عندما أفكر في المسألة التنظيمية، وأضعها على محك النقد والمناقشة، تحضرني فوراً تلك المقولة الشهيرة والعميقة للمفكر الماركسي «لوكاتش»: «التنظيم شكل التوسط بين النظرية والممارسة». رب قائل، إن هذا «التعريف» يخص الحزب الماركسي، وإن النظرية المقصودة فيه هي الماركسية، أو هي الماركسية في تطبيقها المحلي. وبالتالي، فهو تعريف قاصر ولا يصدق على كل الظاهرة الحزبية بكل ألوانها وأزمنتها وأمكنتها. ولا ينسجم، بالأولى والأحرى، مع تخلي معظم الأحزاب القائمة اليوم عن تقيدها بالأيديولوجيا، واكتفائها بالبرامج البديلة القصيرة الزمن عماداً لقوامها التنظيمي. ليس غرضي، هنا، لا تحليل المقولة السابقة لدى صاحبها، ولا الرد على الاعتراضات الممكنة عليها. ومع ذلك، لا يفوتني التنبيه إلى أمرين، لعلهما كافيان، من وجهة نظري، في الوصول إلى مبتغاي. الأمر الأول، إن كل حزب، حتى ذاك الذي لا يتبنى رسميا أيديولوجية معينة، وذاك الذي لا تنطبق عليه كل معايير الحزب الحديث، إلا ويحمل غايات وثقافة، معلنة أو مستبطنة، تحكم أشكال تنظيماته وممارساته. ومن هذه الوجهة، تظل المقولة السابقة صحيحة في عموميتها وإطلاقيتها. والأمر الثاني، وقد يكون زعماً مني، أني وجدت في التحليلات الماركسية، المتعددة التلاوين والمدارس، ما يمكن اعتباره «نظرية في الحزب»؛ بينما لا تجد في القراءات الليبرالية إجمالاً، سوى استخلاصات وأحكام وصفية للظاهرة الحزبية. ولا عجب في ذلك، لأن التجارب الحزبية الاشتراكية في مراحل تأسيسها، هي التي كانت بأشد الحاجة (ومازالت) إلى تفكير تنظيري نقيض جذرياً للنظام الرأسمالي، بما يُلبِّي غاياتها في التحرر الإنساني الشامل. فكان لابد لها من التفكير في مجموع علاقات الحزب الداخلية، في بنيته الاجتماعية وضوابطه وأخلاقياته وأساليب عمله، وفي علاقاته الخارجية تجاه الدولة وأشكال السلطة القادمة، وتجاه الطبقة العاملة والطبقات الأخرى، والنضال النقابي والسياسي، والثورة والإصلاح، والعديد من القضايا المتفرعة والمتداخلة مع هذا الموضوع. الأمران السابقان مهمان لموضوعنا هذا. فالأول، وعلى بساطة وبداهة حيثيته، يضرب في الصميم التصور التنظيمي الذي يتوهم أنه قد برأ من الإيديولوجيا؛ وأن المسألة التنظيمية لا تعدو أن تكون مجرد عمليات تقنية لا غاية لها سوى النجاعة البراغماتية السياسية والانتخابية أساساً. والثاني، يفيدنا في الجهتين: في جهة أن الحزب الاشتراكي، بالذات، وبرسم ماهية مشروعه الإنساني التحرري الشامل، لا يمكنه إطلاقاً أن يستغني عن النظرية في ممارساته وبناءاته التنظيمية. وفي جهة، أن التراث النظري الاشتراكي في هذا الميدان، وفي غيره، لا يمكن الاستغناء عنه، هكذا وبجرة قلم، بل ينبغي استيعابه وإنماؤه وتجاوز مواطن الضعف فيه، وإعادة استنبات البذور النظرية الصالحة فيه في عملية التراكم النظري الموائمة لخصوصيات واقعنا وعصرنا. وها نحن قد وصلنا إلى بيت القصيد، كما يقال؛ فالتجربة التنظيمية اليسارية، كانت ومازالت، إما مقلدة لأشكال تنظيمية جاهزة، وإما تجريبية براغماتية بحتة. وأستثني من هذا الحكم لحظة تنظيمية فريدة مرَّت بها التجربة الاتحادية في منتصف الستينيات، فيما سمي آنذاك ب «المذكرة التنظيمية». كما لا يسعفني المجال للحديث عن تجربة تيار «23 مارس» و«منظمة العمل» في جانب الفكر التنظيمي على الأقل. ليست استثنائية اللحظة الاتحادية في ما جاءت به المذكرة من أشكال تنظيمية تبنت بالإجمال «النموذج التنظيمي الماركسي»، بل لأنها شكلت لحظة نوعية في