يطرح الفيلم الوثائقي «تنغير جيروزاليم.. أصداء الملاح»، الذي أخرجه المخرج المغربي الشاب كمال هشكار (من الجيل الثاني للمهاجرين المغاربة بفرنسا)، أسئلة جدية حول موضوع شديد التعقيد هو «ذاكرة اليهود المغاربة بفلسطين». وهي أسئلة، أكبر من الضجة التي أثيرت حوله بالدورة الجديدة للمهرجان الوطني للسينما، وهي الضجة التي حجبت السؤال الفني الواجب أن يصاحب عددا من الأفلام المغربية المشاركة بطنجة، سواء في الفيلم الطويل أو القصير، وهي أفلام ممتازة فنيا، وجعلت الدورة هذه كما لو أنها فقط «دورة كمال هشكار». هل هذا يعني أن الموضوع لا يستحق كل هذا العناء الإعلامي المثار؟. الحقيقة أنه يستحق، أولا لجرأة الفكرة وجرأة الطرح. وثانيا لأنه موضوع يترجم واقعا مغربيا، لا يحق لنا قط التغاضي عنه أو محاولة حجبه وتجاوزه. فالذاكرة اليهودية المغربية، ذاكرة خاصة وشديدة التعقيد، ولا نظائر لها في كل العالم، بسبب أن المنجز المغربي في هذا الباب على امتداد عمر دورة حضارية كاملة يجعل من تلك الذاكرة عنصر إغناء. لكن قبل ذلك، لا بد من التساؤل جديا: ما هي المقاييس التي يجب أن نقارب بها منجز كمال هشكار؟ هل هي أسئلة المقاربة الفنية أم أسئلة الرسالة السياسية؟. الحقيقة، أن كل رؤية فنية هي اختيار، وأن عرضها على العموم هو الذي يخلق التأويل بعد ذلك. ولا تهمني جديا خلفية المخرج الثاوية في وعيه الشخصي كمواطن مغربي أمازيغي مهاجر (أو لا وعيه)، بقدر ما تهم القيمة الفنية للعمل ثم موضوعته. وهنا فالمقاربة لا يجب أن تكون مؤطرة بحكم مسبق، قد لا يخدم غير أغراض من يحاول «الصيد في الماء العكر» للإساءة لصورتنا الجماعية حقوقيا كمغاربة. بقدر ما يفرض الشرط الفني والحقيقة التاريخية، مقاربة الموضوع بالهدوء الواجب للقراءة المحللة المنتصرة للحق في التعبير وأيضا للحق في عدم الإساءة لذاكرتنا المغربية الجماعية، وبذلك نكون فعليا، في تصالح مع التزامنا بعدم الإساءة للمبدئي في عدالة القضية الفلسطينية. الحقيقة أن مغامرة كمال هشكار تعكس واقعا اجتماعيا كامنا في شساعات عدة بالجنوب المغربي الأمازيغي والصحراوي، في العلاقة بالذاكرة اليهودية المغربية، لا نظائر له في باقي التجارب اليهودية المغربية (وبالاستتباع في التجربة اليهودية بالعالم). لأنها تجربة اجتماعية منخرطة في ما يمكن وصفه بالفضاء القروي (كوحدة لإنتاج معان اجتماعية وسلوكية) مختلف عن التجربة الاجتماعية المدينية. بل إنه حتى فكرة «الذمي» قد كانت متحققة عند النخب المدينية بالمغرب تاريخيا، مع تسجيل استثناء خاص لتجربة مدينة الصويرة وقبلها بقرون تجربة مدينة آسفي، أكثر مما كانت متحققة بذات الصرامة في المناطق البدوية بقرى الجنوب المغربي، سواء في أعالي الأطلس المتوسط والكبير والصغير، وكذا في التخوم الصحراوية الممتدة على شريط وادي درعة (أطول أنهر المغرب جغرافيا). ولعل ما يثير هنا أكثر، أن المنجز الفقهي اليهودي