«الجنديّ الصغير الطّيّب» هو عنوان الرّواية التي صدرتْ، خلال الأسبوع الأخير من شهر نونبر المنصرم، للروائية الشّابة مازارينْ بّانجُو. ومازارينْ هذه، كما هو معلوم، هي البنتُ غيْر الشرعية للرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميترانْ، والتي كانَ قد أنجبها من عشيقته آنْ بانجو، التي كانتْ وقتها محافظة بمتحف أورساي بباريس. وقد عاشت مازارينْ عشْر سنوات في الخفاء، حيثُ أنّ ميترانْ لم يكن يرغب في الكشف عن هذه الصفحة من حياته الخاصة أمام الرّأي العام، رغم أنّ زوجته دانيال ميتران كانت على علم بوجود امرأة أخرى في حياته، كما أنها كانتْ قد علمتْ بخبر وجود ابنة له منها، وقد تغاضت عن كل ذلك حبا في زوجها وحفاظا على لحمة العائلة. كان فرانسوا ميتران معروف أنه زير نساء، وقد اكتشفت زوجته خيانته لها مبكرا مع نساء كثيرات، وهي تعترف، في «مذكراتها»، أنها تألمتْ من كثرة خيانة زوجها لها، وروت قصصا كثيرة عن غرامياته، غير أنه رضيتْ واستسلمت في النهاية الى الأمر الواقع، وواصلت حياتها معه كصديقة محبة وأمّ لأبنائه. وقد توفيت دانيال ميتران العام الماضي في السابعة والثمانين من العمر وحضرت مازارين جنازتها. ولدت مازارين يوم 16 ديسمبر 1974 بمدينة أفينيون وسط فرنسا، واعترف الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران بأبوته لها أمام كتّاب عدل يوم 25 يناير 1984، أي عندما بلغت العاشرة من عمرها، ولكنه لم يمنحها اسمه فبقيت باسم عائلة أمها بّانجو، وهي اليوم في الثامنة والثلاثين من عمرها وتعمل أستاذة مبرّزة في الفلسفة بإحدى الجامعات في باريس. وقد سبق لها أن ألّفت كتبا عن سيرتها الذاتيّة، كما أصدرت ثماني روايات آخرها رواية «الفم المُقفل». وهذه هي روايتها التاسعة، وهي متزوجة من مغربيّ الأصل مهاجر ويقيم في باريس، وأنجبت منه ثلاثة أطفال من بينهم عبد القادر، وهكذا يكون عبد القادر حفيد فرانسوا ميتران. لكن مازارين أطلقت أسماء ثانية على أبنائها ك سطور وطارا. في مستهلّ هذه السنة، أعلنت مازارينْ بّانجو أنها واحدة من بيْن الكثيرين الذين يدعّمون ويناصرون الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاندْ منذ أنْ ترشّح لرئاسيات فرنسا. البعض بدأ يتحدّث عن انتصار مفاده أنّ ميتران قدْ عثر على خليفته. غير أنّ الاحتفال بعودة اليسار إلى السلطة بفرنسا، قد سمح لمازارينْ، قياس المسافة التي تفصل روايتها الجديدة عن روايتها السابقة «الفمُ المُقْفَل». ما يهمّ، في روايتها الأخيرة، بعيدا عن «المناسبة» التي دفعت مازارين إلى الكتابة، هو الجانب السير ذاتي الذي عادت إليه بعمق وشاعرية. تشعر أنها عاشت طيلة عشر سنوات بلا هوّيّة ولا وجود ولا قرابة. لذلك تقول مازارين بصيغة المخاطب: « تكونين أو لا تكونين. تكونين سرّا غيْر معترف به، تحملين اسما غريبا وتعيشين حياة بين السطور وطفولة مخبّأة. تكونين ابنة الرئيس فرانسوا ميتران أمْ لا تكونين أيّ شيء على الإطلاق. تكونين محبوبة داخل بيْت من ثلاثة أفراد مثاليين وأسطوريين في الوقت ذاته، ولكنْ مجهولة تماما في الخارج، أنت لا شيء. أنت أخت وابنة عم وابنة خال، تعيشين وسط أقرباء يجهلون من أنت. لكنْ فجأة تجدين نفسك أمام الأضواء والكاميرات والفلاشات والإعلام. لقد أصبحتِ بنتا رسمية للرئيس. صرْت موضوعا للفضول والتربّص والتتبّع والتخمينات والتقوّل والأحكام، والحسد أيضا. لقد أصبحت الوريثة الأخلاقية للرئيس. البورتريه الخفيّ. الممثلة له. أصبحت هي هو تقريبا، لا ذاتها هي. فكيف السبيل للخروج من هذه الرُّقية الأصلية التي تمنعك من أنْ لا تكوني سوى «جنديّ صغير طيّب»؟» لقد اختارتْ مازارينْ شكل «اليوميات» لكي تنقل ما عاشته خلال حملة الانتخابات الرئاسية، وتمزج، في محكيّ ذاتيّ بين الصراع الشخصي والصراع السياسي. لذلك جاءتْ الرواية بضمير المخاطب، وذلك لأنها هذه المرّة قد وجدت، حسب تعبيرها، صعوبة في الحديث والكتابة بضمير المتكلّم، معترفة بمعاناتها المريرة لعيْشها فترة طويلة من طفولتها وشبابها في الخفاء، فالرئيس الأب أخفاها طويلا عن الناس والإعلام، وكانت هي إلى حدّ تاريخ وفاته كأنها غير موجودة، وقد أثّر هذا كثيرا في شخصيتها وطغى على تفكيرها، وهي تقول في هذا الكتاب أنها كانت مدعوّة إلى الصمت وعدم الظهور في العلن وكأنّ وجودها كما تقول أمر مخجل، مضيفة: إنّ ما يجري إخفاؤه عادة هو: إمّا أن يكون كنزا أو أمرا مخجلا، وقدْ وكنت هذا وذاك. مشيرة في الوقت ذاته إلى أنها كانت كالجنديّ الطيّب المنضبط مدعوّة إلى المحافظة على السرّ: فقد كانت فعلا ملزمة أن تكتم سرّ والدها الرئيس، وكانت مطالبة بذلك من أجل المصلحة العليا للدولة، وكتبت أنه كان أمامها خياران: إمّا الثورة على وضعها والتمرد أو الصمت، وقد اختارت طيلة سنوات وحتى تاريخ وفاة والدها الصمت المطبق، لأنّها لو تمردت وثارت على وضعها فان ذلك يعني في حالتها كما قالت انقلاب على الدولة!? فوالدها رئيس الجمهورية الفرنسية وهو متزوج وأب لابنين: جان كرستوف وجيلبير. ورغم أنه كان أمرا معلوما أنه زير نساء ولكن لا أحد الا قلة قليلة من الاصفياء الثقاة كانوا على علم بأن للرئيس فرانسوا ميتران ابنة من علاقة غير شرعية، ولكنهم كانوا ملزمين بقانون الصمت. لقد ظلّ السؤال المتناسل الذي يشغلها هو: كيف تحمي أبناءها من ماضيها؟ وكيف تنقلُ إليهم إرثا سعيدا ولكنه أليم في الآن نفسه، بدون أنْ يُعانوا منه؟