الوعي الحزبي الجماعي، تكاملت والتحمت فيه الإيديولوجيا بالتنظيم والممارسة والاستراتيجية السياسية. فكانت بحق لحظة تنظيمية وثقافية بامتياز. وما عدا هذه اللحظة، فإن الوعي التنظيمي السائد، اليوم، يجنح عفوياً إلى اللبرلة المتسارعة، إن لم أقل إلى «التسيب الليبرالي المتسارع»، وحيث لا تتعدى المسألة التنظيمية نطاق المعالجات التقنية وبقيم يحكمها التموقع الانتخابي... أما الباقي فليس إلا تفاصيل ثانوية وعابرة. لنأخذ، على سبيل المثال لا الحصر، الواقعة التنظيمية التالية: لقد تخلت الأحزاب اليسارية، في معظمها، عن المبدإ التنظيمي التقليدي المعروف ب «الديمقراطية المركزية» أو «المركزية الديمقراطية». والعيب ليس في التخلي بحد ذاته، فالتعبيرات اللفظية ليست هي الهامة في الموضوع، وإنما الفهم والفكر اللذان يخفيهما هذا التخلي الصامت أو الاستبدال إن كان. لن تجد في هذا المضمار ولا وثيقة واحدة ويتيمة لدى أي حزب، تبين وتفسر الخلفيات الفكرية لهذا التخلي، ولا التبريرات المقابلة التي تسوغ بديله، إن بقي هناك ناظم تنظيمي مبدئي وكلي يعوض ويعادل مبدأ «الديمقراطية المركزية» في عقلنة العلاقات الداخلية والحركة التنظيمية في مجموعها. هل مرد ذلك إلى نقص في الشجاعة الفكرية، أم أن مرده إلى الاستهانة بالفكر كمقوم ومرشد للعملية التنظيمية؟ الأرجح لدي أن التعليلين معا كانا حاضرين.. والحصيلة المؤكدة لتغييب الفكر في الممارسة التنظيمية، ستكون بالضرورة لصالح غلبة العشوائية والتجريبية العمياء، والتفكك الداخلي، والعقم التنظيمي إجمالاً. ثمة مفارقة أخرى يمكن لأي فاعل، عن قرب، أن يتعرف عليها بدون مشقة فكرية؛ ذلك أن المسألة التنظيمية، في الوعي اليساري عامة، لا تجد لها استقلالية نسبية في الممارسة الحزبية، تستحق بسببها أن توضع أحيانا كأولوية الأولويات في ظرفية معينة. وذلك لأن الوعي اليساري عامة ينحو، في هذه المسألة، نحو تذويب المسألة التنظيمية في حالة الفشل أو العجز في المسألة السياسية الأكبر. وبالرغم من صحة هذا الربط من وجهة مبدئية، إلا أنه ليس سليماً مطلقاً وفي كل الظروف، بل قد تكون المعالجة التنظيمية، أحيانا، هي المدخل الموضوعي لتصويب وتفعيل الخط السياسي نفسه. إنها علاقة جدلية وليست علاقة إدغام وإلحاق وإذناب، كما يبدو ذلك في ثوابت الوعي التنظيمي اليساري. وإن كنت قد نوهت سابقاً بلحظة المذكرة التنظيمية الاتحادية، وبخصوص أنها كانت لحظة تنظيمية وثقافية بامتياز، وباعتبارها كانت لحظة التحام في الوعي الجمعي بين الإيديولوجيا والاستراتيجية والممارسة والتنظيم، فلأنها أيضا كانت لحظة تمثُّلٍ لأولوية المسألة التنظيمية، ولمحوريتها المستقلة والفاصلة. ولعل قبول اليسار الاتحادي، وقتئد، بفترة هدنة مع الحكم في المفاوضات التي أُجريت معه حينذاك، كان دافعه الأساسي اقتناصاً للوقت الممكن، في أجواء الهدنة، من أجل إعادة هيكلة الحزب، وإعادة بناء جسوره الصلبة مع قواعده الاجتماعية، وخاصة منها الطبقة العاملة وشبيبة تلك المرحلة. ويعبر هذا السلوك السياسي الاستثنائي عن مدى الوعي باستقلالية المسألة التنظيمية، وأولويتها كمدخل ضروري لإحداث كل التغييرات الإيديولوجية والسياسية التي ستأتي لاحقاً، ولو بعد تعثرات وأزمات أخرى. أليس في الوضع الراهن لليسار ما يشبه حاجات منتصف الستينيات؟ أليس في الوضع الذاتي لليسار ما يجعل المسألة التنظيمية ذات أولوية راهنة، ومن بينها وحدة تنظيماته الحزبية المتعددة، وإعادة هيكلة قواعده الاجتماعية؟ الظن عندي، أن «اليسار ومستقبل العمل السياسي» الذي اختارته مجلة النهضة عنواناً لعددها الحالي، سيتوقف على مدى وعيه بأولوية المسألة التنظيمية، وعلى قدرته على مجابهة أسئلتها وتحدياتها. سأقدم في هذا الشأن، تصوراً عاماً، أحسبه مطابقاً لما ينبغي أن يكون عليه الحزب اليساري اليوم. ولا أخفي أن هذا التصور العام زدت قناعة به، بعد حضوري للمجلس الوطني الأخير(30 شتنبر 2012) للاتحاد الاشتراكي، وسماعي للعديد من المداخلات السياسية والتنظيمية، ومنها مقترح المُسَوَّدَة التنظيمية التي تم عرضها. ما أنتقده في الجانب التنظيمي (والسياسي أيضاً) النقص الشديد في الخلفية التوجيهية التي ينبغي أن تشكل روح أي مشروع تنظيمي جديد، خاصة وأن الحزب بات في موقع المعارضة. والسؤال كبير، أيضا، حول أية معارضة نريد؟ إذ كان ولابد من أن تستحضر المناقشات والمشروع التنظيمي الأسئلة المؤطرة التالية: ما هي طبيعة الحزب الاشتراكي؟ ما هي طبيعة المرحلة، وما هدفها النضالي المركزي؟ أسئلة، ضابطة، وموجهة، وفاصلة. إنها روح العمل التنظيمي قبل أية تفاصيل تقنية، بل على أساسها وبروحها يقنن كل الباقي... - أولاً: الطبيعة الاشتراكية للحزب. لن يغيب عنا قطعاً، أن الاشتراكية، في الزمن الجاري، بعد التآكل الذي أصابها، وفي ظل التحولات الكبرى والمتسارعة التي شهدها عالم اليوم، أضحت هي نفسها سؤالاً محيراً. وبتعبير أدق، فقدت الاشتراكية ذلك النموذج المعياري، في النظرية وفي الواقع، الذي كان يُركن إليه ويقاس عليه. إن جل مفاهيمها التأسيسية الأصلية غدت مدار جدلٍ ومراجعة وتحويرٍ ومواءمة مازالت لم تختمر بعد في تصورٍ جامع لحركة اجتماعية كونية بديل. ومع ذلك، فالإيديولوجية الاشتراكية لم تمت، ولن تموت.. مادام شرطها التاريخي قائماً. ومادام نصلها النقدي للنظام الرأسمالي، وفي كل أوضاعه الليبرالية المختلفة، مازال هو الأمضى والأقوى علمياً، والأكثر جذرية إنسانياً. ولأنها، في مسارها المتعثر هذا، صارت أكثر تحرراً من القيود الدوغمائية التي أسرتها في الماضي؛ وإن كان ذلك لا يعفينا من إعادة النظر في مجموع الشروط التاريخية، الموضوعية والذاتية، في الفكر والممارسة، التي ساقت الاشتراكية «حتماً» إلى ما هي عليه في وضعها الراهن. لقد بات مطلوبا من الاشتراكيين أن يبدعوا المهام والأشكال التحررية الانتقالية الموائمة للغايات الكبرى للاشتراكية. غايات كبرى تسكن وجدان الإنسانية المقهورة، والمستغلة، المضطهدة والمقصية والمهمشة في كل أمكنة المعمور. أن تكون تلك هي النسبة الأكبر والأعظم في عالم اليوم، وأن يكون الهدر البشري والبيئي العنصر الثابت في بقاء النظام الرأسمالي وفي تخطيه لأزماته الدائمة، فهذا لوحده كاف للتدليل على موضوعية وتاريخية الأفق الاشتراكي. تحاشيت، في كل الإيماءات العامة السابقة، القيام بتحديد مفاهيمي عياني لماهية الاشتراكية، وذلك، لأني أحسب هذا العمل عملاً جماعياً ينتظر جهود كل الاشتراكيين في مهامهم الدائمة. لكن إذا كان ولابد من تعيين إيجابي يوضح مقاصدي، ويُطَمْئِنُ القارئ على وجهة مَّا في هذا الاختمار الفكري الجاري، فإني سأقتبس «فكرتين» من كاتبين ومفكرين عربيين؛ الأولى ل «د. فالح عبد الجبار»، والثانية ل «د. ماهر الشريف» (في كتاب، نحو تجديد المشروع الاشتراكي: بحوث ومناقشات، مهداة إلى مهدي عامل]. (الاشتراكية تعني) الخروج من عالم الضرورة إلى عالم الحرية على أساس تطور قوى الإنتاج تطوراً هائلاً يشبع حاجات المجتمع. الاشتراكية تبرز باعتبارها نتاج سيرورة طويلة تسعى إلى