بدعم من وزارة الثقافة، وفي إطار انفتاحها على مكونات الثقافة المغربية، أضافت جمعية الأنصار للثقافة بخنيفرة إلى رصيد أنشطتها الإشعاعية لقاء مفتوحا مع الباحثة في الأدب الحساني الدكتورة العالية ماء العينين، والتي تشغل منصب محافظة المكتبة الوطنية بالدار البيضاء، حيث شاركت بمحاضرة قيمة حول «إبداع المرأة في الأدب الحساني»، وذلك بقاعة العروض بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بخنيفرة. اللقاء افتتحه ذ. جواد صابر بكلمة أشار من خلالها إلى السياق العام الذي جاء فيه موضوع اللقاء من بوابة انفتاح جمعية الأنصار على الثقافة الوطنية والمبدعين المغاربة، معرفا بالأستاذة المحاضرة، وبمسارها العلمي والأدبي، قبل عرضه لأرضية حول الثقافة الحسانية باعتبارها واسطة العقد في العلاقة بين المغرب وجذوره الإفريقية، وكيف أن هذا الجزء من الثقافة المغربية في حاجة إلى الجمع والتصنيف والبحث والتحقيق والدراسة، ليعرج مقدم اللقاء عبر قيمة الأدب الحساني وطبيعته وأصنافه وضروبه المختلفة، إلى نحو ما يشير إلى مساهمة المرأة الصحراوية وبصمتها الثقافية المحلية باعتبارها رافدا مهما للثقافة المغربية. وبعد مطالبته من الحضور قراءة الفاتحة على أرواح شهداء الوطن من أجل الحرية والإستقلال، لم يفت رئيس جمعية الأنصار للثقافة توجيه تحية خاصة للدكتورة العالية ماء العينين على تلبيتها دعوة مدينته الأطلسية، مشيرا إلى أهمية الموضوع ودلالاته العميقة في ربط جسور التواصل بين مختلف مكونات الثقافة المغربية الشفهية والمكتوبة، ولم تفته الإشارة إلى كون الجمعية منذ نشأتها لا تتوانى عن المساهمة في الرقي بالإبداع المغربي من خلال مهرجاناتها ولقاءاتها وأبوابها المفتوحة دوما في وجه مختلف المهووسين بالثقافة المغربية محليا وعبر التراب الوطني، مقدما تشكره لوزارة الثقافة ومديريتها الجهوية، على دعمهما المادي والمعنوي، كما شكر الجمعيات التي تجشمت عناء السفر لحضور اللقاء. وفي سياق تقديمها لأرضية الموضوع «إبداع المرأة في الأدب الحساني» أشارت أنه لا يمكن الحديث في عجالة عن كل جوانب هذا الأدب، وأنها ستركز على جانب واحد منه فقط ، ويتعلق الأمر بشعر المرأة أو ما يسمى ب «التبراع « باعتباره شعرا نسائيا خالصا على مستوى الإبداع، وفي هذا الصدد ساقت مثالا عن شبيه له في الشعر المغربي «شعر نساء فاس» أو «العروبيات»، وهو موضوع الكتاب الذي جمع أشعاره الأستاذ محمد الفاسي، أو شعر «الليندي» عند البشتون، ومن هنا افتتحت ورقتها حول الشعر الحساني وحمولاته الثقافية والاجتماعية والنفسية بالإضافة إلى قيمته الفنية، وحول الشعر الحساني الذي يعتبر جزءا من ا الشعر الشعبي بالصحراء المغربية. وصلة بالموضوع، أكدت المحاضرة أن شعر المرأة هو الشعر الذي يمتح منها لأنها شكلت رافده الأول عبر مختلف العصور، مستشهدة بأمثلة عديدة من الشعر العربي في مختلف عصوره، كما أشارت إلى العديد من الدراسات في هذا المجال منها دراسة للأستاذة رشيدة بنمسعود، في إحالتها على وجود المرأة الشاعرة وارتباطها في البداية بشعر الرثاء «الخنساء» وأسباب أخرى، واعتبرت أن شعر المرأة عبر مختلف العصور ظاهرة وإبداع له خصوصيته التي حفته بالصمت والكتمان في أوساط النساء المتحررات كالجواري اللائي كانت لهن حرية عاطفية لم يحض بها غيرهن من النساء، حسب ما ورد في «كتاب الأغاني» للأصفهاني، منتقلة بسلاسة إلى الربط بين الشعر العربي ومقارنته بالشعر الحساني خصوصا شعر المرأة في الصحراء المغربية باعتبارها امرأة حرة تعبر عن نفسها، وقد تساءلت المحاضرة : كيف عبرت النساء قديما أو لاحقا عن موضوع «التبراع» في حياتهن، خصوصا أن للمرأة طابعها المحلي؟ ضيفة اللقاء أبرزت بالتالي أن موضوع «التبراع» في الشعر الحساني، بانتمائه الجغرافي والإثني للقبائل الصنهاجية، يمثل أساسا الجانب الشفوي كما هو الأمر في الشعر الأمازيغي، بخلاف الشعر الفصيح، لارتباطه بخصوصية الإنسان والمرأة بشكل خاص، وقد قدمت العديد من المفاهيم والمصطلحات الخاصة به : كالغنا، المغني، مشيرة إلى أصغر وحدة فيه «الكاف» التي يقابلها القاف، وتفلوين (الشطر) .