صدر ضمن السلسة الفكرية لمنشورات مركز الدراسات و الأبحاث الإنسانية - مدى، كتاب جديد تحت عنوان «رهانات الثقافة في الفضاء المتوسطي»، للباحث يوسف بن الغياثية. فالكتاب يندرج في إطار محاولة إيجاد صيغ جديدة لفرص التعاون و الشراكة بين مكونات الحوض المتوسطي، داخل مناخ إقليمي و دولي يتسم بأزمات خطيرة جدا، تهدد كلا من الأمن و الاستقرار بأنواعه في الشمال كما في الجنوب، و واقع الحال هو الذي دفع نحو تعاظم أهمية البحر المتوسط الاستراتيجية و الثقافية و الحضارية. فالفضاء المتوسطي يعتبره مؤرخ البحر الأبيض المتوسط، و مدرسة الحوليات الفرنسية فرناند بروديل هو: «الجمع بصيغة الفرد، إنه ليس فضاءا واحدا، بل فضاءات متعددة، ليس مجرد بحر بل تعاقب بحار، ليس حضارة واحدة بل تراكم حضارات، أن ترحل في البحر الأبيض المتوسط، يعني أن تجد العالم الروماني بلبنان، و ما قبل التاريخ بسردينيا، و المدن الإغريقية بصقلية، و الوجود العربي الإسلامي بالأندلس، و الإسلام التركي بيوغسلافيا، يعني أن تسبح في أعماق قرون خلت حتى البناء الحجري لمالطا أو أهرامات مصر، و أن تصادف الأشياء القديمة و الحياة تسري في كيانها إلى جانب كل ما هو جديد». لهذا يعد المتوسط من أهم المناطق العالمية التي يزخر تاريخها بالمحافل و الأحداث المفصلية في تاريخ الإنسانية، و يكفي أن نذكر أنه المزار السياحي الأول في العالم، سواء كانت هذه السياحة ثقافية أو دينية بالخصوص. و من هنا يأتي سياق حديث الكتاب عن الدين و أهميته في هذه المنطقة الجغرافية من العالم، و ما لها من امتدادات سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية. إذن فالثقافة مدخل أساسي في الحضور المتوسطي، و هي عامل مؤثر في مستقبله. يبحث الكتاب موضوع العلاقات الأورومتوسطية التي تعيش بين إشكالية العوائق الثقافية، و الرهانات المطروحة عليها في محيطها الإقليمي و الدولي الإنساني. فكثيرا ما بحثت المشاكل الاقتصادية الكبيرة، و كثيرا ما بحثت التحديات الخطيرة التي تواجه المنطقة و العالم، و كثيرا ما تشاور الفاعلون و بحثوا الإشكاليات السياسية العالقة سواء أكانت بينية أم كانت بين أطراف متعددة من الضفتين. و حيث إن الموضوع الثقافي لم يرق بحثه إلى الحجم الذي يشكله في الخريطة الواعية و اللاواعية لإنسان الضفتين الشمالية و الجنوبية، فإن الباحث حاول أن يبحث في الإشكاليات المركزية التي يطرحها الكتاب من خلال الأبواب التالية. فباب: «القيم المتوسطية بين إشكالية الهوية و عقدة المركزية»، يحتوي أربعة فصول تتوزع مواضيعها على حضور الثقافة و غيابها عن الشراكة الأورومتوسطية، بالمفهوم المطبق للسياسة الثقافية في المتوسط سواء بالنسبة لأوربا، أو لضفة الجنوب في مجالات متعددة، منها الدين و اللسان و العلاقة مع الآخر و غيرها من المجالات الأخرى. كما تناول في الفصل الثالث من هذا الباب فلسفة برشلونة من الزاوية الثقافية، فضلا عن آليات أخرى تتوسل بها المنظومة بهذا الخصوص، أما الفصل الرابع فقد ركز فيه الباحث على الإشكالية الدينية بالحوض المتوسطي، حيث استعرض بعض المحطات التاريخية الأساسية التي قد يجد فيها