المغربي قد ولد أساسا في تلك الجغرافيات الاجتماعية الجنوبية وليس في الجغرافيات اليهودية المغربية المدينية. ولقد كان الراحل إدمون عمران المليح، قد نبه من قبل للدور الذي لعبته مدرسة «أقا» بإقليم طاطا اليهودية المغربية في الفقه والتشريع اليهودي بالعالم، وأنها اليوم مذهب قائم الذات ومرجع له أتباع عبر العالم. ولعل المغري بالتأمل في تلك الذاكرة والتجربة الحياتية المغربية بالجنوب، هو حجم التعايش الذي تحقق ثقافيا وإنسانيا واجتماعيا بين المغربي المسلم والمغربي اليهودي هناك، قبل أن تفعل الحركة الصهيونية فعلها وتجتث ذلك البنيان الاجتماعي في صفقات سياسية لم تعرف تفاصيلها كاملة قط إلى اليوم. إن ذاكرة تنغير بهذا المعنى، ليست سوى جزء من هذه التجربة المغربية اليهودية البدوية، التي تختلف عن تجربة مدن النخب الحاكمة في فاس ومكناس والرباط ومراكش، على مدى قرون (ولابد من التسطير أن معنى الاختلاف هنا ليس معناه المفاضلة بين التجربتين) وهنا أفهم معنى الخلفية الثقافية المحركة للمخرج المغربي المهاجر الشاب كمال هشكار، التي هي محاولة مساءلة ذلك الإرث المغربي في غناه الحضاري المميز، الذي هو أقدم بكثير عن ميلاد الحركة الصهيونية وعن جريمة اغتصاب فلسطين والقدس. ولعل ما يثير في تلك التجربة المغربية هناك، في تلك الجغرافيات البدوية الشاسعة، ذلك الحضور الطاغي للثقافة المغربية اليهودية في التجربة الاجتماعية لمغاربة الأعالي ومغاربة تخوم الصحراء. بدليل ما تثيره عدد من التسميات والطقوس من قلق السؤال المعرفي الباحث، من قبيل أسماء «آيت داوود» و»آيت إسحاق» وآيت عمران» و»آيت يعقوب» و»آيت هارون»، وهي كلها قبائل مغربية مسلمة. بل هناك أضرحة ومواسم لفقهاء مغاربة مسلمين أسماؤهم تحيل على رسل وأنبياء الديانة اليهودية مثل موسم «ثلاثاء يعقوب» الشهير بتالوين وغيرها كثير. بل إن العديد من المناطق تحمل أسماء يهودية مثل «آيت عمران» و»آيت أوبيال» و «آيت موسى». وأن العديد من الأشخاص المغاربة المسلمين يحملون أسماء يهودية مثل موسى وهارون ويعقوب. بل وأن بعض الأسماء اليهودية في العالم هي مغربية أمازيغية صرفة ولا نظائر لها في كل الشتات اليهودي، من مثل «أزولاي» التي تعني صاحب العيون الزرق والوسيم أيضا. وكلما انتقلنا باتجاه الشمال وباتجاه المدن كلما تراجعت هذه الأسماء بين المغاربة المسلمين وبقيت محصورة بين المغاربة اليهود بالملاحات. ويمكن هنا الإحالة على الأبحاث اللسانية العلمية القيمة التي أنجزها الباحث الأكاديمي المغربي محمد المدلاوي حول دلالات الاسم في التجربة اليهودية المغربية. بهذه الخلفية، أرى للفيلم الوثائقي «تنغير جيروزاليم»، الذي همني فيه معرفيا مدى ما ترجمه من حقيقة تلك الذاكرة المغربية اليهودية وأنه لم يتجن عليها ولم يوظفها سياسيا لخدمة القضية الصهيونية. ولقد نجح فنيا في أن يعكس تجربة إنسانية مغربية تعرضت لجريمة السياسة.