المغرب ليس استثناء، فبالأمس القريب، تطلع شعبه للتحرر من الاستعمار الخارجي على غرار شعوب العالم الثالث. واليوم، يتطلع من جديد للتحرر من استعمار داخلي، من قيود الفساد والاستبداد، على غرار الربيع الديمقراطي منذ موعد 20 فبراير. بالأمس، كان الاتحاد الوطني ثم الاتحاد الاشتراكي حزب المقاومة والتحرر، واليوم، هل هو حزب الربيع الديمقراطي؟ منذ التسعينيات، منذ مغامرة التناوب التوافقي، عرف الاتحاد الاشتراكي تغيرا بنيويا وتراجعا ملحوظا، وأصيبت الشبيبة الاتحادية بالجمود والعقم منذ خروج تيار الوفاء للديمقراطية، وبحالة من الموت السريري منذ أصبح سن الثلاثين هو المحدد للانتماء، ومنذ تأجيل المؤتمر الى اللانهاية، وتجميد الفروع، وتعطيل الواجهات التلاميذية والطلابية والإعلامية، وطلاق مع لجنة الفتاة ومعارك الحركة النسائية، وانفصال عن حركة الابداع والثقافة، و»اغتيال» لكل مبادرة أو شاب(ة) يفكر خارج منطق الزعيم الذي قد يكون وطنيا او جهويا أو محليا. منذ التسعينيات، أصبحت الحكومة بالنسبة للحزب كالماء بالنسبة للسمكة. ورغم أن الجميع يجمع اليوم أن المشاركة في حكومتي جطو والفاسي كانتا خطأ، إلا أنه لا احد تحمل المسؤولية، ولا ورقة تجرأت على انتقاد مبدأ المشاركة في حكومة لا تحكم، لا احد قال ما يجب ان يقال ولم يذهب النقد الى مداه. لقد كانت المشاركة في حكومة التناوب خطأ. وكانت لحظة المؤتمر الثامن، لحظة انبعاث الضمير الاتحادي، فلقد أحيى الاتحاديون مطلب الملكية البرلمانية في البيان الختامي، ليتقدم الحزب بمذكرة للاصلاح الدستوري وحيدا، وظنه الحلفاء والخصوم شريدا، والحق أنه كان في قراءته للمرحلة متقدما فريدا. شخصيا، فهمت من هذه الأحداث اقرارا ضمنيا بأن المدخل الحقيقي للاصلاح السياسي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية هو الاصلاح الدستوري. واستنتجت انه كان على الاتحاد الاشتراكي معرفة ان لا حلفاء للقوات الشعبية في الحكومة وأن لا احد يرغب بالإصلاح الجذري الشامل من داخل بنية الحكم، وبالتالي كان عليه أن ينسحب ليعيد رسم دائرة حلفائه ويطالب بانتخابات مبكرة. وهو ما لم يحصل للأسف. لكن التاريخ لا يتوقف عند الاتحاد الاشتراكي. في ظل هذا السياق، حاولنا كشباب إبداع ربيعنا الديمقراطي، ودعونا للخروج يوم 20 فبراير للمطالبة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. وكشاب اتحادي، لم أجد حرجا في ذلك، بل وجدت تماهيا بين القيم والمطالب العشرينية وتراث الحركة الاتحادية. وقررنا كشباب معروف إعلاميا بتسمية «اتحايو 20 فبراير» أن نكون جزءا أساسيا من الحراك الشبابي، منذ مخاض الولادة، ودافعنا بالقلم عن الحق في الربيع الديمقراطي المغربي قبل تاريخ 20 فبراير، ومنا من ظهر في اعلانات دعائية، والآخرون وزعوا مناشير الدعوة إلى الاحتجاج وقاموا بمهام التعبئة والتنظيم والمشاركة. وكان لنا نصيبنا من حملات التخوين والإيذاء والاعتقال، بل لقد خسرت الشبيبة الاتحادية أربعا من خيرة فرسانها من مدينة وجدة. رسميا، تأخر رد فعل الحزب، وتأخر بيان مجلسه الوطني بسبب إحراج المشاركة