تحويل التنظيم المجتمعي تحويلاً عميقاً، بما يضمن في نهاية المطاف، تجاوز الرأسمالية تجاوزاً جدلياً، وجعل التقدم الكبير الذي حققه الإنسان في ميدان العلوم والمعارف والتقنيات متوافقاً مع تقدم حضاري باتت البشرية في أمس الحاجة إليه. ليس كل غرضي، من المقدمات السابقة، أكثر من إبراز ما يترتب عن طبيعة الحزب الاشتراكي على مستوى هويته التنظيمية. وفي هذا الصدد، وبصرف النظر عن تنوع وغنى التجارب الحزبية الاشتراكية، وتلاوينها الفكرية المختلفة في شأن «نظرية الحزب» وإشكالاتها العديدة والمتنوعة، أرى من بين ذلك الرصيد الثري أن أبرز قضية واحدة: إن الحزب، في المنظور الاشتراكي، لا يمكنه أن يتخلى عن طبيعته ك «مثقف جماعي». ومن نافلة القول، أن هذا التعبير هو من إبداع المدرسة الشيوعية الإيطالية، وفي مقدمتها مفكرها الرائد أنطونيو غرامشي. وتجاوزاً لهذه الخصوصية، يظل من الصواب التشديد على هذه الطبيعة لكل حزب اشتراكي أصيل، وبالخصوص في مجتمع متأخر. إذ يمكننا أن نتصور، كما هو واقع الحال، ألا يلتزم حزب ليبرالي بمرجعية إيديولوجية مَّا، وأن يكتفي بما يقدمه لناخبيه من برامج إجرائية مصلحية ومرحلية، تكون هي أساس قوامه التنظيمي والجماهيري، ولكن لا يمكننا أن نتصور نفس الأمر لحزب اشتراكي أصيل، لا يضع «جبهة النضال الثقافي» من جبهات نضاله الشامل من أجل المجتمع الاشتراكي. والخلاف بين الوضعين يكاد يكون بيناً؛ لأن الحزب الليبرالي، سواء كان في بلد متقدم أو كان في بلد متخلف، يمكنه أن يعول على تلقائية الإيديولوجيا السائدة، وخاصة منها تلك التي تفرزها آليات وعلاقات الإنتاج الرأسمالي، ولا سيما منها الاستلاب الاقتصادي. أما الوضع الآخر فهو على النقيض التام لتلك التلقائية. إن الاشتراكية، وإن كانت مشدودة لتطورات الممارسة في مجالاتها الثلاثة [الصراع الاجتماعي، والقوى المنتجة، والعلم والمعرفة المكتسبة]، ففي حاجة دائمة إلى إنضاج الوعي بها من خارج العلاقات الاجتماعية السائدة وإفرازاتها الاستلابية المتنوعة. وإذا صح ما أتينا به من استنتاجات، فإن السؤال يكون حينئذ، كيف نبدأ (؟) وتاريخ الاشتراكية في بلدنا في أوجه لم يعمر طويلاً، ولم يخلف وراءه على المستوى الفكري الشيء الكثير. والأدهى من ذلك، أن جيل شباب اليوم لم يكن، في زمن المد الإيديولوجي للاشتراكية في الستينيات والسبعينيات، في العمر الذي يؤهله ليعيش ويتغذى ثقافيا من ذلك المد. (؟!) ليس من جواب سحري يجعل من اليسار، وبدفعة واحدة، «مثقفاً جماعياً»: بما يتضمنه هذا المعنى من تناغم ثقافي وإيديولوجي (ولا أقول الوحدة الصخرية الإيديولوجية) جاذب وفاعل وقريب من الناس. لقد دعت المسوَّدة التنظيمية «للاتحاد الاشتراكي» إلى ضرورة العناية بعمل المؤسسة الاشتراكية، وإلى عقد «جامعات صيفية»، وإلى تأسيس منظومة إعلامية تواصلية متكاملة، وتجويدها، لما تقوم به منظومة الإعلام والتواصل في عالمنا المعاصر من أدوار ضخمة في التنظيم والتعبئة والدعاية. ولاشك في أن هذه المقترحات عملية ومفيدة، ويمكن توظيفها في إنجاز المبتغى. إلا أن الإشكالية الحقيقية لها علاقة صميمية بإيديولوجيا الحزب الملموسة وليس المعلنة وحسب. وفي هذا، أكاد أقول، إن الحزب (واليسار عامة) في حاجة ماسة إلى إعادة الاعتبار للإيديولوجيا الاشتراكية، وبالتحديد، لتراثها النظري كمنطلق لابد منه من أجل إعادة بناء منظورات وثقافة الحزب (واليسار) الاشتراكي. وبكيفية أخرى، وقياساً على التعبير المأثور للفقيد محمد عابد الجابري، لابد في المنطلق