كما النهر الذي يجري / محكيات 1998 ذ 2005 مجموعة نصوص قصيرة ( 101) نشرها باولو كويلهو ما بين 1998 و2005، وهو يفتح لنا من خلالها أبواب عوالمه ككاتب؛ إنها مقطوعات قصيرة جدا من الحياة اليومية ومن نصوص حكاها له آخرون، وأعطاها هو بُعد حكايات فلسفية أو بيداغوجية بالغة الأهمية لمن يرغبون في العيش في تناغم مع العالم المحيط بهم. ونحن نقترح ترجمة لبعض هذه النصوص، اعتمادا على الترجمة الفرنسية التي أجزتها فوانسواز مارشان سوفاغنارغ، ضمن منشورات فلاماريون، باريس، 2006. أرتدي زيا غريبا الشكل، لونه أخضر مليء بأغلاق لها مزلقات و ثوبه خشن. أضع قفازتين لتجنب الجراح. أمسك بيدي ما يشبه حربة، تكاد تكون بطول قامتي: لطرفها الحديدي شوكة ثلاثية، من جهة، وسن مشحوذ من الجهة الأخرى. أمام عيني، ما سيتعرض للهجوم بعد لحظة: حديقتي. أشرع، بالأداة التي أمسكها بيدي، في اقتلاع العشبة الضارة التي امتزجت بالأرض المعشبة. فعلت ذلك لمدة، وأنا أدرك أن العشبة التي أقتلعها من الأرض ستموت خلال اليومين القادمين. أتساءل فجأة: هل أتصرف تصرفا حسنا؟ إن ما أُسميه « عشبة ضارة «، هو في الحقيقة محاولة للبقاء يقوم بها جنس معين، قضت الطبيعة ملايين السنين لولادته وجعله ينمو. فالوردة أخصبت بفضل عمل عدد لا يحصى من الحشرات، أصبحت حبة، نثرتها الرياح في كل الحقول المجاورة، وبذلك – مزروعة في عدة جهات وليس في مكان واحد – توفرت لها حظوظ أكثر للعيش حتى الربيع القادم. لو بقيت بمكان واحد، لهددتها الحيوانات آكلة العشب، فيضان أو حريق أو جفاف. إلا أن مجهود البقاء هذا، يصطدم الآن بسن حربة تقتلعه من الأرض دون أدنى شفقة. لماذا أفعل ذلك؟ لقد خلق شخصٌ ما الحديقة. لا أعرف من يكون، فحين اشتريتُ المنزل، كانت الحديقة موجودة هنا سلفا، في تناغم مع الجبال والأشجار المحيطة بها. إلا أن خالقها قد فكر طويلا فيما سيفعله، أن يزرع بكثير من العناية والجاهزية ( هناك صف جنبات يخفي الكوخ الذي نودع به الخشب )، ويهتم بها خلال فصول شتاء وربيع عديدة. حين سلمني المطحنة القديمة- حيث أقضي بعض الشهور سنويا – كانت الأرض المعشبة رائعة. والآن، جاء دوري أنا لجعل عمله يستمر، علما بأن السؤال الفلسفي يظل هو: هل ينبغي أن أحترم عمل الخالق، عمل البستاني، أم علي قبول غريزة البقاء التي حَبَت بها الطبيعة هذه النبتة، التي يدعونها اليوم « نبتة ضارة «؟ أواصل اقتلاع النباتات غير المرغوب فيها، واصنع منها كومة ستُحرق بعد قليل. من الوارد أنني أفكر كثيرا في مواضيع لا تتطلب تفكيرا، بل أفعالا. مع ذلك، فكل واحدة من حركات الكائن البشري مقدسة ومليئة بالتبعات، ما يدفعني إلى التفكير أكثر فيما أقوم به. من جهة، يحق لهذه النباتات أن تنتشر في كل الجهات. ومن جهة أخرى، إذا لم اُتلفها الآن، فإنها ستخنق الأرض المعشبة في النهاية. إن يسوع يتحدث ، في العهد الجديد، عن اقتلاع الزوان حتى لا يختلط بالحبة الصالحة. إلا أنني – بدعم من التوراة أو دونه – أُواجه المشكل الملموس الذي واجهته الإنسانية دائما: إلى أي حد يمكن التدخل في الطبيعة؟ هل يكون هذا التدخل سلبيا دائما، أم أنه يكون إيجابيا أحيانا؟ أدع السلاح جانبا – وهو يُعرَف أيضا باسم المعزقة. كل ضربة تعني نهاية حياة، تعني لاوجود وردة كانت ستتفتح خلال الربيع، تعني غطرسة الكائن البشري الذي يريد تعديل المنظر الطبيعي حوله. علي بالتفكير أكثر، لأنني أمارس اللحظة سلطة حياة أو موت. تبدو الأرض المعشبة وكأنها تقول: « احمني، ستدمرني تلك النبتة». العشب هو الآخر يكلمني: « لقد أتيت من بعيد للوصول إلى حديقتك، لماذا تريد قتلي؟ ״" ما أنقذني، في النهاية، هو النص الأصلي لبهاغافاد-غيتا. أتذكر رد كريشنا على المحارب أرجينا، حين أصيب الأخير بالإحباط قبل معركة حاسمة، وألقى بأسلحته أرضا ثم قال بأنه ليس من العدل أن يشارك في معركة ستنتهي بقتل أخيه. رد كريشنا بما يلي تقريبا: « أ تعتقد أن بإمكان قتل شخص ما؟ يدك يدي، وكل ما تفعله كُتب سلفا. لا أحد يقتل ولا أحد يموت ״. متشجعا بهذه الذكرى المفاجئة، أمسك الرمحة من جديد، أهاجم النبتات التي لم توجه لها دعوة النمو في حديقتي، واحتفظ بالدرس الوحيد لهذا الصباح: حين ينمو شيء غير مرغوب فيه في روحي، أُصلي للرب كي يمنحني بالمثل شجاعة اقتلاعه دون رحمة. درب الرمي بالقوس من المهم تكرار: الفعل فكرة تتجلى. إن حركة بسيطة تشي بنا، بحيث يكون علينا إتقان ما نفعله، التفكير في التفاصيل، تعلم التقنية على نحو يجعلها حدسية، و لا علاقة للحدس بالروتين؛ إنه يتعلق بحالة ذهنية تتجاوز التقنية. بذلك، وبعدما مارسنا كثيرا، فإننا لم نعد نفكر أبدا في الحركات الضرورية: أصبحت جزء من وجودنا. لكن، لبلوغ ذلك، علينا أن نتدرب، أن نكرر. وكما لو أن ذلك لم يكن كافيا، ينبغي أن نكرر وأن نتدرب. لنتتبع حدادا يشتغل على الحديد. فهو، بالنسبة للعين غير المدربة، يكرر نفس ضربات المطرقة. إلا أن المُدرك لأهمية التدريب، يعرف أنه كلما رفع الحداد المطرقة وأنزلها من جديد، كلما كانت حدة الضربة مختلفة. فاليد تكرر الحركة نفسها، إلا أنها تدرك، كلما اقتربت من الحديد، إذا ما كان عليها أن تلمسه بشدة أكثر أم برقة أكثر. لنتتبع المطحنة. إنها تبدو، لمن يرى أجنحتها مرة واحدة، وكأنها تدور بالسرعة نفسها، تكرر الحركة نفسها باستمرار. إلا أن العارف بالمطاحن، يعلم أنها تخضع للرياح وتغير الاتجاه كلما كان ذلك ضروري. إن يد الحداد قد تهذبت بعدما كررت حركة الطرق آلاف المرات. وبإمكان أجنحة المطحنة أن تتحرك بسرعة، بعد أن تكون الرياح قد هبت كثيرا وبعد أن تكون تشبيكات أسنانها قد صُقلت. يقبل النبال مرور العديد من السهام بعيدا عن الهدف، لأنه يعرف أنه لن يُدرك أهمية القوس، الموقع، الوتر والهدف إلا بعد أن يكون قد كرر حركاته آلاف المرات، دون خوف من أن يخطئ. بعد ذلك، تأتي اللحظة التي لن يكون خلالها في حاجة للتفكير فيما هو بصدد القيام به. عندها يصبح النبالُ قوسَه، سهمه وهدفه. كيف نلاحظ تحليق السهم: السهم هو النية التي تنسقط في الفضاء. بعد إطلاق السهم، لا يستطيع النبال فعل أي شيء، سوى