ونظام البيت الخاص به، والطلعة، والتهيدينة (الكرزة) وخصوصيات كل منها. وفي الجزء الثاني من محاضرتها أكدت الأستاذة العالية ماء العينين أن لكل منطقة في الصحراء خصوصيتها ومميزاتها و»غناها» وشعرها حسب الانتماء القبائلي أو المجالي، حسان : اعتمدت الشعر الفصيح، الزوايا : الشعر العالم، والمناطق الأخرى «التبراع» فالمرأة ارتبطت ببيئتها وطبقتها وطابعها المحلي، ويسري عليها ما يسري على الرجال في مجتمعها. وقد قدمت شهادات كثيرة وأمثلة بخصوص هذا الموضوع منها «النساء عمائم الأجواد، ونعال الأنذال»، كما استشهدت بشهادة كتاب ورحالة أجانب من أمثال كإميل كوز وغيره، ممن تحدثوا عن خصوصيات التربية، والزواج وأسلوب العيش، حيث كتب إميل كوز قائلا «أن الرحل رغم بربريتهم وقسوتهم ينقلبون داخل خيامهم إلى الرحمة لأنهم يعيشون مع نساء يتقاسمون معهن الحياة ومتاعبها وأعمالها، لذلك فالنساء مساويات لهم»، مركزة المحاضرة في ذات السياق على إشارات للمختار السوسي في كتابة المعسول. وفي تناولها للجذر اللغوي لكلمة «التبراع»، باعتبارها مكونا لغويا متقاسما مع موريتانيا، وإحالاتها المعجمية، بالإشارة إلى أحمد بابا مسكة الذي يعتبر أول من أخرج «التبراع» من الشفوي إلى التدوين «الكتابة»، وعرفه كقصيدة من شطرين، وهي قصائد كانت الفتيات تعبر بها عن أحاسيسهن بعيدا عن «الغرد»، وفي هذا الباب تساءلت المحاضرة عن المواضيع التي تمت إثارتها من طرف النساء والتي شكلت صلب مضامين البوح في «التبراع»، منها الحالات االعاطفية الأقرب إلى العذرية، كنوع من حوار مع الذات (الوصال، الاعتراف ...) تقول شاذرة : «وانا فؤاده صاليل شيء ما هو عادي والبانو دعام تعلمو معنى الغرام « كما أشارت إلى تكرار بعض المعاني في شعر التبراع : ك «السقم المحيل على الحب» «السقم الماكني عايني وازدف واقتلني»: السقم الماكني ما مشاني ولا سكني وصلة بذلك، أكدت المحاضرة على أن هذه العاطفة وشدة الحب الذي يأخذ فيه الحبيب، مكان خطاب مستثير وليس صريح أو واضح باعتباره خطاب تسكنه الدهشة في علاقة المبدعة مع ذاتها، مضيفة مفاهيم أخرى: كالليعة، البال، الطيف، والتبريعة عندما تتجاوز فيها الشاعرة الحدود، كذلك تقول: «ومنين نصلي يحجل لي ونعلم مولي» بمعنى : عندما أصلي أتذكره فأعيد الصلاة.. فقائلة «التبراع» هي امرأة مجهولة، ما يجعل هذا الشعر تراثا إنسانيا تم تناقله شفويا عبر أجيال من طرف أشخاص مجهولين، وهو نوع من الثورة على التقاليد والعادات، في إشارة إلى معاناة مبدعاته من خلال إدخال لهجات ولغات أخرى أبرزت جرأة المرأة الحسانية التي تجاوزت في شعرها ما هو حسي وجسدي، كما أشارت إلى أهم لحظات «التبراع» كالبكاء على الرحيل، تقول «ليلة وداعو قلبي ولساني ماداعو»، كما ركزت على بعض مفاهيمه ودلالاته في اللغة الحسانية في شعر «التبراع» باعتبارها لغة طاغية في الحب، مشيرة إلى مفهوم «الشيطان» في وصفها للجمال كما جاء على لسان إحدى المتبرعات «عندو وشيمة باني فيها إبليس خويمة»، وإبليس هنا إشارة إلى الجمال والمقصود به الجمال الروحي، وقد ساقت المحاضرة في هذا الصدد العديد من النماذج الدالة اجتماعيا ونفسيا والتي تمكن المرأة من الإقناع وإبراز مكانتها القوية في مجتمعها. فقصيدة «التبراع» عموما هي قصيدة تبدأ بلاإله إلا الله، وتنتهي بالاستغفار، كما ربطت الباحثة بينها وبين أجناس أدبية أخرى ك «الق الق جدا»، في ومضها وخصائصها البنائية والمعمارية ك ( الكثافة، الإضمار، الحذف ...) وتضمينها لحقول معجمية ومعرفية وأمثال شعبية وقرآن وحديث وأمازيغية وفرنسية، مع ذكر أسماء بعض الأماكن والأعلام، ما يبرز أن الصورة الشعرية في «التبراع» هي صورة استعارية بالدرجة الأولى ومجازية كذلك، كما أنها تامة التخييل والتصريح، مثال: «إذا مات حبيبي لا كون كفنه هكذا نكون الرماد معا»، بينما تم المرور عبر أشكال أخرى من «التبراع» حيت تندمج في أبيات قصائده العديد من المصطلحات المعاصرة بلهجات ولغات أخرى.