من «الانتظام» في هذا التراث النظري الاشتراكي، إضافة لما طالب به الجابري من انتظام في التراث الإسلامي. وغني عن القول، إن «الانتظام» لا يعني الاجترار والتكرار، وإنما التواصل النقدي التأسيسي والمعاصر. المعضلة الكبرى، في أن اليسار قفز في فراغ مهول من الاشتراكية إلى الحداثة والليبرالية بلا جسر عبور بين المنظومتين! فكان أن ضيع الإثنين بسبب الوقوع في التيه، والشعاراتية، وفقدان الهوية، والتفكك الأيديولوجي! عندما نمتلك نفس الإدراك، وعندما يعي اليسار خطورة معضلته تلك، وعندما يتخذ القرار الجماعي الفكري/السياسي في هذا الشأن، وعندما يتم تبني هذا الخيار، فلن تعوزنا آنذاك الوسائل والخطط التي من شأنها أن تضع خطواتنا الإيديولوجية على هذا الطريق الوعر والطويل بلا أدنى شك. - ثانياً: طبيعة المرحلة وهدفها المركزي. أثار تعبير «الانتقال الديمقراطي»، في توصيف المرحلة الجارية، جدلاً واسعاً وعقيماً، بسبب الخلط اللاواعي بين الغايات والوقائع والواقع، وبين التكتيكات المختلفة لدى اليسار وما يمكن أن يشكل وحدته الاستراتيجية. ولأني لست من عشيرة عبدة »أصنام اللغة«، فلن يعيقني اختيار أي مصطلح آخر مناسب لما نريده ونتعقله. غير أني أرى أن تعبير «الانتقال الديمقراطي» ليس إلا اشتقاقاً من المعطيات التاريخية الموضوعية، يحدد الوجهة العامة والغايات الكبرى التي نريدها نحن للمرحلة، والتي نناضل من أجلها. إنه، إذن، تعبير استباقي يتحدث عن الغايات الكبرى، لا عن تصوير فوتوغرافي لواقع قائم. إنه إمكان في الواقع، وليس الواقع كلَّه. ومن هذه الزاوية في النظر، وهي من التقاليد الاشتراكية في تحديد طبيعة أية مرحلة، يظل مصطلح «الانتقال الديمقراطي» إطاراً تاريخياً مشتركاً لنضال اليسار، كيفما اختلفت تكتيكات تنظيماته، وكيفما تمايزت تأويلاتها السياسية الآنية والظرفية لبعض الوقائع والأحداث. وبهذا الفهم، أزعُم أنِّي كنت من القلائل ممن أعطوا للانتقال الديمقراطي مدلولاً يأخذ بالأهداف الكبرى، التي تجعل من الانتقال نقلة تاريخية بحق، تُركب، وعلى خلفية اشتراكية، بين الإصلاحات الليبرالية وبين المضامين الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التقدمية. ولكي أختزل الحديث في ما أراه لطبيعة المرحلة الموصوفة بالانتقال الديمقراطي، سأنقل حرفياً ما كنت قد قدمته في ورقة سابقة لي: «منذ بدء حكومة التناوب التوافقي، أعطينا للانتقال الديمقراطي، في تعريف بالسلب (إن صح هذا التعبير)، مضامينه الشمولية، أي، العمل على اقتلاع كل العوائق السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية المانعة لنمو التطور الديمقراطي ولاستقراره وتجذره. ومن هذه العوائق: - طبيعة الاقتصاد الوطني الهش والمفكك والتابع، والواقع في رتبة متخلفة ومتأخرة في منظومة التبادل العولمي. - منظومة اقتصاد الريع، وعلاقات المحسوبية والزبونية والرشوة، وكل أنواع الفساد... - خلل مؤسسات القضاء في استقلاليتها وعدالتها ونجاعتها. - هامشية المؤسسات المنتخبة في النظام السياسي، ولدى الوعي الشعبي في صراع المصالح الاجتماعية والسياسية. - الاختلالات الكبرى في التوازنات الجهوية والاجتماعية، وفي مؤشرات التنمية البشرية. - وضعية اللامساواة التي تعاني منها المرأة في المجالات كافة. - الثقافة التقليدية السائدة في المجتمع. - فوضوية السياسة اللغوية. وهكذا، يكون كل تقدم نوعي في فك المعضلات السابقة، يخدم جدلياً، بلا ترتيب وبلا حد زمني مسبق، إقامة النظام الملكي البرلماني...». وبعد