مرافقة مسار السهم باتجاه الهدف. إنطلاقا من هذه اللحظة، لم يعد للتوتر، الضروري عند الإطلاق، أي مبرر للوجود. عندها، يُبقي النبال على عينيه محدقتيبن في طيران السهم ، إلا أن قلبه يكون مطمئنا، فيبتسم. في هاته اللحظة، يكون النبال قد تدرب بما فيه الكفاية، لقد تمكن من تطوير غريزته، حافظ على أناقته وتركيزه طيلة صيرورة الإطلاق كلها، سيحس حضور الكون وسيرى أن فعله كان صائبا ولائقا. بفضل التقنية، تكون يدا النبال مستعدتين، تنفسه دقيقا، عيناه قادرتين على التحديق في الهدف. و بفضل الغريزة ستكون لحظة إطلاق السهم رائعة. إن من يمر قرب المكان ويرى يدي النبال مبعدتين، عينيه تتبعان السهم، سيعتقد أن النبال أصيب بالشلل. إلا أن الحلفاء يعلمون أن ذهن الشخص الذي أطلق يوجد في بُعد آخر، أنه الآن على اتصال بالكون: يواصل العمل، يتعلم كل ما تحمله هذه الطلقة من إيجابيات، يصحح أخطاءه المحتملة، يتقبل قدراته، ينتظر أن يرى كيف يتصرف الهدف حين يصيبه السهم. حين يشد النبال الوتر، تتسنى له رؤية العالم كله في قوسه. حين يرافق طيران السهم، يقترب منه العالم كله، يداعبه ويحصل لديه الإحساس الرائع بتأدية الواجب. بمجرد أن يؤدي واجبه ويحول نيته إلى حركة، لا يكون لفارس النور ما يخشاه: لقد فعل ما كان عليه فعله. لم يسمح للخوف أن يُصيبه بالشلل – حتى لو أخطأ السهم هدفه، ستكون لديه فرصة أخرى، لأنه لم يتصرف بنذالة. كان الطفل الصغير ينظر إلى جده الذي كان بصدد كتابة رسالة. في لحظة ما سأل الطفلُ جده: « هل تكتب قصة حدثت لنا؟ ألا تكون بالصدفة قصة حولي؟» توقف الجد عن الكتابة، ابتسم ثم قال لحفيده: ״ أكتب حولك، هذا صحيح. إلا أن قلم الرصاص الذي استعمله أهم من الكلمات. أتمنى أن تكون مثله حين تكبر״. نظر الصغير، محتارا، إلى قلم الرصاص، فلم يلاحظ أي شيء خاص. ״ لكنه شبيه بكل أقلام الرصاص التي شاهدتها خلال حياتي! ״ يتوقف كل شيء على الطريقة التي تنظر بها إلى الأمور. إن فيه خمس خاصيات ستجعل منك شخصا في وئام مع العالم، إذا تمكنت من رؤيتها. ״ الخاصية الأولى: بإمكانك القيام بأشياء مهمة. لكن، عليك أن لا تنسى وجود يد تقود خطواتك. هذه اليد نسميها الرب، الذي عليه أن يقودك نحو مشيئته. ״ الخاصية الثانية: علي أن أتوقف عن الكتابة بين الفينة والأخرى،و أن استخدم المنجرة. يتألم قلم الرصاص بعض الشيء، لكنه يصبح مسنونا أفضل في النهاية. تعلم، بالتالي، تحمل بعض الآلام، لأنها ستصنع منك شخصا أفضل. ״ ״ الخاصية الثالثة: يسمح لنا قلم الرصاص دائما باستخدام الممحاة لمحو أخطائنا. عليك أن تفهم بأن تصحيح عمل قمنا به لا يكون سيئا بالضرورة، بل هو مهم لجعلنا نواصل السير في درب العدل. ״ الخاصية الرابعة: المهم، فعلا، في قلم الرصاص، ليس الخشب أو الشكل الخارجي، بل الغرافيت الموجود بداخله. اعتني دائما، و بالمقابل، بما يجري بداخلك. ״ أخيرا، خاصية قلم الرصاص الخامسة: إنه يترك دائما أمارة. إعلم أيضا أن كل ما تقوم به في الحياة سيترك آثارا، واجتهد لتكون واعيا بكل أفعالك״.