تكرست، منذ عقود، عادة توظيف نجوم الفن والرياضة كأيقونات ضمن الحملات الإشهارية التجارية. لكن الكتاب أصبحوا، هم أيضا، وجوها (أو بالأحرى توقيعات) يلهث بعض كبار المعلنين إلى استقطابها قصد ترويج أفضل لسلعهم، أو على الأقل لإضفاء صفة ثقافية على أنشطتهم التجارية. في عددها الورقي الصادر في 29 شتنبر الماضي (العدد: 806)، اهتمت الأسبوعية الفرنسية «ماريان» بسؤال «اشتغال» الكتاب في مجال الإشهار، ونشرت تحقيقا حول الموضوع وقعته الصحفية أنا طوبالوف، مستهلة إياه بالتأكيد على ارتفاع عدد الكتاب الذين أصبحوا يعيرون قلمهم أو صورتهم للماركات التجارية... ومنهم، في فرنسا، كتاب مرموقون من عيار الطاهر بنجلون ودافيد فوينكينوس وفيرونيك أوفالدي. يبدو «الشيء» الذي تصفه الصحفية، من بعيد، أنه كتاب. العنوان مثبت على الغلاف: «فن تلافي النفاذ»، واسم المؤلف في الصفحة الثالثة: «دافيد فوينكينوس». الرجل ليس نكرة في الحقل الأدبي الفرنسي، بل هو كاتب ناجح تعرف رواياته انتشارا واسعا، كما أنه كان مرشحا بقوة لحصد جائزة الغونكور في السنة الماضية، علما أن روايته «النعومة» تحولت إلى شريط سينمائي لم يعدم الجمهور على ضفاف السين. طوال صفحات «الشيء» الستة، يكتشف القراء قصة قصيرة عاطفية تقول إن «نفاذ كبسولات البن» سبب عاد لانفصال المرء عن زوجته. لكن، وبعد الانتهاء من القراءة وسحب الصفحات المتضمنة للنص والمصنوعة من الورق المقوى، يكتشف المرء ثلاث كبسولات بن مرتبة بعناية، تحمل علامة «نيسبريسو» التجارية! ها قد افتضحت،إذن، طبيعة «الشيء» الذي كان متصفحه يعتبره مجرد كتاب ورقي: «لقد صممت الشركة الكتاب على أساس كونه مخبأ مدهشا. ما عليك، في حالة نفاذ كبسولاتك، إلا استخراج مخزونك السري بلذة من خزانة كتبك!»، يكتب المعلن بحروف ذهبية اللون. وبما أن صاحبنا ليس مؤلفا من الدرجة الثالثة، بل ينشر ضمن إحدى أكثر سلاسل «غاليمار» جودة أدبيا، «السلسلة البيضاء»، فالسؤال المتولد عن الوضع جد مشروع: ماذا؟ كاتب يقوم بالإشهار لصالح شركة بن؟ بل إنه كفيل بخلق صدمة لدى قراء دافيد فوينكينوس. ومع ذلك، فالسلوك هذا بدأ يشيع، بل وأصبح يشكل آخر ابتكارات مصممي حملات الماركيتنغ. أما بين الفرق بين دافيد فوينكينوس والآخرين، فهو يكمن في طبيعة «البضاعة الإشهارية الأدبية» المعروضة. لقد جرت العادة، حين يقبل الكتاب «تأجير» أقلامهم لشركات، أن يفضلوا إعمال العقد عبر نشر كتاب يدسون فيه اسم الشركة، وأحيانا لائحة مزاياها. في لغة محترفي التسويق والترويج، يدعى هذا السلوك «استثمار المنتوج»، وهو جد منتشر في مجال السينما لدرجة لم يعد معها يثير انتباه (أو اشمئزاز أحد). لا بد، عند هذا الحد، من التنبيه إلى معطى مهم حتى لا يخال القارئ أن كل كاتب وظف اسم ماركة أو منتوج تجاريين في إبداعه «مرتزق» باع موهبته لمؤسسة إعلانية. إذ ثمة مؤلفون كثر، أجانب ومغاربة أيضا، يلجأون إلى ذكر هذا الاسم التجاري أو ذاك نظرا للضرورة الأدبية، وليس سعيا خلف دخل مالي إضافي. وهم أصلا لا يحصلون على مثل هذا التعويض، لا قانونيا (عن طريق عقد) ولا «تحت الطاولة. في الأصل... كان كتاب الدرجة الثانية لقد انطلقت قصة المزج بين الكتابة الروائية