هذا التذكير بطبيعة المرحلة بوجه عام، والتي تفصح من ذاتها عن أن معظم مهامها وغاياتها الكبرى مازالت أمامنا، وتنتظر من اليسار شغلاً كثيفاً ومضاعفاً غير ما تقدر عليه تنظيماته الحالية المشتتة... (بعد هذا التذكير)، لا يمكن الحديث عن طبيعة المرحلة دونما إدخال الدور النامي والممكن في حساباتنا الاستراتيجية، والذي أشَّرت عليه الحركة الجماهيرية العفوية والمستقلة في بلدنا، وفي بلدان عربية أخرى. ولقد رأينا كيف أن بعض المثقفين ذهب بعيداً في قراءته لهذا الحراك الشعبي العفوي (وبقيادة شبيبية غير حزبية في الأغلب) إلى استنتاجات تعيد إلى الأذهان تجارب سابقة في «تقديس العفوية»، وتبخيس الحزبية، جاعلاً من «العفوية» استثناء عربياً مبهراً في مفاهيم الثورة ونظرياتها. غير أن السيرورة أثبتت في مجملها بطلان هذا الزعم. بل، وعلى العكس من ذلك، إذا كان هناك من درس بليغ أكدته تجارب الحراك الشعبي العفوي، ثورة أو إصلاحاً، فالدرس كان في أن العفوية لا تحصد في النهاية إلا ما تقدر عليه قوة أحزابها السياسية. أي أن محصلتها تكون على قدر علاقة التناسب بين الوعي البرنامجي المستقبلي، والمنظم حزبياً، وبين الوعي الشعبي العفوي. ويدرك من له بعض الاطلاع على التراث النظري الاشتراكي، أن هذه المعضلة ليست بالجديدة، وأنه سبق وأن تم تناولها بكيفيات مختلفة، وكانت مدار خلافات وتناقضات وتمايزات متنوعة. وما أود التشديد عليه، في هذا السياق، أن الحزب الاشتراكي الحق لا يعادي التحرك العفوي، ولا يقلل من شأنه ودوره إن حدثت حركة جماهيرية عفوية في زمن مَّا، بلا قرار منه؛ ذلك لأننا إذا ما تمعنا جيداً في الدور الذي يقوم به الحزب الاشتراكي، فإننا سنجد، أن دوره في تثقيف الجماهير، والرفع من وعيها السياسي، والدفع بنضالاتها، والتحريض على تحملها لمسؤوليتها الذاتية، هو- بهذا المعنى - تنمية للحركة العفوية باعتبارها دليل المسؤولية الذاتية، والتي هي أساس المواطنة، وركيزة قيام الديمقراطية، وحافزة الاشتراكية في المستقبل. يؤشر الحراك الشعبي القوي الذي عم الوطن العربي، في نظري، على أن البلدان العربية قد دخلت فيما يمكن اعتباره «زمن الثورة الديمقراطية الدائمة»؛ إذ سيعيد الحراك نفسه مرات ومرات، بعد أن انكسرت «إمبراطورية الخوف» هنا وهناك، وفي أجواء عربية وعالمية تغلي فيها أزمات عميقة لا يظهر لها بعد مخرج مستقر. ولهذا، على اليسار أن يكون متأهباً، تنظيمياً وشعبياً، لاستقبال احتمالات كهذه لصالح التقدم الديمقراطي الأوسع مدىً والأعمق اجتماعياً وثقافياً. ما علاقة هذه الإطلالة السريعة على طبيعة المرحلة بالمسألة التنظيمية إذن؟ لِنُقِرَّ في البدء، وعلى غير ما تعود عليه اليسار في ماضي تعاطيه مع المسألة التنظيمية، وكأنها محض «فائض قيمة» عفوي للخط السياسي، عوضاً عن أن تكون ذات استقلالية، ولها أولويتها في ظروف معينة. لنقر، في البدء، أن اللحظة هي لحظة تنظيمية بامتياز، وأن مهمتها المركزية الأولى، ولطور ما، هي للتنظيم، ثم للتنظيم في الجبهات كلِّها. وإذا جاز لي أن أكثف هذه المهمة في شعار عام لكان: «نحو إعادة بناء وتوحيد القوى الشعبية في أفق الملكية البرلمانية والعدالة الاجتماعية.» يقتضي مني هذا التكثيف تقديم توضيحين استراتيجيين لا مندوحة عنهما: - توضيح سياسي: حيث أن الأفق الذي ينبغي على اليسار أن يناضل من أوله من موقع المعارضة، ما عاد يقبل تلك المشاركات الحكومية التكميلية، ولا بصلاحيات عملية أقل حتى مما هو وارد في الدستور. إن الحكومة الوحيدة التي