون أجوراً ضعيفة ويعيشون أكثر على التهريب الصغير أو الكبير أكثرمن الاعتماد على أجورهم. في سنة 2012، انسحبوا أمام عدو مجهز ومعبأ بشكل جيد. ويقول دبلوماسي فرنسي: »نبهنا الرئيس توماني ثوري منذ عدة أشهر من مخاطر سياسته، لكنه تجاهل كل التحذيرات... وبعد اندلاع أعمال العنف في بداية 2012، »لم تقم الدولة بأي شيء في الشمال، لأن الاستثمارات العمومية كانت توضع وفق معايير ديمغرافية« (الطوارق يمثلون فقط 4% من مجموع سكان مالي، وهم أقلية في الشمال)... ثم تدخلت باماكو بالاعتماد على العائلات المحلية المهيمنة التي أخذت مكان دولة مفلسة، وبدأت في حفر الآبار وبناء الطرق و المدارس. هذه الزبونية جعلت من هذه العائلات الممرات الضرورية للقوة العمومية. وبالتالي، فإن نفس الأشخاص هم الذين نجدهم في المفاوضات من أجل الإفراج عن الرهائن الغربيين أو في تجارة المخدرات، وهذا الوضع زاد الأمور تعقيداً وعمق الفوارق بما فيها داخل قبائل الطوارق، وبالتالي زاد من الاحتقان والغضب«. هذا الانسحاب من جانب الدولة وفر أيضاً تربة خصبة لتنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي، الذي خلقه الجزائريون الأعضاء السابقون في الجماعة السلفية للدعوة والقتال الذين طردوا من الجزائر بعد حرب أهلية رهيبة. واستقر تنظيم القاعدة بقوة في شمال مالي منذ عشر سنوات وتقوى مادياً عبر تحصيل الفديات من اختطاف الرهائن والمتاجرة في المخدرات. وتحول التنظيم إلى مشغل لليد العاملة بما فيها جزء من الطوارق الذين لهم تقاليد تجارية عريقة في هذه الصحراء الذين يعرفونها أكثر من غيرهم. وارتبطت بها تدريجياً شبكة مصالح إجرامية تلتقي وتتشابك فيها كل جماعات وقبائل الشمال ، الطوارق، السونغاي، المور، الدوغان والمالينكي...) ويلاحظ المراقبون أن »منطقة الساحل منطقة تاريخية للتهريب، ولكنه كان تهريباً معيشياً ودخول المخدرات القادمة من غرب افريقيا، والتي تعبر الساحل لتصل إلى السواحل المتوسطية، غيرت موازين القوة وأعادت تشكيل بنية المجتمع... وبأجر يتراوح ما بين 3000 إلى 5000 أورو خلال 48 ساعة أصبح الطوارق ناقلين أو حراس لقوافل المخدرات، إنها أموال ضخمة مثل سوق ممتاز، وتحولت القاعدة في المغرب الاسلامي الى علامة تجارية مضيئة في سماء الصحراء«. هذه الشبكة المسلحة شكلت قوة حقيقية استطاعت إقبار واحتواء المطالب التاريخية للطوارق. ولابد من النظر لمصير الحركة الوطنية لتحرير أزاواد. ومقاتليها الذين عاد بعضهم من ليبيا الذين كانوا أول من انخرط في الهجوم في بداية 2012، ومطالبهم السياسية المطالبة بالحكم الذاتي ثم بالانفصال بعد ذلك. لم تكن مسموعة في باماكو، لكنها كانت متجذرة في الثورات المتتالية للطوارق. وبسرعة تم طرد الحركة الوطنية لتحرير أزاواد من المدن التي سيطرت عليها مجموعات الطوارق الاسلاميين (أنصار الدين) المرتبطين بالقاعدة في المغرب الاسلامي وفرعها في غرب افريقيا (ميجوا) وأصبحت كلمات التعبئة والشعارات هي «الجهاد» و »تطبيق الشريعة« على كل التراب المالي. وبفضل الأموال المحصلة، أصبحت القاعدة في المغرب الاسلامي والجماعات المرتبطة بها أهم الفاعلين في الشمال، وتغذي أيضاً الجنوب حيث بدأت تنسج علاقات وتواطؤات من خلال جزء من الأموال المحصلة من المخدرات، وأموال القاعدة كانت تغري أكثر من الدين. »فالسلفية نمط غريب