والخدمات الإشهارية مع كتاب ظلوا يعتبرون من كتاب «الدرجات الدنيا»، من حيث القيمة الإبداعية والجمالية والفنية لمؤلفاتهم، من طرف النقد والنقاد ومختلف مكونات الوسط الأدبي. كتاب كان يهمهم فقط الانتشار «الشعبي» لمطبوعاتهم وتحسين دخلهم الشهري، دون أن يؤرقهم سؤال تمريغ الوضع الاعتباري للكاتب في التراب، أو يقلقهم تهشيم قيمته الرمزية لدى المجتمع. في ثمانينيات القرن الماضي، تشرح أنا طوبالوف، وعلى مرأى ومسمع كل باريس الثقافي والأدبي، كان بول-لو سوليتز، الروائي الشعبي المتخلص من كل ادعاء أدبي، يفتخر بكونه «ابتز» من صانع المشروبات الروحية الشهير «مارتيني» 80 ألف فرنك مقابل إدماج اسم مشروبه ثلاث مرات في عمله «الملك الأخضر». أما الفرنسي الآخر، جيرار دو فيليي، صاحب سلسلة «إس. أ. إس» البوليسية ذات المنحى الإيروتيكي، والشهيرة بقوام نساء أغلفتها الحاملات للسلاح، فلم يتستر إطلاقا على كون العقود الإشهارية جلبت له ما لا يقل على مليون فرنك. بل إن عنوان السلسلة ذاته يشير إلى شركة نقل جوي سويدية «إسكندنافيان أيرلاينز سيستم»، وهي الشركة التي كانت الروايات تزخر بمدح أطباقها ومضيفاتها وخدماتها... ومثلما يحدث في كل المجالات في عالمنا المعاصر المعولم وذي القطب الواحد الأحد، فإن منعطف استقطاب كتاب «محترمين» إلى دائرة تقديم الخدمات الإشهارية تولد في الولاياتالمتحدةالأمريكية في بداية سنوات 2000. أيامها، لم يتردد كتاب ذو قيمة أدبية سامية، يحظون بشهرة عالمية، في توقيع كتاب من جنس أدبي جديد، الجنس»التخييلي-الإشهاري» وفق التسمية التي أضفاها عليه النقد الأمريكي عبر المزج بين كلمتي «تخييل» و»إشهار». ويتعلق الأمر، بكل بساطة، بمورديكاي ريشلر، المتوفى في 2001، ودون دو ليلو وجون إيرفينغ، أصحاب الجوائز الأدبية العالمية، الذين ساهموا في مجموعة قصصية مشتركة مولتها إحدى شركات مشروب الفودكا. عقود الثلاثة مع الشركة الراعية كانت متشابهة: المبدع حر في اختيار موضوع كتابته، مع إلزامية ذكر اسم المشروب في المتن القصصي... وتقديمه إيجابيا. عقود لا غبار عليها إذن، إذ تعني حرية المؤلف، ضمنيا، عدم الحديث إطلاقا عن رجل مدمن على الفودكا يعنف زوجته، بل السفر عبر العالم مع شخصيات مهمة تتلذذ بالطعم الاستثنائي للمشروب الروحي في كل فج عكيق من العالم. الطاهر بنجلون... وكتاب فرنسيون مرموقون انتقلت العدوى إلى فرنسا في نهاية عقد 2000، وترسخت اليوم في تقاليد عشيرة الكتاب، تضيف الصحفية. لكنهم يفضلون التستر عليها وعدم التعرض لها بشكل علني. ولهذا السبب، بكل تأكيد، رفض دافيد فوينكينوس الرد على أسئلة مجلة «ماريان». مثله مثل الروائية فيرونيك أوفالدي الحائزة على عدة جوائز أدبية فرنسية وصاحبة الروايات التي ترجمت إلى العديد من اللغات الأوربية وغير الأوربية. أجل، ففي شهر يناير الماضي، وقعت صاحبتنا قصة طويلة وسمتها ب «تمتعوا»، وذلك في إطار اتفاق بين ناشرها (ألبان ميشيل) و... رونو، شركة السيارات الفرنسية الشهيرة. وتبعا للاتفاق، فالكاتبة التزمت أن يتضمن نصها السردي، المتمحور حول تيمة التفاؤل، صراحة كلمة «توينغو»، إحدى سيارات رونو. وبالمقابل، تعهدت المؤسسة الصناعية باقتناء 