قبل البدء: تأطير لابد منه أن ينبش المرء، في ذاكرته التاريخية، وفق رؤية علمية(تاريخية) جمالية، معناه أنه يريد تحليل جزء من تاريخه وفق رؤية بعيدة كل البعد، عن القراءات الانطباعية المتسرعة، بل هذا يعني امتلاك رؤية ممنهجة، تحسن الإصغاء إلى الجميع ومن زوايا مختلفة ومتنوعة. زوايا تتساءل وتفكك وتعمق البحث في جزء مهم من تاريخنا المغربي الحديث، بل من تاريخ الإنسانية جمعاء، لاسيما وأن تاريخنا البشري هو في نهاية المطاف، تاريخ مشترك. هذه هي الفكرة/المرامي، التي ينهض عليها فيلم «المهدي بن بركة: اللغز» لمحمد بلحاج، ككاتب ومخرج الفيلم، والذي بثته قناة «الجزيرة الوثائقية»، حيث هي المنتجة لهذا العمل، مما يؤكد إيمانها النوعي والإنساني بأهمية الإبداع والإصغاء إلى قصصنا المغربية والمغاربية والعربية والإسلامية والإنسانية ككل. نحو تفكيك للعنوان إن اختيار العنوان ومن منظور أكاديمي، ووفق رؤية الناقد المغربي محمد مفتاح، في مؤلفه دينامية النص، يشكل بؤرة جوهرية وأساسية، بل علاقته بما سيأتي مثل علاقة الرأس بالجسد. عنوان الفيلم الوثائقي هذا «المهدي بن بركة: اللغز»، يحيلنا على مكونين أساسين. وهما إسم سياسي(مفكر) رياضياتي «من الرياضيات»، المهدي بن بركة، حيث الإسم يحمل شحنة تاريخية وسياسية وثقافية وعلمية مغربية/عربية/افريقية/عالمية بمعنى، أن متن الفيلم الوثائقي هذا متن له بنية حكي غير ضيقة، بل بنيته بنية متكونة من بنيات/محكيات متعددة، مما يجعلنا ومنذ البد ننتظر أفق رؤية إخراجية تتساير وطبيعة ما ينهض عليه هذا المتن. منعرجات عديدة وتضاريس سياسية مختلفة، تلزم كل من يريد الاقتراب من المهدي بن بركة. هنا وبلغة التحليل العلمي نسجل نجاح الفيلم في نقل جزء مهم من هذا الثقل. ثقل تهرب منه العديد من المخرجين المغاربة وغيرهم، على مستوى الكتابة السينمائية باستثناء المحاولة السينمائية الروائية الطويلة الآتية من فرنسا. هنا أيضا نسجل أهمية وشجاعة المخرج محمد بلحاج، والمعروف باقتحامه لموضوعات فيلمية وثائقية غير مجربة سابقة، أو لنقل اقتحامه لموضوعات تستحق أن تعالج وفق جنس الفيلم الوثائقي، وليس فيها تراكمات كثيرة مما يبيح له تمسكه بقصب السبق في العديد من الموضوعات المعالجة. المكون الثاني الذي ينهض عليه العنوان مكون اللغز. اختيار لغوي/فيلمي قوي ودال وموحي على الصعوبات التي ينهض عليها المتن الحكائي الفيلمي الوثائقي هنا. بتشغيل المخرج لهذه البنية التركيبية الدلالية، يكون قد ادخل معه المتفرج إلى قلعة الصعوبات والمغامرات التي سنعيشها جميعا سواء كمخرج أو كمتلقين لهذه الحدوثة الفيلمية الوثائقية الجميلة والممتعة والمرهقة، لأن صاحب العمل، كان يعي ومنذ البدء الأرض التي اختارها للاشتغال عليها، هي أرض «ملغمة»، وبكل المقاييس، مما يفرض على كل من أراد الدخول إليها التسلح بلغة البحث والإصغاء وتتبع مسارات ومنعرجات المهدي المختلفة والمتنوعة، وكأنها حكاية من الصعب الجزم فيها عن نهاية متوقعة وختامية. في هذا الشق أقنعنا الفيلم بطبيعة المتون/البنيات الجزئية التي التصق بها وفيها ولها، لأنها كانت فيها عناصر مهمة لتعميق الأسئلة حول من قتل المهدي بن بركة. سؤال تعالت الرغبة في معرفته كلما سافر بنا من مكان