الكيان المتوسطي بعضا من جذوره، إلى أن وصل إلى ابتكار الحداثة الأوربية، مرورا بالصراع الديني بين الكاثوليك و البروتستانت. أما الباب الأخير فقد خصصه الباحث يوسف بن الغياثية لدراسة عميقة لبعض نماذج أزمات تبدو عابرة لكنها تتأسس على جذور بنيوية، حيث تناول في فصوله الخمسة نماذج عدة أزمات أهمها: الأزمة سياسية المتمثلة في رفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي، و خصص لهذه الأزمة فصلين (الثالث و الرابع)، ثم تطرق إلى ما أسماه الأزمة الفنية و هي أزمة الرسوم الكاريكاتورية التي نشرت في الدانمارك، و ما طرحته من إشكالية تتعلق بحدود حرية التعبير، و احترام الأديان و ازدراءها. أما الفصل الخامس و الأخير فقد تناول فيه الأزمة الدينية و تمثلت في محاضرة البابا بيندكتوس السادس عشر في إحدى الجامعات الألمانية. اتبع الباحث يوسف بن الغياثية في الكتاب منهجا يتنوع فيه التاريخي، الذي يحاول استحضار الماضي في فهم بعض العوامل التي تتسبب في هذا المسار أو ذاك، مركزا على انتقائية هذه العناصر بما يخدم عناصر البحث حتى تتكامل جوانبها. و فيما يتعلق بأهمية الموضوع فقد تبين أن المتوسط يحظى بأهمية استراتيجية منذ القدم، إلا أن هذه الأهمية تزداد كل يوم و تتعاظم، مما يجعلنا أمام منطقة لم تفقد تميزها و بريقها بل إن الضفة الجنوبية هي الأخرى من المتوسط استقطبت الاهتمام في الآونة الأخيرة، بعد تفكك بعض أنظمتها الديكتاتورية بسقوط رؤسائها لكن لا تزال تعاني من بقاء الديكتاتورية كبنية سائدة، فضلا عن أن الديكتاتورية الثقافية لم تتفكك بعد، و هو ما يضع الباحث في مفترق طرق في التحليل و استقراء ما حدث. فالإصلاح الحقيقي و إن بدا سياسي الهوى في كثير من المطالب الشعبية و مطالب الفاعلين السياسيين و الحقوقيين، إلا أن المثقفين و الباحثين أولى بهذا الإصلاح من غيرهم، إذ بدون إصلاح ثقافي أي بتجاوز البنية القائمة لا يمكن أن ينجح الإصلاح، و من ثم يصعب مخاطبة الآخرين من الأمم الأخرى، و من باب أولى الضفة الشمالية من المتوسط، و هو رهان يصعب تحقيقه في ظل البنية الثقافية الحالية. من هنا تأتي أهمية هذه الدراسة التي أراد من خلالها الباحث يوسف بن الغياثية أن يبحث عن العوائق الثقافية للعلاقات الأورومتوسطية و رهانات الشراكة، خاصة أن منطقة المتوسط مدعوة إلى مزيد من التفتح و الابتكار و الاندماج في الوسط العالمي، بكل ثقة في النفس و دون الخوف من الهويات الواسعة، أما الهويات الضيقة فهي تشكل حجر عثرة أمام تطور الفضاء المتوسطي. إن الكتاب الذي قمنا بتقديمه يبرز هذا الزخم الحضاري و الثقافي للبحر الأبيض المتوسط و هو ما يجعل النبش في تفاصيله و رصد مكوناته، هاجسا معرفيا يستحق أن تلتف حوله كوكبة من الباحثين من حقول معرفية مختلفة، و من مجالات اهتمام متنوعة للاشتغال على قضاياه و أسئلته التي تتمحور في كيفية الانتقال من علاقة شرق غرب إلى علاقات شمال جنوب، و مستويات التفاعل و المثاقفة داخله، و التفاوت و التكامل بين ضفتيه، و دور الهجرة في فعل المثاقفة، و القراءات الممكنة ثقافيا لفهم أعمق لعناصر الإعاقة التي وسمت ضفته الجنوبية.