من أهم مستجدات الوثيقة الدستورية ؛ مفهوم المسؤولية السياسية، وهذا المفهوم لا يمكن إخضاعه للمزاجية، كما لا يمكن تجميده في ربط المسؤولية بالمحاسبة كما تحصرها القراءات وتكاد تبرمجها كجينيريك نهاية السهرة ؛ المسؤولية السياسية خيط ناظم للعملية السياسية ، لا يمكن تعطيلها في انتظار المحاسبة أو تكييفها مع تقلبات المناخ السياسي؛ كما لا يمكن تكثيفها في اتجاه مزايداتي -إن صح التعبير- ولا يجوز أخلاقيا وسياسيا الإخلال بها أو ترتيبها في رفوف الآليات المعطلة، أو الأدبيات الآمنة في المواثيق لا في دفاتر التحملات. آخر خرجة لأمين عام حزب الاستقلال الحليف الأول للبنيان الحكومي؛ تحمل بالمباشر خبر نعي الحكومة سياسيا؛ بمعنى أن الشرعية السياسية للتحالف الحكومي تتفكك بعد إعلان رقمها الثاني أنه غير راض عن أداء الحكومة، ووقع الإعلان يستمد قوته من مصدره أي الأمين العام والممثل الرسمي للهيئة الحليفة من جهة؛ ومن تواتر مدروس لانتقادات الفريق النيابي للحليف الغاضب التي يوجهها بقوة للحكومة من جهة أخرى ؛ لتبعث الرسالة الأهم والمتمثلة في الاحتضار السياسي للحكومة على الأقل في أزمتها الحالية ؛ الأمر سيتطور ربما من أزمة عاطفية إلى طلب بتوثيق حالة الضرر وبتحريك مسطرة الشقاق؛ فالحليف المتمرد على الأداء الحكومي يعبر صراحة عن عدم رضاه عن أداء ممثليه داخل الفريق الحكومي ويكاد يرهن التزامه داخل الصف الأغلبي بتعديل حكومي يرضي دفتر تحملاته الحزبية ، ويبسط انتقاده على باقي القطاعات الحكومية الأخرى التي لا تدبرها أسماؤه الحزبية ، ويدفع - وهذا فيه كثير من الواقعية- بسيطرة الهاجس الحزبي لقائد الأغلبية الذي لا يبلغ درجات الحماس القصوى إلا حين يتحدث باسم هيأته السياسية فوق ميثاق الأغلبية المتذمر ،الرجل الأول في حزب الاستقلال يؤكد على مسؤوليته في حماية الشعب المغربي من ارتباك الحكومة على سبيل المثال في تدبير الحوار الاجتماعي وما للملف من ثقل وحساسية ؛ ويعصف بدفوعات تناقض في التصور وفي الطرح موقفا سياسيا للحكومة في ملف ضحايا المحضر -اليوليوزي - أو ضحايا المرحلة كما أريد لهم ؛و في الرفع غير المتوافق بشأنه لأسعار المحروقات ، كما يوجه اتهامات مدمرة لمبدأ الشفافية والحكامة في مقاربة الحكومة لمحاربة اقتصاد الريع ؛ حيث يشهر وثائق عن تراخيص جديدة لأكثر من مائة مأذونية في عهد الحكومة الحالية وعن أخطائها في تفويت جزء من قطاع النقل لمستثمرين أجانب .... وكل هذا في سياق تحالف يحكمه ميثاق الأغلبية الذي ينص بصريح العبارة على التضامن في المسؤولية وعلى الالتزام بمستوى عال من التنسيق والانسجام والتضامن في تحمل الأغلبية الحكومية كامل مسؤولياتها الدستورية والسياسية ؛؟ لعله ميثاق الأغلبية الغليظ الذي لم يؤكد -كما يجب- على المسؤولية السياسية ولم يقتبس من تعثرات الحكومات السابقة ما يضمن انخراطا، وتضامنا وانصهاراً كاملا لمكوناتها في المسؤولية السياسية تجاه التحالف؛ أو لعله نمط الاقتراع بكل تفاصيل العملية الانتخابية الذي يؤخر إلى أجل غير مسمى الرجة الإصلاحية الحقيقية ؛ والمتمثلة في حكومة مغربية مكونة من فصيل حزبي واحد أو أغلبي وحليف ؛يملك سلطة حقيقية وكاملة بشكل يتيح للسياسة أن تلتقط أنفاسها وترتب برامجها وتكتب تصوراتها لمغرب الفرز والوضوح ؛ وتساير خارطة طريق الإصلاح كما يتبينه الدستور الجديد؛ ربما من حق الحزب المتصدر لاختيارات الناخبين أن تنسب الحكومة إليه اصطلاحا على الأقل ؛ ولكن ليس من حقه أن يتبنى لصالحه كل انجازات الحكومة ؛ بما فيها إنجازات وزراء الأحزاب الحليفة ؛ وهل يجوز له الحديث عن حكومة الحزب الأغلبي رغم عدم توفره على الأغلبية البرلمانية ؛ وكيف سندبر المحاسبة مادامت القطاعات حسب الدستور متضامنة ؛وما مؤشرات التضامن من عدمه وإلى أي حد وفي أي مرحلة تشهر ورقة التضامن ! .. لا أحد يستسيغ الحديث عن تعديل دستوري في وثيقة فتية ؛ لأسباب واقعية في أكثرها ؛ لكن يحق لنا أن نقول عن الوثيقة الجديدة أنها محتشمة في شقها المفضي إلى إصلاحات سياسية واضحة لا يرهنها التأويل أو الغموض، فإذا كان الدستور الجديد سلك درب التوضيح وأحيانا التفصيل ؛ فكيف سكت عن موطن الداء و لم يرسم مقتضيات تدفع بنمط اقتراع يضمن انبثاق حكومة من حزب واحد أو أغلبي وحليف ؛ تستطيع أن تضمن تملكاً فعلياً للسلطة وآليات استعمالها وشفافية تصريفها وتسويقها ، ولماذا أوكل هذا الإصلاح الجوهري إلى قانون تجاذبته توافقات وتوازنات وحسابات غير مستقلة، تقتات من عقلية مقاومة الإصلاح ، فكأن المشرع شخص أعطاب السلطة التنفيذية في حجم الصلاحيات فقط وأغفل إشكالية الانسجام والتناغم المرتبطة بنمط الاقتراع والتي تكرس هشاشة الأغلبية الحكومية وتضعف مناعتها وتهدد بالتالي استقلالية السلطة التنفيذية ؛مما يكرس قدر الضعف للحكومات في فلك العجز والعتمة المؤديين إلى قتل السياسة وتسفيه متعاطيها...و تهجير جمهورها؛ لتبقى -الحكومات- مجرد واجهة ديمقراطية لمنظومة سياسية غير ديمقراطية!! لعل نوادر الأغلبية المشكلة -للمشمولة برحمة الله -حكومة التناوب التوافقي واتهاماتها المسترسلة بالبطء والضعف والمحدودية ؛ وتخلفها- الموضوعي أو الذاتي- عن الانخراط في التجربة لأسباب مختلفة ؛ كفيلة بأن تشرح للمتابعين أن طبخة الائتلافات والحكومات الوطنية وكل مسميات اللا تناغم ؛ لم تعد مستساغة وأن المغاربة من سلالة الحراك والشارع؛ لن يحتملوا إضعاف الحكومات بأمراض عدم الانسجام المزمنة ؛ كما لن يسترسلوا في صلب الأحزاب والسياسة والسياسيين إلى الأبد كمسؤولين حصريين عن تسفيه الفعل السياسي، ولن يساهموا في عملية انتخابية عليلة تخرج سلطة تنفيذية من عمليات تلقيح اصطناعي غير موفقة ؛ ولن يرهنوا بناء استقلالية السلطة التنفيذية وتفعيل الدستور بائتلافات حكومية ورقية ؛ تستغرق الزمن التأسيسي الثمين في تطبيب إصابات النيران الصديقة ؛ والدسائس الحليفة ومكائد الائتلاف في غياب المسؤولية السياسية. أعتقد أن الشعب يتابع بقلق الكواليس العلنية للأغلبية ؛ ولا أظنه يريد إسقاط هذه الحكومة ..لكنه للأسف لا يملك أن يمنعها من إسقاط نفسها...!!