بعد أنْ علمتْ عائشة بخبر زواج الرسول من أمّ حبيبة قالتْ لسودة: - هل تعرفين أمّ حبيبة هذه؟ - كنتُ قد التقيتها في مكة، وأعرف أنها هاجرت إلى الحبشة هربا من بطش والدها أبي سفيان. وفي رأيي أن الرسول سيتزوّجها من أجل أن يُرضخ ويُطيع أبا سفيان. وهي طريقة لكيْ يؤكد ويحافظ على معاهدة الصلح وعدم اللجوء إلى العنف بين المدينة وقريش. غيْر أن عائشة قالتْ مع ذلك: - إنّ الهوّة تُحفر وتزداد داخل الحريم النبويّ. وسوف تريْن يا سودة بأنّ حفصة وأنا وأنت سنظلّ بمثابة الأسيرات المتضامنات. أمامنا حلف الخيام الكبيرة، وسوف يناضلْن ويتنافسن من أجل الحصول على مكانة الزوجة المفضّلة. فإلى أيّ من الحلفيْن ستنتمي أمّ حبيبة؟ أجابتها سودة بنت زمعة قائلة: - إنها امرأة من بني أمية، وذات ثقافة عالية، وبالتالي فإنها لنْ تتخندق في أيّ حلف، ولنْ تتصرف بمنطق الدسائس والحيل. غير أن عائشة قالتْ بحزم: - لن أثق بهذا الكلام. ثم خرجتْ منصرفة إلى بيتها شاردة الذّهن وهي تتخيّل ألف مكيدة ومكيدة. كانتْ قد مرّت سبعة أسابيع على انقضاء شهر محرّم، ويعود أحد الفرسان لإعلان انتصار المسلمين على يهود خيْبر. وكانتْ زوجات الرسول في الحريم عندما سمعْن الخبر السعيد الذي ينتشر عبر أزقّة المدينة. فبعد أن نقض اليهود العهد مع المسلمين في معركة الخندق، وعاقبهم محمّد في غزوة بني قريظة، وتم طردهم خارج المدينة اتجة أغلبهم إلى خيبر. وأصبحت خيبر المكان الرئيسي لإقامة الأحلاف العسكرية مع أعدائه. فقد عقدوا حلفاً مع غطفان لتكوين جبهة موحدة ضد المسلمين. وبعد أن فَرغ محمد من صلح الحديبية، أراد أن يوقف اليهود، فاستنفر المسلمينَ لغزو خيبر في محرم من السنة السابعة، وجهّز جيشاً كبيرا، بينهم مائتا فارس، بقيادته، وقطعوا ثلاثة أيام ووصلوها ليلا. وقد أمر النبى بقطع النخيل المحيط بحصن النطاة، لأن كثرته تحول دون تحركات القوات العسكرية، فخرج اليهود للقائهم واستماتوا في الدفاع عن حصونهم. وبعد أن استطاع المسلمين إسقاط أول حصن وكان يسمى حصن «ناعم»، بدأت الحصون تنهار واحداً تلو الآخر، حتّى لم يتبقّ منها سوى حصنيْ الوطيح والسَّلالم، فحاصرهما المسلمون أربعة عشر يوماً فلم يروا غير الاستسلام. لم يكن بين رسول الله وبين يهود خيبرٍ عهد، بخلاف بني قنيقاع والنضير وقريضة، فقد كان بينه وبينهم عهد، ومعنى ذلك أنّ النبيّ توجَّه إليهم ليدعوهم إلى الإسلام، أو قبول الجزية، أو الحرب، فلمَّا لم يسلموا ولم يقبلوا الجزية حاربهم وانتصر عليْهم. وكان من نصيب الرسول في الغنائم صفيّة بنت حيّي1. قالت سودة لعائشة التي لمْ تكد تصدق الخبر: - يُقال إن صفية وقعتْ في سهمه فلمْ يتردد في الزواج منه2، كما وقعتْ في سهمه أخت لها فوهبها لدحيّة بن خليفة الكلبي. وكان محمد حين صارت صفية وأختها إليه أرسل معهما بلالا. فمرّ بهما على قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي مع صفية صاحت وصكّت وجهها وحثت التراب على رأسها، فلما رآها النبي قال: أغربوا عني هذه الشيطانة! ثم قال لبلال أنزعت من الرحمة يا بلال حيث تمر بإمرأتين على قتلى رجالهما! - ولما وصل الرسُول إلى المدينة، أنزل صفية بيتا من بيوت الأنصار، فجاءتْ بعض نساء الأنصار ينظرن إليها، وانتقبت عائشة غلالة عنها، وجاءت فنظرت، فعرفها الرسول زوجها، فلما خرجت، تبعها فقال لها متسائلا: - كيف رأيتها يا عائشة ؟ - فأجابته قائلة: - رأيتها يهودية بنت يهوديين ، فقال : - لا تقولي هَذَا يا عائشة ، فإنها قد حسن إسلامها ، وقالت زينب لجويرية: - ما أرى هَذِه الجارية إلا ستغلبنا عَلَى رَسُول، فقالت جويرية : - كلا ، إنها من نساء قلما يحظين عَند الأزواج. وحدث أنْ جرى بينها وبين عائشة ذات يوم كلام متوتر وصراخ، فعيرتها باليهودية، وفخرت عليها ، فشكت ذلك إلى الرَسُول، فقال : - «ألا قلت: أبي هارون ، وعمي موسى ، وزوجي مُحَمَّد ، فهل فيكن مثلي ؟ ». غدا: حرْب النساء داخل الحريم النبويّ هوامش: 1 - نقرأ في حديث مرفوع للبخاري ما يلي: «حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سعد ، عَن عيسى بن عبد الرحمن الْأَنْصَارِيّ ، عَن عبد الله بن أبي بكر ، قَالَ : « كَانَ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صفي من المغنم ، حضر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو غاب ، قبل الخمس : عبد ، أو أمة ، أو سيف، أو درع ، فأخذ يوم بدر : ذا الفقار ، ويوم بني قينقاع : درعا ، وَفِي غزاة ذات الرقاع : جارية ، وَفِي المريسيع : عبدا أسود ، يقال لَهُ : رباح ، ويوم بني قريظة : ريحانة بنت شمعون بن زيد ، ويوم خيبر : صفية بنت حيي بن أخطب ». (المترجم) 2 - يذكر رواة السيرة النبوية أن صفية كانت جميلة وأنها كانت قريبة من عائشة وإلى فاطمة الزهراء بنت الرسول، وحين كانت إحدى زوجات الرسول تفاخر بأصلها وبالقرابة من الرسول، كان يقول لها :»قولى كيف تكونين أكرم منى وزوجى محمد، وأبى هارون، وعمي موسى»!. وظلت صفية على صلة باليهود دون حرج حرصا منها على صلة الرحم، وعاشت بعد الرسول معززة مكرمة كسائر أمهات المؤمنين.. وعندما حوصر الخليفة عثمان بن عفان حاولت إبعاد الثائرين عليه الذين منعوا عنه الطعام والشراب تمهيدا لقتله، كانت تنقل إلى دار عثمان الماء والطعام عن طريق جسر بين دارها وداره. (المترجم).