الحكومية، وتواجد قيادات منفصلة عن الجماهير، وطعنة بيان منسوب إلى المكتب الوطني للشبيبة الاتحادية. وفعليا، خرجت قيادات اتحادية وازنة يوم 20 فبراير وما تلاه، وتحركت الجريدة لمتابعة الحراك الشبابي رغم أنها ركزت على إخبار المركز ولم تكن تنشر إلا مقالات نشطاء المركز، وفتح صنبور الدعم، وأطلقت آليات حماية المسيرات من التدخل العنيف للأجهزة الأمنية. وأبدا لم يكن رهاننا كاتحاديي 20 فبراير السيطرة أو تحفيظ الحركة أو تلجيم النضالات أو توزيع صكوك الغفران على هذا ومنعها عن ذاك. لقد كان تواجدا مبدئيا طبيعيا، والأهم من ذلك أننا كنا نعرف - بخلاف آخرين- أين نحن وماذا نريد. كنا نعي جيدا أن حركة 20 فبراير ليست تنظيما، بل حركة اجتماعية احتجاجية للجميع، مستقلين ومنتمين. وأن الذي يجمعنا هو الحد الأدنى المشترك، والشاطر هو من يجمع المتناقضات ويبدع أرضية مشتركة ويقود الجميع في المنعرجات، لا أن يقود وحده، ويستغل الحركة لتمرير مواقف خاصة وتصفية حسابات سياسية ضيقة. لم نكن حتى كتلة واحدة، بل كنا نبني تحالفاتنا انطلاقا من النقاش داخل الجموع العامة لا خارجها، لذلك لم نكن يوما جزءا من «النواة الصلبة» التي تصنع القرار خارجا لتأتي لتشرعنه داخل الجموع العامة. وشيئا فشيئا، صرنا نجد أنفسنا أقرب إلى المستقلين، ثم حركة (باراكا) المقربة من العدالة والتنمية، واليسار الديمقراطي، وصار التقاطب ليس على أساس اليمين واليسار، بل على اساس كتلة الراديكاليين في مقابل كتلة الاصلاحيين في جل المواقع. وبدأ إنتاجنا الأدبي من داخل الجموع العامة والمقالات الصادرة عن نشطاء الحركة الاتحاديين يتميز، وإجاباتنا اكثر ملائمة للشرط المغربي وأكثر قدرة على الاقناع وتحقيق الإجماع، لكنها للأسف لم تكن تلقى ترحيبا من «النواة الصلبة» ذات الأجندة الاقصائية. وهكذا رفضنا هيكلة الحركة وتنصيب منسقين وزعماء، ودافعنا عن خيار العمل بلجن موضوعاتية مرنة ومفتوحة، ودافعنا عن التناوب في المهام، وأظهرنا سلاسة في الربط بين المطالب الاجتماعية والسياسية على قاعدة الشمولية، والربط بين الوطني والمحلي، ودافعنا عن مقولة أن نضال الأولاد هو امتداد لنضال الأجداد، وعلى أن النضال من داخل المؤسسات لا يعارض بالضرورة النضال من داخل الشارع، بل يمكن ان يكونا حليفين، وقلنا ان مطلب الحركة هو التغيير، والتغيير يحتمل الإصلاح كما يحتمل الثورة. ثم جاءت لحظة 9 مارس 2011، وأرادها الراديكاليون فرصة لتصفية الحساب مع الاحزاب الإصلاحية، وتوقع المخزن خروج الحزبيين وتخيلها فرصة لعزل الراديكاليين وطحنهم، وأردناها فرصة لذكاء جمعي لتفويت الفرصة على المخزن لقتل الحركة و لوقف مسلسل التغيير. كنا نعي جيدا ان ضمان حدوث اصلاح حقيقي هو ضغط الشارع، وأن قوة الحركة في فجائيتها، وأن ضمان استمراريتها في تحكمها بزمام المبادرة، لذلك نبهنا من السقوط في رد الفعل حول الاجابة الرسمية المتعلقة بتعديل الدستور، ونبهنا إلى خطورة اللعب في ملعب المخزن، وطالبنا في الجموع العامة وفي مقالات منشورة بأن تبقى 20 فبراير وفية لهويتها كحركة اجتماعية لها