250 ألف نسخة من العمل مسبقا، وتوزيعها مجانا كهدية مع أحد أعداد المجلة النسائية «إيل». فعلا، إن الدعم المادي المقدم من الشركة لدار النشر والكاتبة غير مباشر، لكنه كبير، علما أن الناشر والمؤلفة يحصلان على نسبة من مداخيل المبيعات. وإذا كانت نسخة القصة الموزعة مع المجلة تحمل اسم السيارة وصورة لها، فإن الطبعات الأخرى خالية من ذلك تماما باستثناء الإشارة مرة واحدة لاسم السيارة ضمن القصة. «لم تلزمنا منا رونو بأي شيء يتعلق بالمضمون غير ذكر اسم السيارة (توينغو) مرة واحدة، يصرح الناشر. لو فرضت علينا الشركة تبيان إيجابيات سيارتها، لكنا رفضنا العرض.» أجل، تؤكد صحفية ماريان التي قرأت القصة الطويلة، النص لا يتضمن إشهارا مباشرا للسيارة. لكنها تلاحظ أن الشركة دأبت على تسويق سيارتها هذه اعتمادا على كونها سيارة ذات طابع فرح. بينما بطلة القصة، روز، تجسيد حي، رغم أنها شخصية متخيلة، للفرح، وهي تقتني، بمجرد حصوله على رخصة السياقة، سيارة من نوع... توينغو «لأنها الأكثر تلاؤما مع نمط تفكيرها»! هل بقيت ثمة حاجة لفك شفرة الرسالة: روز فرحة بالسليقة وتوينغو فرحة أيضا! وبالإضافة إلى «أورو ديزني» وشركة الرهانات الفرنسية اللتين تعاقدتا أيضا مع دور نشر لاحتضان مؤلفات معينة تشير إليهما، فإن الفنادق الراقية دخلت، هي الأخرى، على خط «التخييل- الإشهاري». في 2009، أطلقت فنادق صوفيتيل مبادرة «محطات أدبية». وتتلخص المبادرة هذه في استضافة أحد فنادق السلسلة لكاتب مدة أسبوع، شرط أن يكتب قصة تنشرها الشركة الأم على موقعها في الإنترنيت. وحسب الشركة، فإنه لا يطلب أبدا من المؤلفين الكتابة عن الفندق الذي استضافهم، بل فقط حول الوجهة التي سافروا إليها. ورغم ذلك، فبعض الكتاب أشاروا بتلقائية إلى المؤسسة الفندقية، يضيف ذات المصدر. الصحفية أنا طوبالوف تكتب، في تحقيقها، أن بعض الكتاب بالغوا في مدح صوفيتيل وفنادقها. ومنهم، تضيف، الطاهر بنجلون الذي وصف فندق السلسلة بأمستردام بكونه «لا ينقصه شيء» وأثنى على المستخدمين والغرفة حيث أقام وحمامها. ولقد سلكت المنحى ذاته الكاتبة كاثرين أونجولي بمناسبة استضافتها في روما، ومعها غونزاغ سان بري الذي خصص فقرة كاملة، لا أقل ولا أكثر، لوصف أوطيل فاس واسما إياها بالقصر. على سبيل الختم مبتكر فكرة إقامات الكتاب في فنادق سلسلة صوفيتيل، الكاتب دوني لابايل يعتقد، بشكل راسخ، أن «التخييل- الإشهاري» هو منقذ الكتاب الورقي من الانكماش والتراجع الناخرين لانتشاره: «أصبحت مبيعات الكتب تعرف تراجعا متزايدا ووسائل الإعلام لم تعد تنشر القصص. لكسب عيشهم، وبالأساس من أجل اللقاء بالقراء، يحتاج الكتاب إلى إيجاد قنوات جديدة. إن مبادرات أخرى من قبيل مبادرتنا ستنمو بكل تأكيد.» وإذا كانت الصحفية أنا طوبالوف تعتقد أن زواج المصلحة بين الكتابة والإشهار سيخدش صورة الأدب بدون شك، فإن بعض الأصوات تدعو إلى تعدد مثل هذه الشراكات للحفاظ للكتاب الورقي على انتشاره، شرط أن لا يتحكم «التاجر» في إبداع «ضيفه». وبعيدا عن أي حكم أخلاقي مسبق، ألا يمكن اعتبار هذا المنحى أفقا للنقاش في مغرب لا يعاني فحسب من انحسار القراءة أو تراجعها، بل من انقراضها بكل المعايير؟