سيقبل بها اليسار، في قادم الزمن، هي حكومة بقيادته وببرنامجه المستقل، وبكامل الصلاحيات الدستورية بناء على ما ستبينه الخبرة العملية والقانونية في «تنزيل» الدستور وتفعيله خلال التجربة الحكومية القائمة، وبناء على ما ستتطلبه القيادة الحكومية الفعالة لليسار إذا ما نال الأغلبية البرلمانية التي تؤهله لذلك. - وتوضيح برنامجي: حيث لا يمكن إعادة هيكلة وتوحيد القوى الشعبية، وفي قطاعاتها المختلفة، إلا إذا امتلك اليسار برنامجاً نضالياً مجتمعياً يستجيب للحاجيات الشعبية في كل قطاع، وينقل الخبرة النضالية المشتركة مع فئاته وقواعده. هذا البرنامج الذي سيعيد قراءة اليسار للتشكيلة المجتمعية عامة، ولتنوع تناقضاتها، ولخصوصيات المصالح الشعبية المتنوعة، وللخبرات التنظيمية نوليه الأولوية في هذه المرحلة، ويختلف عن البرنامج السياسي العام الذي يقدم رؤية اليسار وبرنامجه الوطني في السياسات العمومية والتجربة الحكومية ومسارات الدولة ومؤسساتها... كما يختلف عن الأوراق القطاعية المجزَّأة التي درجت على وضعها الأحزاب اليسارية، باعتبار البرنامج المجتمعي رؤية شمولية تركيبية لتناقضات المجتمع ولآفاقها النضالية، وتهم كل الحزب وليس القطاع المعين. وباختصار شديد، إذا ما نظرنا إلى حالة القوى الشعبية اليوم، فلا مراء، أننا سنتفق على المعضلات التالية، والتي على البرنامج المجتمعي أن يجيب عنها: أولاً؛ كيف يستعيد اليسار قوته الشعبية والانتخابية في المدن الكبرى، وكيف يجعل من مؤهلاته الانتخابية في المناطق القروية، أو شبه القروية، التي انزاح إليها، قوة تنظيمية حديثة عوض ماهي عليه من علاقات تقليدية ؟ ثانياً؛ كيف ننمي منسوب الوعي السياسي التقدمي، الذي تدنَّى إلى الحضيض، في قواعد المنظمات النقابية والمهنية واهتماماتها. وكيف نعيد بناء وحدة الطبقة العاملة في أفق بناء كتلة شعبية مدنية تقدمية تضم أوسع قوى ومكونات المجتمع المدني ؟ ثالثاً؛ كيف نعيد إلى الحركة الطلابية وإلى المثقفين أدوارهم الطليعية، بجانب قوى التقدم، وكيف نحول التنظيمات الشبيبية والنسائية من جيوب حزبية إلى حركة جماهيرية موحدة في كل من القطاعين ؟ رابعاً؛ ماهي نوعية العلاقة التي ينبغي لليسار أن يشيدها مع «المقاولة المواطنة»، وكيف نجعل من فئاتها المتوسطة والصغرى قوة اجتماعية فاعلة في صالح التقدم ؟ خامساً؛ كيف نشرك الجماهير الناخبة بعمل منظم ودائم في مراقبة ومحاسبة ممثليها، وكيف نجعل من منتخبي اليسار فاعلين في خدمة الخط السياسي والتنظيمي للحزب وتحت مراقبته الدائمة والمنتظمة ؟ تأخذنا الاختيارات السابقة، ذات النفس النضالي الاجتماعي والسياسي الراديكالي، إلى إدخال تغييرات تنظيمية هيكلية تنسجم وتلك الخيارات. وأكتفي هنا بالتشديد على بعضها دون شرح لمقتضياتها ولتدقيقاتها. التشديد على ضبط العضوية ومراقبة تطوراتها بشكل دوري ومنظم. إن غياب الضبط والمتابعة في تقارير تنظيمية شاملة تقدم صورة عن تقدم الحزب وعن تطورات العضوية فيه، وعن فاعليتها، هو المكمن الدائم للنزاعات واضطرابات الحياة الديمقراطية في الحزب، فضلاً عن كل مظاهر الانحلال الأخرى. التشديد على وحدة الإرادة السياسية الجماعية مع توسيع اللامركزية بما يسمح للهيئات المسؤولة في المستويات الجهوية، وغيرها، بحق المبادرة الكاملة في مجال اختصاصاتها. وهذا يقتضي انتخاب الهيئة المركزية، وهي أعلى قيادية في الحزب، من قبل المؤتمر الوطني بالانتخاب المباشر السري وعلى قاعدة المساواة بين المرشحين. وإذا كان من المفترض أن تخصص