مطالب، وتترك أمر تصريف المواقف إلى الهيئات السياسية المحترمة التي تشكل مجالس دعمها. لكن تنظيمات مهترئة وأخرى مخنوقة رفضت ذلك، ودفعت في اتجاه تماهي الحركة مع مواقفها هي، بل كان هناك من دعا أو أمل في رفع سقف المطالب في اشارة ضمنية إلى استهداف النظام القائم. هذا التكتيك أظهر 20 فبراير كحركة عدمية ترفض كل المقترحات، متعنتة خارج الاجماع الوطني، ومنافقة لها اجندات خفية وغير معلنة. وكان البديل الذي طرحناه هو توضيح المطالب لا رفع سقفها، لأن الشعب يطالب بتعاقد سياسي واضح ولا يمكنه ان يتبعك في اتجاه المجهول. وللخروج من ازمة الاختناق / الفخ، اقترحنا التركيز المرحلي على المطالب الاجتماعية بدل السياسية في شعارات الحركة، وخلق روابط مع الحركات الفئوية، والتركيز على قضايا الشأن المحلي. لكن للأسف كانت الحركة قد أسست قوانينها وأعرافها، والتي أضحت معروفة لدى المخزن، وصار صعبا عليها ان تتجدد من داخلها. استمر وهج الحركة في الخفوت، وتراجع نشاطنا فيها لأن حماسنا تراجع مادام تصورنا لا يحظى بالاجماع والقبول، ثم انسحبت العدل والاحسان لحساباتها الخاصة. على الصعيد الحزبي، كنا نعتقد امكانية حدوث «تبادل حراري» إيجابي بين الحزب والشارع، وحدوث علاقة تأثير وتأثر، فبالحزب نحمي الحركة من كل انحراف وتطرف ونزعة تثويرية غير محسوبة، وبالحركة نبني الأداة الحزبية ونعيد تلحيمها وربطها بالنضال الجماهيري، بما يتيح توفير بنية استقبال سياسية للجيل الجديد من المناضلين. وقد تحقق هذا الهدف بشكل جزئي، فقد دبت الحيوية في بعض المناطق والفروع الشبيبية ونظمنا ملتقيات ناجحة على غرار ملتقى بوزنيقة وازيلال وتطوان. لكن، للأسف، كانت الحركة بالنسبة لبعضنا مجرد فرصة لتجديد الشرعية وتكوين رصيد رمزي يؤهلهم للتموقع، أو للتفاوض باسم اتحاديي الهامش مع المكتب السياسي من اجل موقع متقدم في اللائحة الوطنية أو اللجنة الإدارية مثلا. وصرنا ننتج نفس السلوكات التي كنا ننتقدها بالأمس داخل الحزب وداخل الحركة من اصدار لمواقف لا وجود لها إلا في الإعلام، وممارسة للوصاية وظهور سلوكات انتهازية وعدم انضباط لقرارات الحزب، وكما انتجت دينامية «اتحاديو 20 فبراير» مناضلين جدد، انتجت أيضا متسلطين صغارا مهمتهم تجنيد المريدين وعزل المختلفين وتوزيع صكوك الغفران ولعب دور وساطة سلبية (أقرب للوشاية) مع القيادات. وحتى الأزمة التنظيمية انعكست سلبا علينا واستهلكنا صراعا داخليا وهميا. إذن، التراجع المرحلي للحراك وبعض السلوكات اللاأخلاقية قضت على هذا الحلم الجميل، حلم كان اسمه (اتحاديو 20 فبراير). وأضاع الجميع فرصة ان يكون الاتحاد الاشتراكي مجددا حزب الربيع الديمقراطي. مع إشارة إلى أن الاتحاد الاشتراكي فتح آفاقا نضالية بحجم السماء، ابتدأ مع خيار المعارضة، وتعاظم مع العمل النقابي المشترك، وتعزز مع نجاح مؤتمره الأخير. فالاتحاد، كما يعلمنا التاريخ، لا يتفاعل مع الأحداث فقط، بل يصنعها أيضا. في الأخير، أتقدم باعتذار علني عن كل الأخطاء التي قمت بها في حق حزبي في فترة الحراك الشبابي. (*) كاتب فرع الشبيبة الاتحادية بأزيلال