أوْقفَني وقالَ لي: «كم ذهبتُ إلى آخِر الأرضِ أنَا، الزّائل والأزلي» أوْقفَني وقالَ لي: «لا أنا الإسْكَنْدَر ولا أنَا زُورْبا أنا لا أحَدْ أنا شاعِرٌ مجْهول» اعْلمْ أعَزَّكَ الله أنّي لنْ أنْعَتَكَ لا بِهَذِهِ ولا بِتِلْك، ولا بشاعر الواقعية السحرية أو العجائبية ولا بالرُّؤيا الكارثية كما جَرى على لِسانِ البَعْض، فجاءوا على قميصِكَ بِدَمٍ كَذِب. وإلاّ لَكان (جان جوني) و(فريديريك نيتشه) و(فان كوك) و(المَعَرّي) كارثيون هم الآخرون. نحن إزّاءَ قلَقُ الشّعْرِ وليْسَ شِعْرُ القَلَقِ. بنطلحة، هذا الشّاعِرُ القَلِق، لا يقول كلمتَه ويَمْضي، بل تقولُهُ كلمته وتَمْضي. والسبب هو: أنه لا يَطْمَئن لما يَكْتُب، وربما لهذا السبب بالذات قال في حقه أدونيس إنه «شاعرُ الأعْماق». فأمام التفاهة والهَوان كيف لا تضطرب أعماقه. لن نكونَ مُبدعين إذا لمْ يُلازِمُنا هذا الإحساس بالخِزْيِ الذي تُمْعِنُ التّفاهة في أن تحشرنا فيه وفي غَباءِ الفن وغَباء الأدب وغَباء السيّاسة. آفَةُ الشّعراءِ اسْتِضْعافُ الشّعْرِ وذُلُّ الكَرامَةِ وآفَةُ الأدب هَزالَةُ الخَيال كما آفَةُ الزّعَماءِ ضُعْفُ السِيّاسةِ وخُبْثُ السّريرَةِ. لعَلَّ مِنْ أَحَدِ دواعي الإبداع هو هذا الشعور بنوع من الخَجَلِ والخَيْبَةِ أنْ يكونَ الكائِنُ إنساناً une certaine honte d?être un homme. من المُخْجِلِ حقا أن يكون الكائن إنسانا أمَامَ السَّفاهة والهَوان مِنْ فَرْطِ الحَرَجِ الذي يَضَعُنا فيه الوَقِح. أليسَ هذا مَدْعاةً للأسَفِ!؟ التّافهون السَّفِهون ضُرِبَ بينهم وبين الإبداع بِسُورٍ طولُهُ عَرْضُ السّموات والأرض ولا يعقلون. مقاومة الخِزْيِ والتَّتْفِيه الذي يُلْحِقُهُ الإنسان بالإنسانية هي أحدُ أًسُسِ الفن. وهي زَفيرُ الشّعْرِ وشَهيقُهُ عِندَ بنطلحة، قَدَرُهُ كمبدع أن يُكَرّس حياته لإنقاذ الحياة. ضَرْبٌ من النُّبُوَةِ بأن يَجُرَّ الحياة نحو الأعلى: قلقُ الإبداع، قلقُ السُّمُو. ضفيرة شَعْرُ الأشْعار الرائعة يتوسدها غول القلق. علاقة الشاعر بالقلق _ليس أي شاعر طبعا وليس أي قلق_ هي علاقة أواصر دَمَوِيَة، ناتجة عن تَعَلّقٍ كبيرٍ بأشياءٍ مَا وبِأشْخاصٍ مَا، أعْطَبَها الإحْباط. مَا مِنْ علاقة حقيقية بِغُولِ الإبْداع إلاّ وكانتْ فريسةً لغولِ القلق. ومِنْ غَيْرِ قلقٍ لا يُعَوَّلُ على الإبداع، إذْ ليس ثمّة ما هو أكثر حميمية من شعور القلق. إحْساسُ اللاطُمَأنينة، تلكَ الكُرْبَة المُبْهَمَةِ، المُنْفلِتَةِ لتَمَثّلِنا، لكنّها قريبة مِنّا، بَلْ مَحْشُوَّة في حُلقُومِنا كالحَشْرَجَةِ. رُبّتما بسبب بُعْدِ مَنْ نُحب أو بُعْدُ مَا نُحِب. أليْسَ أبْعَدُ الشعراء سَفَراً منْ كانَ في طَلَبِ بيْتِ شِعْرٍ يَرْضاه. وَكَمَا أخَذتَ من العَسَلِ ما ادَّخَرَهُ النَّحْلُ لِنَفْسِهِ فارْمِ بنَفْسِك ولا تقع قريبا. أنْتَ لنَا الفَرْدُ وزَوْجُهُ اليَمُّ ومَوْجُه. يا كِتابَ الرَّمْل، مرحبا بك في هذا المكان الذي لا يعرف عنه الكُلُّ أنه كان للسيد Jean Brun الذي هو جد السيدة Evelyne Bentalha زوجة شاعرنا بنطلحة وأم ولديه: ميادة وإياد. نحتفي بك في هذا المكان بالذات الذي كان يتردد عليه Saint Exupery والذي لا تزال إحدى رسائله معلقة هنا بالذات، وتردد عليه Charles Degaule و Winston Churchillوالمهدي بنبركة وAlbert Camus و Edith Piaf وRené Char. مرحبا بك في هذا المكان البادِخ بالتاريخ الذي شهد أحداثا شعرية هامة في المغرب منها «بيان الشعر كله» ومجلةEaux vives (مياه حية) سنة 1964، وفي هذا المكان كنتَ من المؤسسين لبيت الشعر بالمغرب سنة 1996 حيث كُتِبَ نص قانونه الأساسي. نحيّيكَ في هذا المكان بالذات حيْث: تَخْتبِئُ الأشْعارُ بيْن الجُعَّةِ ورَغْوَتِهَا نحيّيك بيْن أصْدقاء ديونيزوس حيث: «الوجود أريكة والعدم صولجان» وأدعوكم جميعا لرفع نخب التكريم لشاعرنا الكبير محمد بنطلحة.