جغرافي/سياسي ما، إلى مكان آخر. منذ البدء ومن خلال مكونات العنونة، «تعاقد» معنا المخرج كمتفرجين، وبالضبط من خلال كلمة اللغز، انه لن يقدم أجوبة جاهزة ومانعة ونهائية، لكن والمفيد هنا قدم لنا قراءة خاصة به، لقراءات متعددة ومتنوعة لمن شارك في هذا الفيلم الوثائقي. هنا أستحضر ما قاله الناقد الفرنسي جاك روجي المتشبع بالقراءة التاريخانية، في مناظراته مع أهل البنيوية، في زمن بدايتها، حيث قال فيما معناه، كل قراءة ما، لعمل ما، هي في نهاية المطاف قراءة واحدة، ضمن العديد من القراءات الممكنة، بما فيها قراءة صاحب العمل الفني لمنتوجه الفني. نحو رؤية جمالية لفهم الفيلم قد يرد قارئ علينا من خلال هذه العنونة، وطبيعة المحكي في الفيلم، كمحكي مرهون بفضاء الجريمة والقتل والتصفيات الجسدية إلخ. صحيح هذا القول في جزء منه، لكن أو ليست المكونات الفنية الواردة في الفيلم، بمكونات جمالية ذات عمق فني؟. إن طبيعة وثنائية الأبيض والأسود، وطريقة موقعة صورة المهدي بن بركة في وسط الشاشة، وشكلها المنحرف المائل "كانحراف" قصته وميلانها بين العديد من المكونات المتداخلة في تصفيته الجسدية لاعتبارات متعددة، تم تفصيل القول فيها، ومن زوايا مغربية وعربية وأجنبية، وتحت لواء العديد من الجغرافية السياسية. هنا تم تقديم جغرافيات إعلامية وسياسية وثقافية مختلفة ومتنوعة، مما ضمن للفيلم الابتعاد عن السقوط في دائرة القول السياسوي، أليس في كل هذا الكلام المصحوب بتعبيرات فنية/موسيقية/لونية، تلك المتعة الجمالية/التاريخية، التي فتحت لنا نافذة الحياة وكيف كانت في مرحلة تاريخية مضت؟. محطات عديدة من الفيلم، تلمسنا فيها لغة الجمال، ونحن نبحث عن تفاصيل صغيرة جزئية مهمة لنا كباحثين في علم الاجتماع آو كباحثين في الانتربولوجيا أو التاريخ أو الأدب الخ، لأن الوثائق التي قدمت في شقها المتحرك(اجتماعات المهدي بن بركة، خطبه، شكل المغاربة والعرب والأجانب، وما كانوا يرتدونه من ألبسة، وطبيعة البيوت والتجهيزات الصوتية، والسيارات المستعملة الخ)، أو في شقها الثابت( الصور، بثنائية الأبيض والأسود، وشكل وألبسة الناس آنذاك)، أو الأمكنة/الفضاءات المغربية أو الجزائرية أو الفرنسية. هكذا من الممكن القول، إن فيلم "المهدي بن بركة.اللغز"، فيلم حقق جزءا مهما من إخصاب ذاكرتنا، وتنويرها وتطويرها ودفعها للبحث عن المزيد من تفكيك مكونات هذه المرحلة، التي لازالت بشكل أو بآخر ترخي بظلالها، على ما نعيشه وننتجه اليوم في المغرب وخارجه من مفاهيم سياسية متعددة. في قول الابن الباحث عن الحقيقة من مكونات الفيلم القوية، طبيعة وسفر الفيلم، من صور ثابتة بالأبيض والأسود والمتضمنة لمكونات آسرة المهدي بن بركة، بما فيها الابن المشارك في الفيلم بشكل متلهف يؤكد رغبته، بل تعطشه وقد بدأ رأسه يشتعل شيبا ، وهو المنتعش بنشوة الحياة صحبة أبيه وأمه وإخوته، في الصور/الوثيقة. كلما كان الابن يعتز بعطاءات أبيه السياسي والكاتب والمفكر والمناضل والمخطط لإستراتيجية تتميزبأبعاد متعددة ومتضمنة للمسات، مغربية/مغاربية/عربية/افريقية/عالم- ثالثية، كلما كانت تقلقه الأسئلة المدبة في جسمه . من قتل أبي؟ أين جثته؟ ولماذا؟ بل ولماذا كل هذه العراقيل والتأخيرات في الكشف عن ملف أبي؟ لصالح من؟ ومن وراءها؟. أسئلة كلما اشتد عودها، كلما كانت المسؤولية جد معقدة وصعبة على من كتب واخرج العمل. لأنه كان مطالبا لا أقول، لان يحسم فيها، ولكنه مطالب بتعميق البحث فيها ومن زوايا مختلفة ومتنوعة، بل هنا تم القبض على رؤية فنية إخراجية، تتعلق بالمعادلات السمعية البصرية، التي دون شك تم التفكير والإعداد الجيد لها. معادلات جعلتنا، بين الفينة والأخرى، وعلى الرغم من قسوة المرحلة وما تنهض عليه من رموز سياسية كانت ترعبني"أنا" شخصيا، المولود بعد فترة الاستقلال، بمجرد سماعها أو القراءة عنها. أسماء بدأت انسج رسومات تخييلية لها كمقابل في ذاكرتي، لا سيما حينما أقرأ عن بعض امتداداتها في مجال الأدب، خصوصا في مجال بعض الروايات المغربية المتعلقة بهذه الفترة، أو من خلال بعض الأفلام المغربية التي عالجت مرحلة ما أصبح يسمى في الأدبيات السياسية المغربية، بسنوات الجمر والرصاص. على الرغم، إذن، من نجومية الأب وعالميته وشهرته ومكانته الكبرى سواء داخل أو خارج أرض الوطن، ومن خلال تحليلي السيميولوجي لوجه الابن، اشعر برغبته العائلية والوجدانية والأبوية والإنسانية، في أن يعرف الإجابة عن الأسئلة الكبرى التي طرحها في الفيلم/الواقع. مما يجعلنا كمتفرجين، "نعلق" قراءتنا بشكل مؤقت للفيلم لنستحضر ونقارن شكل وفاة آبائنا، وانصهارنا بل وذوباننا في هذا الحق الإنساني المشروع، وهو حق تضمنه كل الديانات السماوية والقوانين سواء تلك التي تم استمدادها من هذه الديانات، أو تلك التي صاغها الفكر البشري وفق التراكامات القانونية. نحو استشراف للمستقبل بتوظيفات سيميولوجية، لزمن الختم، وأمكنته وموسيقاه الخ كل ذلك، يوحي لنا بضرورة أن نثق في المستقبل وما يمكن أن يجلبه لهذه القضية/الأسئلة من أجوبة تاريخية وسياسية يطالب بها اليوم العديد من المكونات المجتمعية المغربية وفق رؤية تصالحية مع الماضي، وليس وفق رؤية انتقامية. رؤية من الممكن أن تجلب لنا نحن كمغاربة وكمغاربيين وكعرب وكمسلمين وكأفارقة، بل وكبشرية جمعاء، الأمل في أن نبني المستقبل، بتعميق المزيد من الحقوق وبناء مجتمعاتنا وفق رؤية تساكنية، وتشاركية، وتعايشية، تسمح بخلق الأمل، والابتعاد عن دائرة الخوف، بل الارتماء في دائرة الحلم/الأمل بزمن أفضل وأرحب. على سبيل التركيب فيلم «المهدي بن بركة: اللغز»، بقعة ضوء/ أمل، من أجل أن نعرف جيدا طبيعة تحولاتنا وما ينتظرنا من أسئلة تنموية عميقة في عولمة لاترحم، بل في ظل عولمة موحشة ونتأكد من هذا القول حينما تتشابك العديد من القضايا التي كانت وحتى في ظل حياة المهدي، تشكل رهانات أساسية بالنسبة إليه وفي مقدمتها، ما تنتجه الليبرالية الأمريكية اليوم، من رؤى تقصي فيها الكيانات المحبة لاستقلالها ونخص بالذكر هنا شعب فلسطين، وما نسجه الاستعمار من «قوالب» جاهزة لمنع توحد وتقارب العديد من الجغرافيات المغاربية والعربية والإسلامية والإفريقية إلخ. هنا نسجل عمق الفيلم الوثائقي الذي ينم وينهض، صاحبه على رؤى/مشاريع، كلما تقربنا منها إلا ونشعر بأهمية ما ينسجه هذا المخرج، وما تعزفه قيتارته وريشته الفنية عبر فضاء الحكي بلغة الفيلم الوثائقي، كمعالجة خلاقة/فنية/إنسانية لقضايانا المولودة من ألم/أمل الواقع.