عن الطوارق، لكنها أصبحت تحظى بشعبية كبيرة مع موجات »الربيع العربي«. وهي شعبية ستدوم لموسم. لكنها ستتحول عند الطوارق, لكن القلق الاكبر نابع من هيمنة السلفيين في باماكو, حيث يلاحظ وجود للملتحين اكبر مما هو موجود في الشمال. في هذه البيئة المتقلبة نسبيا، عجل مجيء المقاتلين السابقين في كتائب القدافي، العائدين من ليبيا سنة 2011 بعد سقوط القدافي، الذي سبق ان اعلن نفسه في خطاب شهير سنة 1982 المدافع الابرز عن قضية الطوارق, عجل باستفحال الفوضى. ربما لم يكونوا سوي بضع مئات ممن عادوا - 400 حسب بعض المصادر - عدد قليل لكنهم كانوا ليتمكنوا من زعزعة مجتمع فيودالي يتفكك نظامه بالضرورة بفعل الصراعات الداخلية والتمردات الخاسرة عبر الزمن والجفاف القاتل والمدمر لهؤلاء الرعاة التاريخيين لقطعان الابل والاغنام والابقار. هؤلاء المقاتلون في الكتائب الاسلامية الذين احيوا الصراع المسلح الذي لا تستطيع الزوايا التقليدية للطوارق حتى لو أرادت منعه. بضع مئات من المقاتلين عدد قليل, ولكنه كاف لدحر وطرد وحدات جيش مالي المفكك, كاف أيضا لاسقاط نظام يحتضر في باماكو بدليل انه تمت الاطاحة بالرئيس امادو توماني توري يوم 22 مارس 2012 من طرف ضابط عسكري بدون رتبة عادية هو الملازم سانوغو ملازم.يؤاخد على الرئيس مساهمته في ادخال البلاد في فوضى وهو محق في ذلك. ولكنه عسكري يزعم انه قادر على إعادة تنظيم الجيش لاستعادة السيطرة على الشمال. رئاسته للبلاد كانت لمدة قصيرة لم تتعد 15 يوما. و تحت ضغط فرنسا ودول المنطقة اضطر إلى تسليم زمام الامور الى سلطة مدنية انتقالية، لكن قدرته على التأثير والفعل ظلت قائمة لفترة طويلة. خلال الاشهر الأخيرة، ارتكز سانوغو في باماكو على جزء من الشارع المالي مستغلا الوتر الوطني والقومي ,معلنا معارضته لتدخل دولي , وزعزع التوازن السياسي الهش وحرض على الاعتداء على الرئيس الانتقالي ديونكوندا تراوري الذي تعرض للضرب والجرح. وبدل كل جهده من اجل نسف تنظيم حوار وطني, وسار في نفس اللعبة حتى تاريخ 10 يناير، اليوم المشؤوم لا محالة امام طموحات هذا الرجل الذي يجب ان يتصور نفسه في لباس «دوغول مالي»«. في ذلك اليوم - 10 يناير - خرقت الجماعات المسلحة وقف اطلاق النار الافتراضي القائم منذ عدة اشهر وعجلت بذلك تدخل فرنسا العسكري ونش.ر قوة عسكرية افريقية كانت تتشكل منذ بداية الازمة ويبقى الآن كيفية الخروج من هذه الازمة الاخطر التي تعيشها منذ استقلالها سنة 1960 ,فرحيل الجماعات الاسلامية عن أهم المدن في الشمال. والخسائر التي يبقى مداها غير محدد حتى اليوم، لا تؤشر على النصر. بل اكثر من ذلك لا تؤثر على انتعاش مؤسسات مالي كدولة مهمة ضخمة. فبعد استعادة السيطرة على الوحدة الترابية للبلد. لابد من المرور الى إعادة البناء التي تمر بالضرورة عبر مسلسل انتخابي عادل وشفاف في غضون بضعة اشهر (يجري الحديث عن يوليوز) ويتضمن بدء حوار مصالحة مع بعض القبائل والاقليات في الشمال لكن من هو المحاور؟ مع ما يحمله ذلك من مخاطر تأجيل البحث عن حل لمشكل الطوارق مرة اخرى, انها قصة معقدة عابرة لعدة دول, فالطوارق في موطنهم في شمال مالي, يمكنهم ان يدوبوا في نظامهم البيئي والطبيعي لمدة شهر، سنة اوسنتين تم يستيقظوا بعد ذلك، وطائرات الرافال الفرنسية لن تستطيع شيئا. ترجمة محمد خيرات بتصرف عن لوموند