للنساء وللشبيبة وللجهات نسبة معقولة في اختيار الهيئة القيادية العليا، فإن قاعدة المساواة ووحدة الإرادة السياسية التي تمثلها أغلبية المؤتمرين تستوجبان أن يتم انتخاب القيادة العامة من قبل المؤتمرين مباشرة. ولأن الاهتمام سينصب على المسألة التنظيمية، وعلى البرنامج المجتمعي كأولوية، فمن الضروري أن يتشكل بجانب الهيئة القيادية العليا، مجلس وطني تكون العضوية فيه بالصفة في كل مجالات عمل الحزب، ويجتمع دورياً كل ستة أشهر، وتكون مهمته الأساسية متابعة القضايا التنظيمية والتعبوية، وتوجيه خطة الحزب فيها، من مثل، تلقي التقرير التنظيمي الدوري من قبل المكتب السياسي، ومتابعة ومحاسبة أعمال اللجان الوظيفية التابعة للمكتب السياسي. وتستوجب وحدة الإرادة السياسية الجماعية، أن يُنتخب أعضاء المكتب السياسي من قبل الهيئة القيادية العليا، ما عدا الأمين العام الذي ينتخب من قبل المؤتمر، لدواعي ضمان الاستقرار السياسي للحزب (أولاً وأساساً) في الفترة الانتقالية. كما تستوجب أيضا، أن يتشكل المؤتمر الاستثنائي عند ضرورته من نفس المؤتمرين في المؤتمر الأخير. ويتم التنافس بين المرشحين للأمانة العامة على قاعدة أن يقدم كلٌّ منهم برنامجه السياسي والتنظيمي. ومن المفيد دائماً أن تتمثل حساسيات كل تيار في الأجهزة القيادية العليا بحسب نسبة أصواتها. إن وحدة الإرادة السياسية الجماعية، كضابط تنظيمي لهياكل الحزب ولأنشطته، وكانضباط جماعي واع وإيجابي لإرادة الأغلبية، لا تعني إقصاء الأقلية والحساسيات الأخرى، ولا تعني إلغاء حقوقها في التعبير عن آرائها واجتهاداتها ومشاركتها في القيادة الجماعية للحزب. التشديد على التوازن الجدلي بين تنظيمات الحزب الاجتماعية وبين تنظيماته السكنية: إذ من الملاحظ أن اليسار قد تخلى عن تنظيماته المبنية على قاعدة الانتماء الاجتماعي، وفي أفضل الأحوال، همش تنسيقياتها الوقتية والفوقية. بينما جعل قوامه يعتمد فقط على فروعه السكنية الفضفاضة. ويعكس هذا التطور التنظيمي غلبة النزعة الانتخابية في اختيارات الحزب، وتخليه المضمر عن الكفاحات الاجتماعية، بل تخليه عن ارتباطاته العضوية الاجتماعية. وما يتجاهله هذا الخيار، أن وضعنا المجتمعي ووضعنا الديمقراطي لم يرتقيا، بعد، إلى المستوى الذي يجعل من المؤسسات المنتخبة مركز الصراع وبؤرة تسوية المصالح. هذا عدا عن أن الارتباط العضوي بكل قطاع اجتماعي مبدأ استراتيجي ثابت لدى أي حزب يتطلع إلى بناء مجتمع إشتراكي، ومازال يواجه أوضاعاً غير مستقرة النمو الديمقراطي. لقد ولَّد هذا الخيار الانتخابي أمراضاً عديدة في بنية الحزب، وفي علاقته بممثليه في المؤسسات المنتخبة، وفي عقلية مناضليه وسلوكاتهم، وفي الممارسة العامة للحزب، ولقد آن الأوان لإعادة النظر في هذا الخيار، بما يقيم التوازن الجدلي بين الخيارين الاجتماعي والانتخابي، وبما يعيد إلى القيم النضالية وإلى أخلاقيتها مكانتهما في ضوابط الحزب اليساري. - على سبيل الختام. قد يستخلص قارئ هذه المقالة، أني أدعو اليسار إلى نزعة يسارية تقليدية محافظة أو بالية... إلا أن هاجسي في الحقيقة كان أن يقوم اليسار بإعادة النظر في خطابه الإيديولوجي، والتنظيمي، والسياسي، بما يؤدي إلى تخلصه من الغوص السريع في «الليبرالية المفرطة»، وبما يعيد ترتيب العلاقة بين الليبرالية والاشتراكية، ويضع خطوط «الوصل والفصل» بينهما لصالح الاختيار الاشتراكي. وكأني في هذا أدعو اليسار إلى القيام ب «خطوة إلى الوراء من أجل خطوتين إلى الأمام»! كاتب ومحلل سياسي